اعتدنا تصيّدَ ابتساماتهم وتَأمُل أقدامهم تضربُ الأرض بخفّة، تماماً كما كانت تفعل الكاميرات على مسرحي تدمر وبصرى وغيرهما في مختلف المحافظات، حتى أن اسمهم كان معادلاً للأداء المُتقن والاستعراض المتكامل، هؤلاء أعضاء "فرقة أميّة للفنون الشعبية"، راقصون وموسيقيون وفنيون، يصعب اختصار تاريخهم في أسطر أو انطباعات، والأكثر صعوبة ما آلت إليه حال الفرقة التي نقلت تراثنا إلى الجمهور العربي والعالمي، ومقرها اليوم "قبو" المركز الثقافي في العدوي
اعتدنا تصيّدَ ابتساماتهم وتَأمُل أقدامهم تضربُ الأرض بخفّة، تماماً كما كانت تفعل الكاميرات على مسرحي تدمر وبصرى وغيرهما في مختلف المحافظات، حتى أن اسمهم كان معادلاً للأداء المُتقن والاستعراض المتكامل، هؤلاء أعضاء "فرقة أميّة للفنون الشعبية"، راقصون وموسيقيون وفنيون، يصعب اختصار تاريخهم في أسطر أو انطباعات، والأكثر صعوبة ما آلت إليه حال الفرقة التي نقلت تراثنا إلى الجمهور العربي والعالمي، ومقرها اليوم "قبو" المركز الثقافي في العدوي، حيث التقت "مدونة موسيقا" مديرَ الفرقة تيسير علي.
تأسست فرقة أمية بقرار صادر عن وزارة الثقافة عام 1960، يقضي بتسميتها مسرحاً للفنون الشعبية إلى جانب المسرح القومي ومسرح العرائس. كان أعضاؤها من الهواة والطلاب، وفي عام 1973 صدر مرسوم تشريعي نظّم عملها فأصبح العاملون فيها موظفين في الدولة "وزارة الثقافة" وأعضاءً في نقابة الفنانين.
اهتمت "فرقة أمية" بالتراث السوري على تنوعه وتوزعه، واشتغلت على الرقص والأزياء والموسيقى لتقديمها على المسرح ضمن حالة استعراضية. يقول مدير الفرقة: مع بداية تشكيل "أمية" أجرى الكادر الأول من أعضائها مسحاً للجغرافية السورية، واعتماداً عليه ألّفوا مقطوعات موسيقية وطوروا أخرى لتتماشى مع النهج الشعبي للفرقة، كما أولوا اهتماماً للأزياء التقليدية للرجال والنساء، عُدّت أساساً لمجموعة برامج ولوحات خاصة بالفرقة. يذكر هنا أهم الموسيقيين الذين كتبوا وتعاونوا مع أمية منهم "عدنان أبو الشامات وعبد السلام سفر"، ومن مدربي الرقص "حسام تحسين بك، أيمن بهنسي، كمال كركتلي، سمير الشمعة".
يستعرض علي نماذج من الرقصات الشعبية للفرقة كـ "الدبكة" أو ما يسمى في بعض المناطق "الحبل المودع"، قوامها حركات بالأرجل وضرب على الأرض بصوت عالٍ بمرافقة الغناء والموسيقى الفلكلورية. ولمّا كان تقديمها كما هي صعباً، اشتغلت الفرقة على الحركة الأساسية وأضافت لها مجموعة حركات خدمة للحالة المسرحية.
يضيف علي: لدينا لوحات من مختلف المحافظات السورية تحكي عن عادات كل منها، وفي رصيدنا أيضاً لوحات مشتركة منها "العرس السوري" يتضمن نتفاً وأجزاء من أعراس كل منطقة، دمجناها سوية وخرجنا بعمل جميل جداً. وعبر أعوام من العرض داخل سورية وخارجها قدمنا رقصات (أندلسية، بدوية، كردية، شركسية، أرمنية، تركمانية)، يضاف إليها الرقص الديني (المولوية، السماح، الحضرات)، وما يُقدم في الزوايا الدينية، ولم ننسَ اللعب الشعبية كـ(الحكم والسيف) وغيرها.
صنعتْ "أمية" قاعدة شعبية وجماهيرية كبيرة محلياً وعربياً وعالمياً، فكانت الممثل الأول لسورية ضمن منافسات الفرق الشعبية الأجنبية وحصدت الميداليات الذهبية في أنحاء العالم، منها -كما يقول علي- جائزتان ذهبيتان من فرنسا، وأخرى من بريطانيا والاتحاد السوفيتي، عدا عن أوسمة وشهادات ومطالبات بحضور مستمر. ومع أن هذا النجاح يُفترض أن يُؤسس للأقوى والأكثر ديمومة لكنه انتهى إلى ما لم يكن متوقعاً.
يوضح علي: مرّت الفرقة بنكسات عديدة أهمها ما يتعلق بالعنصر البشري من راقصين وراقصات حيث انعكست قلة عددهم ضعفاً ملحوظاً، بعد أن وصل بعضهم إلى مراحل عمرية متقدمة لا تسمح لهم بالمتابعة أو تُربك مرونتهم، مع الإشارة إلى أن المستمرين منهم تجاوزوا الـ 45 عاماً، أحدهم عمره 59 سنة، كلهم يصرون على الاستمرارية حباً بالفرقة وإخلاصاً لها.
والسؤال هنا: ماذا عن خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية "قسم الرقص". يجيب مدير الفرقة: لا يوجد خطة صحيحة بما يتعلق بالخريجين، فلو أمكن فرزهم لصالح الفرق التابعة لوزارة الثقافة، لكانت لدينا تغذية مستمرة بالكوادر. ولا تنتهي المشكلة هنا، ففي المعهد يُدرّس الباليه والرقص الحديث، ولا يوجد شيء يتعلق بالفن الشعبي، بالتالي الخريج ليس لديه أي معرفة بما نقدمه وللأسف بعضهم يتعاطى مع الفن الشعبي كدرجة ثانية "متخلّف وقديم".
ملاك وظيفي لم يعد موجوداً!
ما زاد الوضع سوءاً هو أن الوزارة لم تقم بتعيين عناصر جديدة من موسيقيين ومغنيين وراقصين، وعندما سعت الفرقة لتعيين أشخاص جدد، اكتشفت أن "مَلاكَها الوظيفيّ لم يعد موجوداً"، حيث عُيّن موظفون عاديون بدلاً عن أعضاء للفرقة!.
يتابع علي: في "أمية" حالياً خمسة راقصين من الجيل القديم لكن الحاجة كبيرة للمزيد لذلك اضطر للاستعانة براقصين من خارج الفرقة مقابل مبلغ تقدمه الوزارة لهم. هذا الأمر مجهدٌ جداً، ففي كل عرض أعود إلى نقطة الصفر في البحث عن راقصين وتدريبهم وتطويرهم، خلال زمن محدود!.
تتضاعف المعاناة مع غياب الفرقة الموسيقية الخاصة بأمية، والتي قامت سابقاً بالتوزيع والتلحين والعزف مباشرة مع الراقصين، وكانت قادرة على اختيار موسيقا تناسب خط الفرقة ومهمتها في حفظ التراث ونشره في حين أن الخيار المتوفر اليوم هو "كاسيت" أو "فلاشة"، بالطبع هذا أثّر على خيارات الفرقة وقيّدها، إذ إن المتوفر لديها من التسجيلات القديمة الجيدة محدود جداً.
يقول علي بحسرة: أين كنا وكيف أصبحنا؟. أذكر أننا قدمنا عرضاً في ألمانيا لمدة ساعتين ونصف، كان التصفيق هائلاً والجمهور يطالب بالمزيد. كيف يستوي هذا مع سعي عددٍ منا لِتبني فنون الآخرين بدل الاشتغال على ما نملكه؟، والمؤسف أيضاً ادعاء البعض التطوير والتجديد دون شعور بالمسؤولية، على سبيل المثال، الكثير قدموا رقص السماح مشوهاً، تخلوا عن ثوابته في الحياء واللباس الطويل، حتى الزي الشعبي يجري تشويهه، بعضهم يرتدي الصدرية الشعبية من دون أي لباس تحتها، علماً أنه لا يمكن أن نرى هذه الحالة في أي محافظة سورية، فكيف يتم تقديمها على المسرح؟!.
أرشيف ضائع!
تغييبُ الإعلام للفرقة خلال الأعوام الأخيرة ساهم في تردّي أوضاعها، ومن ذلك ضياع جزء كبير من أرشيفها. وتبعاً لما يقوله علي فمعظم ما قدمته الفرقة على مسارح بصرى وتدمر محفوظ لدى الجهة التي كانت تصوّر أي لدى التلفزيون السوري، وفي حوزة الفرقة عدة ألبومات من الصور المطبوعة!.
تستمر فرقة "أمية" بتقديم العروض ضمن الإمكانيات المتاحة والوعود بالرعاية والدعم بعناصر شابة وتطوير العمل ككل، يعلّق مديرها: أتمنى الاستعانة بخبرات يمكن لها أن تنهض بالفرقة وتُعيد لها مكانتها التي صنعتها بالتعب والمثابرة والاهتمام بالتراث والفنون الشعبية السورية.