كتبت الدكتورة "نجاح العطار" عن الموسيقار "صلحي الوادي" على صفحات مرافقة للأقراص المضغوطة التي جُمعتْ فيها أعمالُه تخليداً لذكراه: "رفدتَ نهرَ الإبداع العظيم عبر مسيرة طويلة وظللت كنزاً فنياً رائعاً ينهل منه الأبناء الذين أعطيتهم بسخاء، وتركت لهم وللوطن من بعدك ما سيظل جزءاً بهياً من تراثنا الحضاري الموسيقي".
مِن بَيتِهِ إِلَى العَالَمِ
للحديث عن شغفه الموسيقي الذي ظهر منذ الطفولة، تواصلنا مع ابنته الموسيقية وعازفة البيانو "همسة الوادي" المقيمة في "فنلندا" والتي تقول: (بدأت رحلة والدي مع الموسيقا الكلاسيكية من بيته، حيث كانت والدته تستمع كما في كل البيوت السورية إلى "أم كلثوم" و"فيروز" و"محمد عبد الوهاب" وغيرهم.. أمضى والدي حياته في "سورية" رغم أنه ولد من أب عراقي وأم أردنية، وعندما تعرف إلى الموسيقا الكلاسيكية شعر بأنها المجال الذي يريد الانتماء له، وهي التي كان يسميها (الموسيقا الجدّية) لم يكن يحب تصنيفها إلى غربية وعربية، بل فضل تسميتها بالموسيقا الجدية، من هنا جاء شغفه بالموسيقا، حيث سافر إلى "القاهرة" ودرس في مدرسة إنكليزية اسمها "فيكتوريا كولج" ضمت أساتذة يدرسون العزف على آلات موسيقية، وقرر تجربة العزف على آلة الكمان، وكانت علاقته متميزة مع أستاذه، حيث كانا يستمعان إلى الموسيقا الكلاسيكية معاً، وفي عام 1953 تخرج من المدرسة وسافر إلى "لندن" ودخل الأكاديمية "الملكية للموسيقا" ليدرس آلة الكمان والتأليف.. تخرج منها عام 1960 وعاد إلى دمشق مع زوجته وطفليهما، حيث كان هناك موسيقيون يعملون بشكل فردي، وبدأت حياته الموسيقية ومهمته لتحقيق أحلامه بتأسيس المعهد العربي للموسيقا عام 1961).
مُؤَلَّفَاتُهُ
حول أبرز مؤلفاته الموسيقية تقول العازفة "همسة" التي سافرت عام 1976 للدراسة في موسكو: (برأيي الشخصي ورأي كثير من الموسيقيين والنقاد يعتبر الثلاثي الذي ألفه والدي للبيانو والكمان والفيولونسيل أروع قطعه الموسيقية، بالإضافة لمقطوعات موسيقية ممتازة منها: الرباعية الوترية، والسوناتا للكمان والبيانو، وقطع قصيرة للبيانو، وقطع للأوركسترا، مثلاً "كونشرتو أفرتيور" و"حياتي أنت". كما ألّف "قصيدة حب" بعد وفاة أخته عام 1966 ووالده الذي توفى بعد عشرين يوماً من وفاتها، وهي قطعة مدتها عشرون دقيقة تحتوي على سبع أو ثماني حركات، كما ألف سبع مقطوعات للبيانو بين عام 1958 و1974 ولها أهمية خاصة، لأن تأليفها اقترن بتعرفه على والدتي عازفة البيانو الإنكليزية "سينثيا ماريون ايفرت".
من ضمن هذه القطع "باغتيل رقم 1 و2" وهما مقطوعتان صغيرتان بصيغة الجزء الواحد، الترجيع "الفوغ" أخذه من أغنية "سمرا يا سمرا" وهو خير مثال على الفوغ المعاصر، والقطعة الرابعة هي الرقصة مقام "دو مينور" وهي آخر مقطوعة للبيانو لحنها، و"المومياء" لمغنية سوبرانو والبيانو التي ألفها عام 2000).
جَوٌ مُوسِيقِيٌّ أُسَرِيٌّ
لدى سؤالنا لها حول مدى تشجيع والدها لها على تعلم الموسيقا، رأت الموسيقية "همسة" أنها تأثرت بالجو الموسيقي الذي كان سائداً في المنزل وحول ذلك تقول: (عندما كنا صغاراً امتلأ بيتنا بالموسيقا الكلاسيكية، كان والدي يستمع إلى الموسيقا فور دخوله إلى المنزل، لكنه لم يجبرنا على تعلمها، بل قدم لنا الآلات وأتاح لنا المجال للانتساب إلى المعهد العربي للموسيقا الذي أصبح اسمه "صلحي الوادي" عام 2004، فيما بعد تعلمت العزف على الكمان ثم البيانو، وعزف أخي على الكمان ثم الفيولونسيل، وكذلك أختي عزفت على الكمان ثم انتقلت للغيتار، لكنهما لم يختارا هذه الحرفة، إنما أنا أكملت في المجال الموسيقي مع العزف على آلة البيانو، وأصبحت عازفة بيانو ومدرّسة).
"صُلحِي الوَادِي" الأَب
ترى الموسيقية "همسة" التي ورثت حب الموسيقا عن والدها أن شخصيته كأب مختلفة عن شخصيته كمعلم أو مدير للمعهد وتقول: (كان شديداً لكنه حنون.. عشنا معه لحظات دافئة ودارت بيننا أحاديث رائعة.. في التدريب كان يعاملني كطالبة وليس كابنته يطلب مني الكثير من التدريبات واليوم تأكدت أنه كان على حق، لم يكن يمدحني كثيراً، لأنه كان يعرف المستوى المطلوب خارج "سورية"، كان طموحي المشاركة في مسابقات عالمية والعزف في "أوروبا" و"أميركا" وهذا ما حدث لاحقاً عندما كبرت وأصبحت عازفة بيانو سافرت معه ومع الأوركسترا وأحيينا حفلات في كل منها).
رَفِيقُ الرِّحلَةِ
من جهته الموسيقار "رعد خلف" يقول: (بدأت العمل مع الموسيقار الراحل "صلحي الوادي" عام 1990 عند تأسيس المعهد العالي للموسيقا وكان الأساتذة المحليون قلائل جداً مع بعض الخبراء الروس عندها كنت العازف الأول في الأوركسترا السيمفونية الوطنية التي أسسها عام 1993 وقادها حتى مرضه عام 2002، كنا نناقش الأمور الحياتية والفنية الموسيقية واعتمدنا على عملنا واجتهادنا الشخصي في تقديم ما نستطيع لهذا المعهد وكل منا كان يدرّس أكثر من مادة فيه).
ويكمل قائلاً: (كانت علاقتنا قريبة جداً وحميمية، فيها ما يقترب لحس القرابة العائلية، وهذا أثر بشكل إيجابي على نوعية التعاون فيما بيننا، تبادلنا الكثير من الآراء والأعمال حتى أسست لاحقاً رباعي "دمشق" الوتري وعزفنا أعمال الموسيقار "صلحي" وهذا يوضح شكلاً من أشكال علاقتنا الفنية الموسيقية، حيث كنت بشكل مباشر حاضراً في اختيار البرامج والتعاطي معها وكذلك في تدريبات الأوركسترا كل شيء تقريباً، كنت نائب الأستاذ "صلحي" من دون أي تسمية سواء في المعهد أو الأوركسترا السيمفونية).
مُوسِيقِيٌّ عَالَمِيٌّ
ويتابع "خلف" بقوله: (الراحل موسيقي متميز هو شخص مرهف الحس جداً، فنان ومؤلف موسيقي حقيقي له مكانته، عاد لوطنه لتأسيس المعهد العربي للموسيقا والأوركسترا، كما برز كفنان ومؤلف موسيقي محترف جداً على مستوى عالمي، الموسيقا شغفه، استطاع أن يقدم نفسه كمؤلف موسيقي يجمع ثنايا الروحية في التفكير الشرقي والبعد اللحني في زوايا عالمه التأليفي ويدمجهم مع العلوم الغربية أو قوالب التأليف الموسيقي العالمي، هو موسيقي من الطراز الرفيع استطاع أن يقدم نفسه ليس كعميد للمعهد العالي أو قائد الأوركسترا السيمفونية فحسب، بل كان مؤلفاً في حواراته، نقاشاته، مستوى ثقافته، تفكيره يقدم نفسه كأحد أهم رموز الموسيقية العربية في منطقتنا خلال السنوات الماضية، أي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين).
كل عمل من تأليفه له ميزته الخاصة بدءاً من الآلات الإفرادية وانتهاء بالأعمال السيمفونية لكل منها لون وخاصية منها؛ الرباعي الوتري، سوناتا الكمان، أعماله لآلة البيانو ولآلة الكلارينيت، كل منها له ميزة في عالم التأليف الموسيقي في أحد هذه القوالب من أبرز أعماله وأشهرها "حياتي أنت" بالإضافة إلى عمل "الرباعيات الوترية" الذي تعرفه قلة من الناس رغم أنني قدمته في أكثر من حفل).
إِنجَازَاتٌ مُحَقَّقَةٌ
"بريام سويد" مدير مديرية المعاهد الموسيقية والباليه والمكلف بإدارة معهد "صلحي الوادي" حالياً وأحد طلابه سابقاً يرى أن الموسيقار "صلحي" حقق إنجازات على الصعيد المؤسساتي، وأنه لا يوجد مدرس موسيقا في "سورية" إلا ويحسده على محبة طلابه له ويتابع في تصريح خاص لـ"مدونة الموسيقا" بقوله: (لا أعتقد أنه مر في تاريخ سورية المعاصر على المستوى الموسيقي مثله، فعلى زمنه أُصدِرَ مرسومٌ رئاسيٌّ لإنشاء معهد "صلحي الوادي"، وآخر لإنشاء المعهد العالي للموسيقا عام 1990، كما استصدر مرسوماً ثالثاً لإنشاء الفرقة السيمفونية الوطنية، وأخيراً كانت درة التاج هي دار الأوبرا التي حلم بها ولم يتمكن من المشاركة في حفل افتتاحها).
كَارِيزمَا لَا تَتَكَرَّرُ
ويتابع "سويد" عن الراحل بقوله: (على الصعيد الإنساني نال احترام الجميع لم نستطع الخروج من ظله حتى اليوم سواءً في المعهد العالي للموسيقا أو في معهد صلحي الوادي المكانين معجونين بنفَسه، شخصيته، لمسته ونظرته للأمور.
الراحل كان إنساناً، فناناً، مدرسةً وشخصاً مديراً له كاريزما لا تتكرر، بقدر ما كان صارماً بقدر ما كان مرناً، بقدر ما كان يبدو حاداً بقدر ما كان ذا قلب وعاطفة جياشة لم يستطع الكل لمسها، وأنا كأحد طلابه أقول: لولا نظرته الثاقبة لم أقبل في المعهد العالي للموسيقا لأنني لم أتخرج من معهد صلحي الوادي بل درست الموسيقا في الشبيبة وتقدمت لامتحان القبول في المعهد العالي للموسيقا عام 1999، حيث كان يحضر كل الاختبارات، أؤمن بأنه شخص ذو بصيرة.
يُحِبُّ الطَبخَ وَالمَشيَ الصَّبَاحِيَّ
"عبير الجابي" المسؤولة عن تسيير أعمال شعبة البرامج والأنشطة في دائرة المعاهد الموسيقية تقول: (كنت موظفة في المعهد منذ عام 1993 لعام 1997 وعملت مديرة مكتب الموسيقار "صلحي الوادي" في المعهد العالي للموسيقا والفنون المسرحية منذ عام 1997 وحتى مرضه، كان الراحل شديداً وحنوناً بالوقت نفسه، دقيقاً جداً في مواعيده، تعلمت منه الانضباط والنظام، كنا نتسابق للوصول إلى المعهد في السابعة صباحاً كان تدريب الأوركسترا كل اثنين وخميس الساعة الثامنة صباحاً، يملك الراحل حنان الأب وشدة المعلم، وهو نظامي انضباطي، وكريم جداً مع طلابه».
وتتابع الجابي حول علاقته مع الطلاب: «أحبه الأطفال في معهد صلحي الوادي رغم أنهم كانوا يخافون منه، هو إنسان مثقف واجتماعي، كنا ننتظر أنا وزملائي الجلسة الصباحية في المعهد ليحدثنا عما قرأ من مقالات وما سمعه من أحاديث، هوايته الطبخ، نشيط جداً يستيقظ من الخامسة صباحاً، يحب المشي الصباحي.
كانت هناك فعالية يحبها الطلاب هي حصة "التذوق الموسيقي" يوم الأربعاء الساعة الثامنة صباحاً كان يحضر الفطور ويضعه في غرفة التذوق وبعد الدرس ينتظر الطلاب الفطور الصباحي أسبوعياً لتحقيق هدف تعليمي تربوي، حيث كان يدرّس مواد (التذوق الموسيقي، وتاريخ الموسيقا، ودرس تحليل وتوزيع موسيقي).
تَسمِيَةُ المَعهَدِ بِاسمِهِ تَكرِيمَاً لَهُ
وَتكمل "الجابي": (بعد مرضه تمت تسمية المعهد على اسمه تكريماً له لسنوات الطويلة في العمل والعطاء الموسيقي، كنت أزوره بين فترة وأخرى في البيت عندما كان مريضاً بسبب جلطة دماغية منعته من الكلام.
ترك الراحل إرثاً موسيقي لسورية ولم يقدم أحد ما قدمه للموسيقا للكلاسيكية، أسس المعهد العربي الذي يحمل اسمه حالياً، والمعهد العالي للموسيقا بدمشق، دار الأوبرا السورية، الفرقة السيمفونية الوطنية، وموسيقا الحجرة).
يذكر أن الموسيقار "صلحي الوادي" من مواليد عام 1934 في بغداد، توفي في 30 أيلول عام 2007 بعد صراع مع المرض، تم تكريمه بوسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، وحاز دكتوراه فخرية من كونسرفتوار كوميداس في "أرمينيا" والأكاديمية الروسية للفنون والعلوم، كرمه "البابا يوحنا بولص الثاني" عند زيارته لـ"سورية" عام 2001 بميدالية القديس بطرس وبولص.