"محمد محسن" اسمٌ مستعار اختاره الملحن الراحل "محمد الناشف" لنفسه، محاولاً التحايل على أسرته التي عارضت غناءه في الإذاعة. لكن الخطة لم تنجح وقتها، حتى أن أخاه طلب من مدير الإذاعة منعه من الغناء، فاضُطر مجدداً للبحث عن اسم آخر، ووقع اختياره على "محمد رياض"، ولمّا عرفت أسرته بالأمر ثانية، عاد إلى اختياره الأول "محمد محسن".
لاحقاً، وخلال ستين عاماً، انتقل فيها من الغناء إلى التلحين، أصبح الاسم علامةً فارقة في مشوار عشرات المطربين ممن أثروا المشهد الموسيقي المحلي والعربي، ليقترن اسمه بـ فيروز ووردة الجزائرية وفايزة أحمد وغيرهن الكثير.
تكثر المقالات والشهادات في مشوار "محمد محسن" لكن أهمها تأتي من الباحث الموسيقي "أحمد بوبس"، بحكم الصداقة التي جمعتهما لعدة أعوام، حتى أن بوبس يعد نفسه الصديق الأقرب إليه في السنوات العشرين الأخيرة من حياته، علماً أن الراحل لم يكن يستقبل أحداً في منزله، ويرفض استقبال الصحفيين بشكل خاص. لاحقاً استند بوبس إلى ما عايشه ليؤلف كتاباً بعنوان "محمد محسن.. ملحن الكبار"، صدر عن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008.
وُلد محمد محسن (1922- 2007) في حي قصر حجاج بدمشق، ظهر حبه للموسيقا وهو تلميذ في المرحلة الابتدائية، فكان ينفق مصروفه على شراء كتب الأغاني ويحفظها. يقول بوبس في حديثه إلى "مدوّنة موسيقا": "تعلّم محسن الموسيقا والعزف على العود على يد الموسيقي صبحي سعيد، ولما كان مصروفه اليومي لا يكفي لدفع أجور دروس الموسيقا، كان يلجأ لبيع كتبه المدرسية لتوفير المال اللازم فبدأ مسيرته الفنية مطرباً، لحّن له أستاذه صبحي سعيد أولى أغنياته (أحلى يوم عندي قربك)".
تنقّل محسن بين الإذاعات والعواصم، ويمكن القول أن كلاً منها شكّلت انطلاقة في مشواره الغني. يوضح بوبس تلك المرحلة في كتابه: عند افتتاح إذاعة دمشق الأولى في مطلع الأربعينيات، انضم محسن إليها مطرباً بمساعدة صبحي سعيد الذي كان عازفاً على العود في فرقتها الموسيقية. وعمل في كورس الإذاعة ثم بدأ يقدم غناءه الإفرادي في حفلات إذاعية على الهواء مباشرة. وفي تلك الفترة تتلمذ على يد الفنان مصطفى هلال الذي لحن له عدة أغنيات منها (لقاء)، (أين كأسي). ثم بدأ التلحين لصوته، ومن هذه الألحان (يم العيون الكحيلة)، (الليلة سهرتنا حلوة الليلة).
وعندما توقفت إذاعة دمشق عن البث عام 1945 سافر إلى القدس، وتقدم إلى إذاعتها، وتم قبوله مطرباً وملحناً. خُصص له في الإذاعة أربع حفلات شهرياً. وخلال عمله تعرف على الموسيقي الفلسطيني حنا الخل، وتلقى منه دروساً في العلوم الموسيقية والتدوين الموسيقي، لتكتمل بذلك معارفه الموسيقية الضرورية للملحن. استمرت إقامته في القدس ثلاث سنوات، لحن خلالها لعدد من المطربين الفلسطينيين مثل محمد غازي وماري عكاوي وفهد نجار.
لكن، ومع توقف إذاعة القدس عام 1948، عاد محمد محسن إلى دمشق ليبدأ مرحلة جديدة في إذاعتها، ملحناً لغيره من المطربين والمطربات، مستجيباً لشعوره بأن صوته لن يخدمه على المدى الطويل. وكان أول ألحانه لغيره أغنية (أنا شمعة) غنتها المطربة ناديا أما ثاني ألحانه فكان للمطربة الكبيرة ماري جبران وعنوانها (يا محيرني)، وجاء اللحن الثالث (دمعة على خد الزمن) لتغريد محمد.
يقول بوبس للمدوّنة: الانطلاقة الكبيرة لمحمد محسن كانت مع سعاد محمد، حين جاء صاحب شركة "يضافون" من بيروت إلى دمشق، واتفق معه على أن يلحن لسعاد محمد ثلاث أغنيات هي (العمر يوم)، (وين يا زمان الوفا)، (غريبة والزمن قاسي)، تضاف إليها (دمعة على خد الزمن) وتُطبع هذه الأغنيات على أسطوانات الشركة، لكن القمة بينهما كانت بلحنه الجميل لأغنية (مظلومة يا ناس) التي كتب كلماتها وكلمات الأغنيات الأربع السابقة زوجها محمد علي فتوح، وبلغ عدد ألحان محسن لسعاد محمد اثنين وعشرين لحناً.
لم تتوقف شهرة محسن عند التلحين للكبار بل وصلت إلى اكتشافهم وتقديمهم للجمهور أيضاً، ومن هؤلاء فايزة أحمد ووردة الجزائرية، يصف الباحث بوبس تعاون الراحل مع فايزة أحمد: جاءت من حلب إلى دمشق في مطلع الخمسينيات، وكانت تؤدي أغنيات أم كلثوم وأسمهان وليلى مراد. وعندما استمع إليها محمد محسن أدهشه صوتها، فلحن لها عدداً من الأغنيات كانت جواز سفرها إلى القاهرة منها (درب الهوى)، (ليش دخلك)، (مافي حدا ياليل)، والابتهال الديني (يارب صل على النبي).
كذلك كان الأمر مع قدوم وردة الجزائرية إلى بيروت عام 1957، كان أول من تلقفها الفنانان محمد محسن وفيلمون وهبي، وكان محمد محسن أول من لحن لها أغنياتها الخاصة (دق الحبيب دقة). وخلال إقامتها في دمشق، لحن لها اثنتي عشرة أغنية أخرى، منها (مراسيل من ريحة الحبايب) و(على باب حارتنا يما) و(ياأغلى الحبايب على قلبي أنا)، وآخر ألحانه لها كان في مصر أغنية (روّح ياهوى).
في تجربته مع السيدة فيروز، كان التعاون الأول عام 1971 مع قصيدة (سيد الهوى قمري)، تلتها في مطلع التسعينيات (جاءت معذبتي)، (لو تعلمين)، (أحب من الأسماء)، (ولي فؤاد). لكن محمد محسن اعتذر عن التلحين لها بعد ذلك حينما اتصلت به قبل عام من رحيله، طالبة منه أربعة ألحان أخرى، ربما كان يفكر في الاعتزال على حد تعبير بوبس.
لحّن محمد محسن لأسماء لم تتكرر، منهم: صباح، وديع الصافي، نصري شمس الدين، نجاح سلام، سميرة توفيق، نور الهدى، نجاة الصغيرة، صباح فخري، كروان، موفق بهجت، ماري جبران، فهد بلان، ومن أشهر ألحانه ما قدمه لـ محمد رشدي في أغنية (يا وابور الساعة 12)، ولحن أغنية (أبحث عن سمراء) كان من المفروض أن يغنيها فهد بلان لكنها ذهبت إلى محرم فؤاد، غناها في فيلم (عتاب) وحققت شهرة واسعة، كما لحّن عدة أغنيات لـ مها الجابري وثلاثة موشحات كان يفترض أن تغنيها في مسلسل لكن رحيلها حال دون ذلك. ويشير بوبس إلى أنه ألّف ثلاث مقطوعات موسيقية فقط، وضعها لمسلسل "الوادي الكبير"، الأولى سماعي من مقام بياتي، والمقطوعتان الأخريتان (الربيع) و(زرياب).
ورغم كل ما حققه من نجاح وشهرة إلّا أن محمد محسن، والكلام للباحث بوبس، "كان يحب الوحدة ويخاف مجابهة الميكرفون والكاميرا التلفزيونية والناس عامة". يضيف للمدوّنة: "عرض عليه التلفزيون العربي السوري أكثر من مرة إجراء مقابلات تلفزيونية معه، أو استضافته في سهرات خاصة له، لكنه كان يرفض دائماً، أيضاً اعتذر عندما طلبت منه إدارة التلفزيون التلحين لعدد من المطربين السوريين، مقابل أي مبلغ يطلبه من المال، كما اعتذر عن استضافته ببرنامج (خليك بالبيت)".
يقول قائد أوركسترا الموسيقا العربية لمعهد صلحي الوادي المايسترو مهدي المهدي لـ "مدوّنة موسيقا": ساهم محمد محسن بإيجاد وترسيخ هوية خاصة للموسيقا السورية بالتلحين لمطربين سوريين وعرب، قدمتُ له في أوبرا دمشق قصيدة "سيد الهوى قمري" للسيدة فيروز، وهي إضافة حقيقية بالنسبة له على صعيد اللحن.
ويرى المهدي أن ألحان محمد محسن حافظت على الصبغة الروحانية التي تُميز الموسيقا ذات الهوية السورية، متكئة على إرثها من التراتيل القديمة في بلاد الشام، إضافة إلى تكوينها من جملٍ موسيقية قصيرة، تعود أيضاً إلى طبيعة الحياة في منطقتنا على مبدأ "الكل مُكون من مجموع أجزائه"، ولذلك فهي قادرة على التأثير مهما تعاقبت عليها السنين.
رحل محمد محسن في شباط 2007، شيّعهُ المقربون في جنازة صغيرة، ودفن في مقبرة باب الصغير بدمشق.