شكل الموسيقار "توفيق فتح الله الصباغ" في عالم الموسيقا والعزف حالة خاصة ليس كأي عازف على آلة الكمان، بل هو واحد من الأعلام المبدعين الذين يزخر القرن الماضي بهم وشكل علامة فارقة في إبداعه الموسيقي، ودراساته التي شارك بها في مؤتمر الموسيقا العربية الأول بالقاهرة عام 1932، والملقب بملك آلة الكمان 1892- 1964.
وقد طالعنا الموسيقار "الصباغ" بمؤلفات موسيقية وبحثية منها دراسته في تعديل السلم الموسيقي، حيث أشار الباحث والناقد الموسيقي الراحل "صميم الشريف" في كتابه "الموسيقا في سورية..أعلام وتاريخ" قائلاً: «الموسيقار "توفيق فتح الله صباغ" المولود في مدينة "حلب الشهباء" عام 1892، تلقى علومه في مدرسة الروم الكاثوليك، فأجاد اللغتين العربية والفرنسية والخط والموسيقا اليونانية، وفي عام 1912 غادر حلب وتنقّل بين مصر والسودان، ثم عاد إلى حلب عام 1921، وفي عام 1924 انتقل إلى دمشق، بعد وفاة ابنه وزوجته، أسس النادي الموسيقي الشرقي السوري، ثم أسس أول نقابة موسيقية في سورية، أغلقت بعد فترة قصيرة بسبب الاستعمار الفرنسي، وعمل في وزارة المعارف فعيّن أستاذاً للموسيقا في دار المعلمات وبعض المدارس في دمشق، ضبط أوتار الكمان لتتلاءم مع موسيقا التخت الشرقي على النحو التالي "صول، ره، صول، دو".
ومن أهم مؤلفاته الموسيقية مقطوعة "عواطف" مقطوعة تجمع بين الموسيقتين الغربية والشرقية وهي تصلح لجوقة كاملة أوركسترا ولكي لا يختفي الطابع الشرقي من المقطوعة وضع لها هارموني بسيطاً، وكتب العديد من المقطوعات الموسيقية في كل القوالب الشرقية، ولكنه لم يعمل على تسجيلها كلها على أسطوانات، وتوفي عام 1964، كما كتب عدة كتب عن الموسيقا منها "تعليم الفنون" 1932، و"المجموعة الموسيقية"، و"الدليل الموسيقي العام" وموسوعة موسيقية– 1950، و"البشارف والسماعيات"، أما مؤلفاته الموسيقية، فهي تقاسيم على مقام فرحفزا، مقطوعات الوداع، طلوع الفجر، الكمنجة تتكلم، سماعي حجاز كار، "بشرف جهاركاه"، "البشرف التوفيقي"، "سماعي عجم عشيران"، "سماعي صبا"، "سماعي بياتي"، "سماعي حجاز كار كردي"، "سماعي سيكاة"، "عواطف" مقطوعة موسيقية".
مقارنةً مع أمير الكمان سامي الشوا!
وعن ثقافة الموسيقار "الصباغ" بين الموسيقين ومشاركته في مؤتمر عام 1932 أشار الناقد الموسيقي "صميم الشريف" بالقول: «إن الموسيقار "توفيق الصباغ" واحد من الموسيقيين القلائل الذين أرادوا حريتهم بعيداً عن الجماهيرية، وهو ألمع المؤلفين الموسيقيين الذين انصرفوا إلى الموسيقا من دون الغناء الثلاثي الكبير "توفيق الصباغ، وجميل عويس، وشفيق شبيب"، وقد نجد عند هؤلاء أعمالاً غنائية، أما "الصباغ" فلا نجد بين آثاره عملاً غنائياً واحداً وهو أغزر هذا الثلاثي إنتاجاً، إذ كتب في كل القوالب الشرقية بدءاً من "البشرف، والسماعي واللونغا" مروراً "الفانتازي والرقصات" وانتهاء "بالدولاب والتحميلة"، وهو بحق ملك الكمان والأنغام وسيدها المطلق، وإذا كانت الظروف، قد أحلت مواطنه الحلبي "سامي الشوا" الملقب "أمير الكمان" في مركز الصدارة، فإن العازفين والضالعين ببواطن الفن وخفاياه يقولون بأفضليته على "الشوا" في هذا المضمار، لعل زمن الذي جمع الموسيقيين "الصباغ والشوا" يحمل أبعاداً فكرية وثقافية موسيقية ولكن الفاصل بينهما كان مشاركتهما في مؤتمر الموسيقا عام 1932 اللذين عمدا خوض معركة موسيقية من خلال تدريب الفرقة السورية، إذ لو قيض لتباين العلمي بين المستويين لوجدنا أن الصباغ يقف على القمة و"الشوا" عند الدرجة الأولى التي تقود إليها، ذلك لأن "الصباغ" يعتبر من النخبة المثقفة حيث جمع بين الثقافة الموسيقية والثقافة الفكرية ومن يستمع إلى أعماله يلمس ذلك تماماً بأبعاده الفنية وجمله الموسيقية الحاملة عبق الثقافة".
أبحاث الصباغ الموسيقية!
أما عن مشاركته في مؤتمر القاهرة تابع "الشريف" بالقول: «شارك "الصباغ" جدياً في توضيح علم الموسيقا، وكتب أبحاثاً لطلابها، حيث شارك في مؤتمر عام 1932 ببحث عن الأصوات في السلم الموسيقي العربي، تضمن أن السلم الموسيقي العربي يحوي خمسة أصوات وخمسة أسداس 6/5 الصوت، وليس على ستة أصوات كاملة، حيث يذكر ذلك في كتابه /تعليم الفنون/ بأن السلم الموسيقي المستعمل في مصر مؤلف من 24 درجة، هي 24 ربعاً أي ستة مقامات كاملة.. في حين أن عدة براهين حسابية وهندسية وسمعية تثبت في نظر "الصباغ" أن السلم أقل من ستة مقامات كاملة.. بمعنى أن السلم الموسيقي في نظره يحوي على خمسة مقامات وخمس أسداس 6/5 المقام، مورداً حسابه على الطريقة اليونانية القديمة بالدقائق إذ لكل مقام اثنتا عشرة دقيقة، أما في كتابه "الدليل الموسيقي العام" عمل "الصباغ" على اصطناع حساب وقياسات فيثاغورية، فثبت جدولاً بحساب سلم عربي قائم على حساب الكومات، وهي عنده ثلاث وخمسون كوما، ذلك أنه ينطلق من مبدأ السلم الفيثاغوري نفسه الذي يقرر أن السلم يتألف من خمسة أبعاد كاملة، كل منها درجة صوتية، ثم بعدين كل منهما ليما، فإذا تم حساب الدرجات الصوتية الكاملة تسع كومات، والليما أربع كومات، كما هو مطرد منذ القدم، كان السلم يحوي على 53 كوما، وهذا ما أكده الصباغ في كتابه "الدليل الموسيقي" بأن السلم العربي 53 كوما مثبت درجاته وحساباته واهتزازات ونسب طول الوتر، لأن هذه الدرجات بنظره في السلم الموسيقي العربي 19 درجة غير متساوية في الأبعاد".
آلة الكمان في الأوركسترا
كما يشير الباحث الموسيقي العلامة الدكتور "محمود احمد الحفني" في كتابه "علم الآلات الموسيقية" إلى أن الآلات ذات الأوتار المطلقة تعتبر من أقدم الآلات، لأن كل وتر فيها يخصص لدرجة صوتية واحدة من درجات السلم الموسيقي، وقد عرفت الممالك القديمة في مصر وأشور وبابل من تلك الآلات "الصنج، والكنارة، والأشور"، وانحدرت من تلك الآلات القديمة آلات القانون والسنطور التي تعتبر من أهم آلات الموسيقا العربية، وقد شكلت إقبالاً كبيراً عند معظم شعوب العالم سيما بعد أن منحها الموسيقار الإيطالي "منتفردي" 1567-1643 السيادة على آلات الأوركسترا، فيما وضعه من الأوبرات التي سار على نهجه فيها جميع معاصريه ومن جاؤوا بعده، وأصبحت الفرق الموسيقية تعتمد عليها، حتى ليبلغ عدد آلات الكمان وفصيلتها في الفرق السمفونية حوالي نصف المجموع الكلي للآلات جميعها، وأصبح الرباعي الوتري في موسيقا الحجرة يعتمد على أسرة هذه الآلة، أردت من سرد أهمية آلة الكمان في الموسيقا العربية لما قدمته من ألحان وأعمال على أيدي كبار العازفين وأهمهم في القرن الماضي على الإطلاق الموسيقار "توفيق فتح الله الصباغ" الملقب بملك الكمان.
سؤال برسم وزارة الثقافة!
وفي يوم الموسيقا العالمي الذي يصادف 26/ 6 من كل عام ثمة سؤال يطرح على وزارة الثقافة: لماذا لا تعيد إنتاج مؤلفات المبدعين والعمالقة الموسيقيين السوريين وإغناء المكتبة الموسيقية بمؤلفاتهم من جديد كي تكون الرافد للباحثين والمؤلفين وطلاب المعرفة الموسيقية؟
خاصة إننا الأحوج اليوم لتوثيق وتدوين موسيقانا من الغزو القادم الذي أصبح قاب قوسين بل أدنى في ظل ثورة المعلومات والاتصالات وكي لا نقول فاتنا قطار الزمن لعل سؤالنا يحتاج إلى أذن مصغية، آملين أن يلقى صوتنا السمع في زحمة الضوضاء والضجيج".
المراجع:
[1] الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ، صميم الشريف، وزارة الثقافة، 1991.
[2] علم الآلات الموسيقية، الدكتور أحمد محمود الحفني، العيئة المصرية العامة للكتاب، 1987.
[3] الموسيقا في سورية، عدنان بن ذريل، دار طلاس للدراسات و النشر، 1989.