تخيل أن الأوتار التي كانت ترتعش على آلة "عود" قديم، أو النغمات التي تنساب من "بيانو" كلاسيكي في قاعة صغيرة، لم تعد حبيسة جدران المكان ولا رهينة لحظة العزف، بل تحولت مع التكنولوجيا إلى طيف واسع من الأصوات يعبر الزمن والمسافات، ليصل إلى ملايين القلوب في ثوانٍ.
رقمنة الموسيقا
باتت الموسيقا بفضل التطور الرقمي متاحة لشرائح واسعة من الجمهور، وبفضل البرامج الحاسوبية المتطورة والتقنيات الحديثة، أصبحت الأنغام تبثّ كهمسة دافئة أو كعاصفة صاخبة إلى العالم أجمع.
وكما قال أحد الفلاسفة: "الموسيقا لغة الروح، أما التكنولوجيا فهي أجنحتها في عصرنا الحديث"، وهو ما أطلق عليه "رقمنة الموسيقا"، وتعني تحويل الأصوات من شكلها التناظري التقليدي، كما هو الحال في الأسطوانات والأشرطة، إلى صيغة رقمية يمكن تخزينها على الحواسيب والوسائط الإلكترونية.
هذه الخطوة أحدثت نقلة نوعية في عالم الفن، إذ سهّلت حفظ الموسيقا بجودة عالية، ونقلها بسرعة عبر الإنترنت، إلى جانب إتاحة أدوات حديثة لمعالجتها وإعادة إنتاجها بطرق إبداعية، وهكذا أصبحت الرقمنة أساساً لتطور الصناعة الموسيقية المعاصرة ووسيلة لانتشارها على نطاق عالمي.
وبناء على ذلك تبرز تساؤلات حول استخدام التطور التكنولوجي والرقمي في الموسيقا، والذي أدى إلى تغيير ملامح الموسيقا العربية الفنية الجمالية مع استحداث أنماط موسيقية جديدة، ليطفو سؤال عن الخطورة التي قد يمثلها الاستخدام المجحف للتكنولوجيا على الهوية الموسيقية العربية بما فيها من فرادة وخصوصية، وهل غاب نتيجة ذلك الابداع البشري والحس الفني الانساني وأصبح آلياً متشابهاً؟ ويترافق ذلك مع سؤال آخر حول حماية الملكية للأعمال الفنية من القرصنة والسرقة.
الوجهان الايجابي والسلبي
عميد المعهد العالي للموسيقا المايسترو "عدنان فتح الله" يجيب عن تلك الأسئلة في حديثه لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «"تأثير التكنولوجيا على الموسيقا يحمل وجهين "ايجابي وسلبي"، فأي مقطوعة موسيقية يتم تسجيلها حالياً تكون جودتها مرتفعة من حيث معالجة الصوت والمكساج وكافة التفاصيل الفنية التقنية، إضافة إلى اختصار الوقت والجهد، لكن نلحظ غياب الابداع الموسيقي من حيث الإحساس البشري والدفق العاطفي، فالذكاء الاصطناعي ضمن مجال الموسيقا غير خلّاق وغير مبدع، لأنه عبارة عن قواعد رياضية جامدة تعمل وفق مجموعة احتمالات، فتخرج المنتجات الموسيقية نمطية متشابهة، فالموسيقا الرقمية مبنية على خيارات موجودة كألحان سابقة يحاول الذكاء الاصطناعي تقديمها بطريقة جديدة لكن ضمن قواعد جامدة بلا روح».
وعن تجربة الموسيقار "محمد عبد الوهاب" في الاستفادة المبكرة من التقنية في الموسيقا العربية المتمثلة باستخدام آلة "الغيتار الكهربائي"، يضيف المايسترو "عدنان فتح الله": «استخدامه للـ "الغيتار" في أغنية "أنت عمري" للسيدة "أم كلثوم" ليس ابداعاً او ابتكاراً في استخدام التقنية، وإنما يكمن الإبداع في مكان آخر هو اللحن الذي خلق توليفة فريدة تتحدث إلى جمهور متعطش للحداثة، ولكن إدخال "الغيتار" والآلات الغربية في موسيقا شرقية تعتمد بالأساس على القانون والكمان والآلات الحية التي تتمتع بتردد خاص يصعب إدراكه بالأدوات الرقمية، يدفعنا الى القول أن هناك ضياعاً لروح العمل».
ويتابع المايسترو "فتح الله": «ينبغي ألا نغفل الحديث عن جانب في غاية الأهمية يتصل بتدخل التكنولوجيا في الموسيقا العربية يتمثل في أرشفة وتوثيق الأغاني والألحان القديمة، ومثال ذلك عندما يستمع طالب في "المعهد العالي للموسيقا" إلى نسخة قديمة لموشح لـ "أبي العلا محمد" فإنه يصاب بالملل والإحباط لعدم وضوح الصوت ورداءته بسبب قدم الاسطوانات أو أشرطة الكاسيت، ولكن مع إعادة الأرشفة بطرق تكنولوجية حديثة وبجودة عالية يمكن للجيل الجديد التعرّف على التراث الموسيقي والنهل منه، كونه مادة جذابة وممتعة للطلاب وللجمهور على حد سواء، للاستماع والاستمتاع في آن واحد وعلينا ألا ننسى المحافظة على هوية ولونية ذلك التراث الموسيقي».
ألوان صوتية
كيف يتعامل جيل الشباب مع الأمر؟.. سؤال توجهنا به إلى الموسيقي الشاب "غدي بشر عيسى" طالب "بيانو" في السنة الثالثة في المعهد العالي للموسيقا، والذي قال: «قدّم التطور التكنولوجي في المجال الموسيقي إفادة كبيرة، عبر إعطاء ألوان صوتية أكثر ودقة أفضل في التسجيل والعزف ومساحة صوتية أوسع، وساهم في مجال التوزيع الموسيقي حيث يمكن للموزع أن يسمع عمله بشكل فوري بعد كتابته باستخدام مكاتب صوتية تعطي أصواتاً مطابقة لأصوات الآلات الحقيقية. وأصبحت الأغاني السورية تنتشر خارج سوريا بسهولة بفضل المنصات الرقمية، مما ساهم في شهرة العديد من الفنانين الشباب خارج حدود البلاد. وعلى هذا الأساس أنا مع استخدام التكنولوجيا في المجال الموسيقي شرط أن يبقى العنصر البشري حاضراً ويقود العمل، بمعنى أن الإبداع البشري هو الأساس والتكنولوجيا هي الأداة وليس العكس».
ويتابع: «على الصعيد المحلي يقوم قسم التقنيات في المعهد العالي للفنون المسرحية بتعليم الطلاب عن الموسيقا الإلكترونية ويدرّس الطلاب البرامج الموسيقية الإلكترونية وكيفية صناعة الموسيقا عليها، وقد شاركت مع بعض أصدقائي الذين يدرسون اختصاص تقنيات الصوت في المعهد بتسجيل بعض القطع الموسيقية الإلكترونية، حيث كان دوري مقتصراً على تسجيل أدوار الآلات المختلفة باستخدام الكيبورد وبعض مكاتب الصوت، وكانت هذه القطع مشاريع للطلاب يتم تقديمها خلال الفصل الدراسي».
اضاءات محلية
عند تناول بعض القدود الحلبية المشهورة كمثال، نرى كيف أثّرت التكنولوجيا في حفظها وتسجيلها وتعليمها، ففي قد "يا مال الشام" أُعيد ترميم التسجيل الاذاعي القديم بفضل التدخل التكنولوجي عبر تقنيات رقمية لإزالة التشويش ورفع الوضوح. ونُشر على يوتيوب ومنصات البث، مع كلمات تظهر متزامنة مع الصوت، وأصبحت الأغنية متاحة لجمهور واسع، بما في ذلك المغتربين، وساعدت متعلمين على حفظ اللحن والكلمات بسهولة.
وكذلك أعيد توزيع "قدك المياس" في استوديوهات حديثة، مع مكساج رقمي يوازن بين الأصوات والآلات. وتم اضافة ميزة ذهبية على يوتيوب تشرح كيفية أداء الزخارف الصوتية الخاصة بها مما منحها حياة جديدة في الحفلات المعاصرة، مع الحفاظ على أصالتها، وأصبحت مرجعاً في دورات تعليم الطرب. وفي موشح "لما بدا يتثنى" طُورت تطبيقات للهاتف تتضمن كلماتها مع خاصية “كاراوكي”، بحيث يغني المتعلم مع اللحن، مما سهّل على الهواة التدرب في المنزل، وساعد في عملية انتشاره بين الشباب.
وساهم التدخل التكنولوجي من خلال الذكاء الاصطناعي لإزالة الضجيج من تسجيلات إذاعة حلب القديمة. نذكر منها على سبيل المثال أغنية "قل للمليحة" التي نُشرت ضمن مكتبات موسيقا عربية على الإنترنت مع بيانات عن تاريخها وكلماتها.
تلك الأمثلة ما هي إلا غيض من فيض توضح أثر التدخل التكنولوجي في أعمال باتت أكثر حضوراً عالمياً، وسهّل تعلمها، وحمى تسجيلاتها القديمة من التلف، مع الحفاظ على الطابع الروحي والطربي الذي يميزها.
غيّرت التكنولوجيا الرقمية وجه الموسيقا العربية وفتحت آفاقاً غير محدودة للإبداع، وأعطت لكل صوت فرصة للظهور. لكنها فرضت أيضاً تحديات كبيرة تتعلق بالهوية الفنية والجودة والعمق. المستقبل يعتمد على قدرة الفنانين والمجتمعات على التوازن بين الحداثة والحفاظ على الأصالة، بين ما هو رقمي سريع الانتشار، وما هو فني خالد في الوجدان.