حظي فن التراث والإنشاد خلال العقود الماضية والزمن الحالي في مدينة "حلب" بشهرة وحظوة ورفعة يشار لها بالبنان، من خلال نجاح ما كان يقدمه ويغنيه الفنانون الحلبيون من تراث أصيل يتمثل بالقدود والموشحات والمواويل أو بالشق الثاني منه وهو فن الإنشاد الديني الممتع بجوانبه العديدة من غناء قصائد ورقصات سماح ومولوية وخاصة خلال شهر رمضان المبارك، حيث تشدو حناجر المنشدين عند إقامة الحفلات والمناسبات الدينية، ويقال إن أغلب فناني "حلب" الكبار والذين وصلوا للمراتب العليا والشهرة كانت انطلاقتهم من خلال حضور وسماع الزاويا وحفلات الإنشاد والتي تعتبر بمثابة الزاد والركيزة الحقيقة الصلبة لمسيرتهم الفنية نحو طرق أبواب الغناء والتراث والقدود.
"القناعة" نَجمٌ مِنهُم!
موقع "مدونة الموسيقا" التقى الفنان المنشد "أحمد قناعة" صاحب الصوت القوي والشجي والمشبع بالدارسة والتعلم بأصول الغناء وفني التراث والإنشاد الديني قائلاً: «ولدت في حي "جنينة الفريق" تحت القلعة بعام ١٩٦٦ ودرست الابتدائية في مدرسة "الحمدانية" التي كانت داخل حينا.. وأثناء حفلة عيد الأم طلبني معلمي لقراءة سورة من القرآن الكريم، ومن بعدها غناء ما أحفظ من قدود حلبية مما أحفظه للراحل "صباح فخري" وغنيت "فوق النخل" وأعجب الجميع بما قدمت وصفقوا لي طويلاً، ونصحني مدرس مادة الموسيقا بضرورة الالتحاق بإحدى المعاهد الموسيقية، وبالفعل سجلت لدى المعهد العربي للموسيقا تحت إشراف الموسيقار الراحل "نهاد الفرا" لتعلم عزف العود مع الصولفيج».
الشَّرَاكَةُ الجَمِيلَةُ مَع "شريمو"
يتابع الفنان "قناعة" حديثه عن الذكريات الإولى "مدونة الموسيقا" ويقول: «كنا في المعهد ٢٥ طالباً متعلماً وهناك بالمعهد التقيت بطالب لطيف ومندفع لحب التعلم يدعى "أديب شريمو" حيث جمعتنا الصدفة بحب الدراسة ورفقة الطريقة وتعلم الغناء ودراسة المقامات والموشحات والعزف، والاستفادة من معلومات بعضنا البعض.
ويضيف "قناعة": من شدة حبي ورغبتي بدارسة الموسيقا تعلمت العزف على آلة العود بزمن قياسي لا يصدق وهو لا يتجاوز شهراً فكنت أسهر أكثر من عشر ساعات ليلاً لإخراج نغمة غناء، وأذهب في اليوم الثاني لأسماعها للأستاذ "نهاد" وبعد تقدمنا أنا و"شريمو" بالدراسة طلبنا من الأستاذ الاستعداد والأشراف على تنظيم حفلة داخل المعهد، تحت إشراف المدرسة "هالة مصري درويش" ابنة الراحل "علي الدرويش" وقدمنا فيها وصلات من مقام الحجاز والبيات مع زميل آخر يدعى "محمود بركات" ولاقت الحفلة نجاح وإعجاب الحاضرين.
وفي عام ١٩٩٣ داومنا على زاوية "جامع الكريمية" للتعلم ولأحياء حفلات الإنشاد بالمناسبات الدينية، وغناء قصائد "يا أمام الرسل يا سندي" و"على طيبة يالله نروح ونداوي القلب المجروح" و"إلهي يا سميع يا بصير" و"ياسيدي يارسول الله" وتابعنا بعدها أنا "أديب شريمو" المشوار بدراسة الموشحات والأوزان على يد الفنانين "سامر نشار" و"وليد فردوسي" بأسلوب صحيح.
أسسنا بعدها فرقة "عباد الرحمن" وكانت مؤلفة من ٥ عناصر ما بين كورال وعازفي المزاهر وتخصصنا بأحياء حفلات الإنشاد والأعراس والمناسبات الدينية والموالد، وبقينا سوية لمدة خمسة سنوات وذاع صيتنا بما نقدمه».
الاِندِمَاجُ بِفِرقَةِ "محمد خير حلواني"
وبعد فترة من عملنا -يقول الفنان "قناعة"- طلب منا المنشد الكبير الراحل "محمد خير حلواني" الالتحاق بفرقته وكان هو أشهر وأعلم منا وشهرته تفوقنا، وبذات الوقت وافقنا بغية زيادة علومنا والاستفادة من طريقته في غناء الحفلات وغناء الموشحات والقدود، وبقينا معه لمدة خمس سنوات.
وبعد العودة من خدمة العلم عدنا من جديد أنا و"أديب" والتقينا سوية وشكلنا فرقة "الرسالة" للإنشاد الديني مقرها "جامع الغفران"، واستمرينا معاً لمدة ست سنوات.
ثَلَاثُ حَفلَاتٍ فِي "السُّوَيد" لِلجَالِيَاتِ العَرَبِيَّةِ
يتابع "قناعة" الحديث: أثناء إقامتي إحدى الحفلات الخاصة في عام ٢٠٠٠ وبأحد منازل الأصدقاء ويدعى "مصطفى الجراح" وبالصدفة كان حاضراً مغترب حلبي قادماً من "السويد" ويدعى"يوسف طباخ" وله مهام رئيس جمعية الثقافة السورية السويدية، وبعد إعجابه بصوتي خلال الحفلة طلب مني تجهيز أموري للسفر إلى السويد، وهناك أحييت ثلاث حفلات متتالية في متحف البحر الأبيض المتوسط بـ"أستوكهولم" للجالية السورية والجاليات العربية الأخرى، وغنيت هناك وصلات من مقام العجم والحجاز والبيات وأغاني من التراث الحلبي مثل "كللي يا سحب تيجان الربا" و"طالعة من بيت أبوها رايحة لبيت الجيران" و"يامال الشام" و"ابعتلي جواب" و"قدك المياس" وباقي الأغاني المعروفة التي أعجبت بها الجاليات العربية كثيراً، وطلبوا مني الحضور سنوياً.
عَودَةُ شَرَاكَةِ العَمَلِ "قناعة وشريمو"
ولأن التفاهم والمحبة والتناغم هو عنوان النجاح لأي عمل -يقول "قناعة"- تابعت شراكة العمل الفني مع زميلي الفنان "شريمو" وأقمنا حفلة مشتركة وضخمة بفندق "الميرديان" بعنوان "ملا الكاسات" وكان لنا الشرف بالالتقاء بالمنشد العملاق الراحل "محمد صبري مدلل" وبعد سماعه لنا أسدى ألينا بعض النصائح المهمة. وأخرى بصالة "كناريا" بعنوان "قمر سيدنا النبي" ثم الذهاب نحو خان "أسعد باشا" بـ"دمشق" لتصوير ثلاثة موشحات دينية خاصة بي.
"قناعة" ختم حديثه للمدونة باستغرابه ممن يغني ويسارع لغناء النموذج "الهابط" رغم وجود آلاف الأمثلة للغناء العربي الأصيل والجميل في تراثنا وأرشيفنا الفني التاريخي، فما حاحتنا لغناء ما هو دون ذلك!. وأكد أن الدخل المادي هو آخر اهتماماته، وأن همه الوحيد هو غناء الموشحات والقدود والإنشاد الديني بشكله الصحيح الممتع للحفاظ على ذلك التراث من الاندثار.
طُقُوسٌ رَمَضَانِيَّةٌ جَمِيلَةٌ
وعن الحفلات الخاصة بشهر رمضان المبارك يقول الفنان "محمد أديب شريمو": «أنا من مواليد "حلب" لعام ١٩٦٨ وحاصل على إجازة من كلية التربية من "جامعة حلب" ومع قيامي بالتدريس هويت الفن وتعلم ودراسة الموسيقا والقدود والموشحات.
وعن الحفلات الخاصة برمضان قال: "لا شك أن لأجواء الحفلات خلال شهر رمضان المبارك في مدينة "حلب" نكهة وطعماً خاصاً، حيث تتميز بتقديم الوصلات والابتهالات الدينية والقصائد سواء في المساجد بعد صلاة التراويح أو في أحد المنازل الخاصة، وتحظى تلك الحفلات بحضور ومتابعة كثيفة من المهتمين وتستمر حتى موعد السحر ولتلك الحفلات أصول وتاريخ وعراقة وشهرة مشهود لها في الأوساط الفنية منذ القدم، وبما تقدمه من أغان تراثية عريقة. وكما هو معروف أن كبار المطربين الحلبين الراحلين لهم باع وحضور ومشاركات مسجلة ومحفوظة بتلك الحفلات.
ويصف "شريمو" عمله الفني المشترك مع زميله الفنان "أحمد قناعة" بأنها شراكة يمتد عمرها أكثر من أربعين عاماً حيث أعطت ثماراً ونتائح ناجحة ومبهرة في الوسط الفني. واعتمدت في أساسها وقالبها كما قال "شريمو" على التعلم والدراسة أولاً وغناء القدود والموشحات والأناشيد الدينية والتراثية المختلفة والمعروفة بعيداً عن الغناء الهابط والجشع المادي. وهي لازالت مستمرة وفاعلة بالوسط الفني والإنشادي حتى هذا اليوم. وكل ما يلزمها حتى تتطور مزيداً من الدعم الفني واللوجستي».
شَهَادَاتٌ فَنِّيَّةٌ
المنشد المعروف "عبد القادر التنجي" وصف الفنان "قناعة" بأنه صاحب طريقة إنشادية جيدة حيث له حضور ويتمتع بالصوت الإنشادي القوي والغناء الهادف إضافة لمشاركته الفعالة في الوسط الفني.
الباحث الموسيقي الدكتور "أيمن سيد وهبة" أثنى على الأداء المشترك، وبعد سماعه التسجيلات للثنائي "قناعة" و"شريمو" أثنى على الأعمال الفنية المشتركة الناجحة التي يقدمانها من غناء وصلات تراثية وإنشادية معقولة جداً يمكن لهما تطوير عملهما أكثر وأكثر إن توفرت الإمكانيات الفنية والمادية التي تساعدهما على الحضور الفاعل أكثر بالساحة الفنية، ووصف تعاونهما بـ"الناجح والمفيد".