رافقه صوت نايات الرعاة على ضفاف نهر "الكبير" الشمالي منذ طفولته ولم يغادر مخيلته حتى كبر، وانطلاقاً من تجربته الخاصة أسس معهد "ناي" بهدف إحياء الموسيقا في الريف وخلق جيل موسيقي واعٍ، كما قطف ثمار مشروعه بتأسيس فرقة "ناي" للموسيقا الشرقية والتي ينافس بها على مستوى المحافظة والقطر.

نَشأَةٌ مُوسِيقِيَّةٌ

يتحدث الموسيقي "باسل الجردي" عن تجربته الموسيقية لــ"مدوّنة الموسيقا" قائلاً: «ولدتُ في قرية "قرجالة" الساحرة الجمال الواقعة على ضفاف نهر "الكبير" الشمالي، ونشأت في أسرة تسمع وتتذوق الموسيقا الأصيلة كقصائد "أم كلثوم" و"محمد عبد الوهاب" و"الرحّابنة" وغيرهم من عمالقة الزمن الجميل، منذ طفولتي كنت أسمع تلك الموسيقا الجميلة، وخاصة الأنغام البسيطة في تركيبها والعميقة في مدلولاتها وتأثرت بها جداً، وحين أصبح عمري أربعة عشر عاماً، انتقلت إلى قرية "عين البيضا" وسكنت بها حتى يومنا هذا، تعرّفت على الفنان "سامر أحمد" الذي كان له بالغ الأثر في زيادة عشقي للموسيقا حيث كان في ذلك الحين يعزف على عوده أجمل الألحان وأعذب الأغاني، ولم يكن باستطاعتي شراء آلتي الموسيقية التي حلمت بها في ذلك الحين».

جُزءٌ مِن الحُلُمِ

سار الموسيقي "الجردي" إلى حلمه بمجهود شخصي، فيتحدث قائلاً: «في سن ١٧ حققت أختي ومعلمتي الأولى لي جزءاً من رغبتي بشراء عود لها، وناي مصنوع من القصب، ولم يكن هناك مدرّس لآلة الناي في منطقتنا، فتوجهت إلى تعلّم آلة العود بشكل بسيط مع الصديق "آصف موسى" ما ذلل لي عقبات كثيرة في اكتشاف خبايا آلة الناي، كما تعلمت العزف على آلة البزق العربي والتركي بمجهود شخصي لإثراء ثقافتي باكتشاف عوالم جديدة بالموسيقا، ثم التقيت الموسيقي "غياث محمود" في عام ٢٠٠٢ وتعلمت بعض مبادئ قراءة النوتة والصولفيج ومن خلال التجارب والتواصل مع العازفين أصبحت أعزف بشكل مقبول، وزادت خبرتي بالآلة من خلال متابعتي الخاصة وقراءة الكتب الموسيقية، كما دعمني العازف "عيسى محمود"، والراحل "محمود عجان"».

1- الفنان عازف الناي باسل الجردي

النَّايُ

2- الأستاذ باسل الجردي مع مجموعة من طلابه

كان صوت الناي يأخذه بعيداً إلى عوالم أخرى، فيقول: «كان السبب الأكبر في اختياري لآلة الناي أنني سمعت ذات مرة عازفاً يعزف مع فرقة موسيقية، كان يعزف بطريقة ساحرة وأخاذة، يميل مع نغمات الناي بشكل لافت، قررت حينها أن أشتري الناي وأتعلّم العزف، وعملت على صقل موهبتي بالتدريب والمطالعة والاطلاع على مدارس الناي في العالم وما إن اكتسبت الخبرة الكافية حتى بدأت بمشروعي البسيط في القرية معهد "ناي"، وهو ولدي البكر وأول أحلامي، حينها قررت أن أعلّم الأجيال القادمة هذه الآلة الجميلة، وقلت في خلدي يجب أن أصنع مئات من العازفين حيث أن عدد العازفين الأكاديميين على هذه الآلة قلائل حتى يومنا هذا، وبدأت بتعليم مجموعة أطفال ومن هنا بدأ الحلم يكبر».

مَحَطَّاتٌ وَخِبرَاتٌ

هناك محطات تختصر الطريق وتُغني التجربة، وهذا ما حدث مع الموسيقي "باسل الجردي" وعن أهم تلك المحطات يقول: «كانت البداية بعد أول لقاء لي مع الفنان "باسل حيدر" الذي علّمني أول زفرة حنين على آلة الناي، وهو أول من عزف لي بشكل مباشر، والمحطة الثانية في عام 2011 حين التقيت الفنان العازف العالمي "مسلم رحال" أول خريج معهد عالٍ لآلة الناي في "سورية"، حيث اتبعت معه كورساً خاصاً بتقنيات العزف على آلة الناي، أدركت حينها أن الناي ليست آلة بسيطة كما يشاع وإنما آلة تحتاج جهوداً كبيرة ودراسة عميقة، فالاحتكاك بخبرات كبيرة مثل "رحّال" اختصرت لي سنوات من التعب وعززت الثقة بأنني كنت أسير في الطريق الصحيح، أما المحطة الثالثة كانت حين بدأت بتدريس آلة الناي للأجيال علّمتهم الكثير وتعلّمت منهم الكثير، كما حققت مع العديد من طلابي الريادة على مستوى القطر لسنوات عدة».

3- الشاعر ماهر راعي

مُشَارَكَاتٌ غَنِيَّةٌ

تنوّعت وتعددت مشاركات الموسيقي "باسل الجردي"، فيتحدث عن مشاركاته: «شاركت بالكثير من الحفلات الغنائية الموسيقية مع أصدقاء عازفين ومع مطربين سوريين وكان أهمها حفلات بمراكز ثقافية مع الفنان السوري الأصيل "سامر أحمد"، عزفت بسهرة خاصة مع الملحن العراقي الكبير "كوكب حمزة"، عزفت مع أوركسترا "أوركيديا" عدة أعمال درامية من تأليف الموسيقي "طاهر مامللي" و"إياد الريماوي"، وشاركت بحفلات عدة مع "البيت العربي" للموسيقا أعمال لـ"الرحّابنة" واسكتشات غنائية».

ويضيف: «كما شاركت بأعمال مسرحية عدة مع مخرجين سوريين كموسيقي على خشبة المسرح وإغناء العمل بموسيقا تصويرية بشكل مباشر على المسرح، شاركت بمهرجان "البزق" في "دمشق" لأعوام عدة متتالية في مسرح "الحمراء" ومسرح "دمر" الثقافي، وشاركت بحفلة مع المؤلف السوري "ميلاد عبد المسيح" ومع النجمة السورية "هبة فاهمة" بأغاني عدة، وشاركت بالعزف عن بعد "أونلاين" بمهرجان "عودة الأرض" مع رابطة المبدعين العرب والتي مركزها في "المغرب العربي"، والعديد من المقابلات التلفزيونية والإذاعية».

"مَعهَد نَاي"

يعمل "الجردي" مديراً لمعهد "ناي" ومدرّساً لآلتي الناي والعود فيه، فيتحدث قائلاً: «"ناي" مشروعٌ موسيقيٌّ حقيقي وإنساني، يعمل بأسعار رمزية لخدمة أهالي المنطقة لخلق جو من الوعي والإبداع وتذليل كل الصعوبات أمام أطفالنا لتعلّم كل جديد لا يستطيع أهل القرى الحصول عليه بسهولة بسبب الأوضاع الراهنة، بدأت به عن سابق إصرار عام ٢٠١٢ في قرية "عين البيضا"، والهدف منه إحياء الموسيقا في الريف وخلق جيل موسيقي واعٍ انطلاقاً من تجربتي الخاصة والتي كبدتني وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً بمجهود شخصي حتى وصلت لجزء من هدفي، ولا أريد لتجربتي أن تتكرر مع الأجيال الجديدة وتمكينهم من اختصار الوقت في تحقيق أهدافهم، وها نحن الآن نحقق جزءاً من الحلم وباكورة أعمال ومنجزات المعهد فرقة "ناي" للموسيقا الشرقية».

فِرقَةُ "نَاي"

كانت فرقة "ناي" للموسيقا الشرقية من ثمار مشروع معهد "ناي"، وهنا يقول: «فرقة "ناي" للموسيقا الشرقية وليدة سنوات عمل سابقة في المعهد، حيث كانت محاولات عدة لتأسيس فرقة خاصة بطلاب المعهد، هذا العام كان الوقت مناسباً أكثر مما سبق حيث أصبح لدينا عدد كبير من الطلاب والخامات الرائعة الذين يعتمد عليهم بشكل حقيقي وبالتعاون مع أستاذ البيانو في المعهد "خضر موسى" وهو أول بذرة موسيقية في معهدنا منذ عشر سنوات وهو بمثابة الابن الأول لمشروع "ناي" الموسيقي وكلي فخر به، حيث أسندت له مهمة قيادة فرقة "ناي" لما يتمتع به من صفات القائد الملتزم وصاحب أفكار خلاقة، وأمارس دوري في الفرقة من خلال الدعم المادي والمعنوي إضافة إلى المساعدة في اختيار وانتقاء المقطوعات المطروحة للعمل ومتابعة عمل الفرقة بشكل دقيق، وهي أول مشروع فرقة حقيقي بريفنا الجميل التي تُعنى بمواهب أطفالنا».

مُشَارَكَاتُ مَشرُوعِ "نَاي"

مشروع "ناي" جعل أطفال الريف ينافسون على مستوى المحافظة والقطر، فيقول: «ينافس أطفال الريف على أعلى مستوى بعد أن كانوا طي النسيان بسبب الظروف، فقد حصلنا على المركز الأول لآلة الناي لعدة أعوام متتالية على مستوى القطر بواسطة الطلاب "أثيل حسون" و"زينب حيدر" و"حمزة سعد" و"بحر راعي"، وكانت النتيجة هذا العام أكثر تميزاً بسفر الطالب "حمزة سعد" إلى "بلاروسيا" ليمثّل "سورية" كعازف ناي رائد على مستوى القطر، وفي عام ٢٠١٧ على المركز الأول على مستوى "سورية" في مجال الحساب الذهني مع الطالبة "ناي الخطيب" والطالب "يمان حيدر"، وفي عام ٢٠١٩ حصلنا على المركز الأول على مستوى القطر في مجال القراءة السريعة بواسطة الطالبة "إنجي جوني" والطالبة "يارا فاضل"، وأعمل حالياً على دعم فرقة "ناي" للموسيقا الشرقية لتبصر النور على المسارح السورية والعربية وتحضيرات لمسابقة الرواد على مستوى القطر مع الطالبة المبدعة "مرام حاطوم"».

نَبعٌ مُوسِيقِيٌّ

"ماهر راعي" شاعر سوري، تحدث عنه قائلاً: «لا أستطيع تحديد بداية واضحة لمعرفتي به، فالأمر أشبه بمحاولة تذكر متى التقيت مدينتك أو قريتك أول مرة، كما أنني عرفت "باسل" المبدع من خلال أصدقاء مشتركين بيننا قبل أن نلتقي حتى ظننت أن اللقاء تحصيل حاصل، ولطفه يجعلك صديقاً حقيقياً منذ اللحظة الأولى التي تلتقي به، ويزيد الأمر جمالاً أنك تقع على نبع من الإبداع حين يأخذ الناي بين أنامله ويبدأ العزف، كما أنك ستجد فوق ذلك كله موسيقياً حصيفاً وجاداً، ويحمل هماً كبيراً يخصّ نشر ما يملكه من علم ومعرفة موسيقية لكل مريد، ورغم الظروف القاسية التي نعيشها نحن أبناء "سورية" إلا أنه أخذ على عاتقه سدّ النقص الحاصل في مجال تعليم آلة الناي منشغلاً بمشروع وضع منهاج يخصّ هذه الآلة إذ تفتقر المكتبة السورية لمنهاج مبوب ومدروس يكون دليلاً لكل متعلم وعازف مستجد».

ويتابع قوله: «عادة ما أصف "باسل" للأصدقاء على أنه نبع وواحة في زمننا المتصحر والقاسي حيث افتتح منذ سنين معهداً لتعليم كافة الآلات الموسيقية وكافة أنواع الفنون منتخباً شركاء من أمهر المعلمين، نعم أقول شركاء لأن من يعرف معهد "ناي" ومؤسسه "باسل" يعرف أن المشروع أبعد ما يكون عن الحالة التجارية -رغم أن هذا حق طبيعي لأجل الاستمرار- لكن الأمر هنا مختلف، فالهدف الأساس هو المشاركة بخلق جيل جميل بعيداً قدر الإمكان عن كل هذا الدمار الذي أحاط بهم وبشكل خاص في ريفنا المفتقر لكل أنواع الخدمات والإمكانيات، حيث أتذكر هنا موقفه النبيل حين اقترحت عليه استخدام قاعة من قاعات المعهد لتقديم عروض سينمائية للأطفال وتأسيس مكتبة تمكنهم من استعارة الكتب كمبادرة مجانية، ابتسم كعادته وبكل طبيعية قال لي: "هذا المكان للجميع"».

جدير بالذكر أن الموسيقي "باسل الجردي" من مواليد قرية "قرجالة" التابعة لمحافظة "اللاذقية" عام 1981، درس معهد متوسط للصناعات الغذائية بــ"دمشق"، وحاصل على شهادات عدة ممارس متقدم في مجال التنمية البشرية، مدرّب معتمد في مجال القراءة السريعة للأطفال، شهادة حضور وإعداد إعلامي والظهور أمام الكاميرا وإعداد تقرير تلفزيوني، شهادة في مجال التسويق الإلكتروني عبر السوشال ميديا، وشهادة خبرة في مجال العزف على آلة الناي من الموسيقي "مسلم رحّال".