ثلاثة حفلات قدمها كورال "سيدات النغم" كانت كفيلة بإظهار البصمة الموسيقية الخاصة التي يسعى إلى تأصيلها المايسترو "بشر عيسى" قائد ومؤسس الكورال في محافظة طرطوس، بعد عام كامل من التدريب الموسيقي الاحترافي للسيدات الخمس والثلاثين "مغنيات الكورال".
توحيد طبقات الصوت:
تتراوح أعمار السيدات المشاركات في الكورال بين "35" و"55" سنة، ويتدربن للحصول على طبقة صوت واحدة أو متقاربة، وحسب المايسترو "بشر عيسى" فقد انعكس العمر المتقارب بينهن على منطق تفكيرهن في الموسيقا بشكل عام، وعلى توحيد طبقات الصوت إلى حد معين، خاصة أنهن ذوات طبقة صوت خفيضة وشكلن طبقة صوت "ألتو" للكورال بالكامل. ويضيف: «ينظرن إلى الكورال على أنه فرصة لتحقيق ما لم يستطعن فعله في مرحلة الشباب، وبالتالي هن مدفوعات بشغف هائل يهوّن عليهن ساعات التدريب الطويلة والمتكررة أسبوعياً».
ذلك كله أنتج مشهداً عاماً للكورال انطلاقاً من الزي، حيث كان التحدي في البداية كيف يمكن أن ينسجم توحيد زي السيدات مع روح الكورال والغناء التراثي الشرقي، فكانت فكرة العباءة السورية الشرقية بما تحمله من تطريز وخطوط عربية وخيوط شرقية سورية، وفق ما أكده المايسترو "بشر عيسى" لـ"مدونة الموسيقا".
تدريب متواصل:
رُسم منذ البداية لمرحلة "إطلاق الكورال" أن تكون مهمة، فجاءت انطلاقته بعد عام كامل من الجهد والتعب والتدريب المستمر بهدف الإلمام بالتفاصيل كلها، وفق ما أكده المايسترو "بشر"، حيث تم تقديم أصعب الموشحات وأندرها، وحول إن كان تدريب الكورال يتم "سماعياً" أو يعتمد "النوتة"، يقول: «تدريب النوتة للسيدات في هذا العمر صعب جداً، بينما التدريب السماعي يبقى الأكثر جدوى وسهولة، ولكن بين كل عدة جلسات أسبوعياً يتم تمرير تدريب وفق النوتة وبشكل أكاديمي واحترافي، وتمرير نصف ساعة في كل جلسة لتدريبات الصوت أيضاً، فالأغنية والوظيفية المنزلية بعد كل تدريب هي تطبيق على التقنيات الصوتية لإنتاج الأفضل».
البحث عن النادر:
يقدم الكورال الأغاني التراثية والموشحات والقدود النادرة التي لا يمكن الوصول إليها بسهولة، الأمر الذي يحتاج إلى بحث وتدقيق، عن ذلك يقول المايسترو "بشر": «نستأنس بشيخ الطرب العربي "صباح فخري" وبعض المغنين الذين قدموا الموشحات والقدود، إضافة إلى المراجع الموسيقية المدوّنة، مع إدراك أن الموسيقا الشرقية نمت وتطورت على أساس مدرسة السمع وليس مدرسة النوتة، ومن كرّس هذا الأمر "منير وجميل بشير"، لذلك كان الاعتماد الكبير على شيوخ الطرب المعروفين أكثر من المراجع القليلة جداً جداً».
ويشير إلى أنه بسبب صعوبة تقديم هذه الأعمال لم تصبح شائعة كبقية الأعمال الموسيقية والموشحات والقدود الأخرى، كما أن جماليتها تنعكس بعد تقديمها على الجمهور الذي يطرب لها ويبدي تفاعله معها، كما حدث في أولى الحفلات، حسب توضيحه.
الموشحات والقدود الصعبة:
عن الموشحات والقدود التي يتم تقديمها قال: «نختار المقطوعات الغنائية بحيث لا تكون مطروقة بشكل عام، ويتم إدراكها من خلال عمليات البحث عن الموسيقا التراثية المهددة بالاندثار لصعوبة تقديمها من الموسيقيين، أي إنها غير مُغناة بشكل شعبي عام. فأغلب الأغاني الرائجة حالياً من جنس المقام وليس من مقام كامل، على عكس الأغاني التراثية القديمة التي كانت تعتمد على المنافسة في كثرة إدراج المقامات الموسيقية الكاملة ضمنها، ما جعل منها أغنية مسبوكة بشكل صعب، وجميلة جداً وعالية السوية فكرياً، وهذا النوع من الموسيقا هو هدف الكورال».
ويتابع: «فيما يتعلق بما نقدمه فلا نختاره على مبدأ ما يطلبه الجمهور، ولا نعتمد على اختيار برنامج تراثي نادر صعب بالكامل، لا بل على العكس تماماً لأن هذا يتعارض مع هدف الكورال العام، حيث يتم إيجاد برنامج منوع أو متعدد المحاور، فيه التراثي القديم الشائع والتراثي النادر والتراثي المهدد بالاندثار أو المندثر، وقد تصدى الكورال لعدد من الموشحات الصعبة، منها الموشح المصري الذي ألفه الموسيقي "محمد عثمان" مطلع القرن الماضي بعنوان "املأ لي الأقداح صرفا" وموشح "لم يكن هجر حبيب عن قلى"».
موسيقا جماعية احترافية:
المايسترو "بشر عيسى" مهندس أكاديمي وباحث موسيقي نذر نفسه للموسيقا، أسس بدايةً كورال "أرجوان" ولاحقاً كورال "سيدات النغم" بهدف خلق ظروف مواتية لتطوير الموسيقا المحلية والعربية، خاصة أنها نشأت في ظروف لم تسمح لها بالتطور لتكون موسيقا كورالية جماعية، هذا ما يشير إليه في حديثه لـ "مدونة الموسيقا" ويؤكد أن الحالات التي كانت موجودة مطلع القرن الماضي ولا يتجاوز فيها عدد المرددين أربعة أو خمسة فقط خلف المطرب لا يمكن اعتبارها كورالية موسيقية مستقلة تقدم أعمالاً متكاملة.
ويضيف: «للأسف نمت الموسيقا المحلية والعربية وتطورت كموسيقا فردية وليس كموسيقا جماعية "كورالية"، علماً أن هذا النمط من الموسيقا معروف ورائج في مختلف الدول الأوربية ومنذ عدة قرون، وحقيقة هذا الأمر الهدف الذي أسعى له من خلال كورال "سيدات النغم". وبما أن الموسيقا الكورالية تفرض أن يكون الحد الأدنى لها اثني عشر موسيقياً ورديداً، كان يلزم لتحقيق هدفنا أن يكون لدينا كورال يقدم موسيقا جماعية بطريقة احترافية، يتدرب أشهراً طويلة على الموسيقا الغربية والمقامات الصعبة، ثم ينطلق إلى الجمهور».
تحقيق الهدف:
وتابع قائلاً: « قدمنا في كورال "أرجوان" نموذجاً كورالياً غنائياً جماعياً متعدد الأصوات، فالغناء فيه مقسم إلى أربعة أصوات، الشباب قسمان حسب طبقة صوت كل منهم، منخفضة "باص" أو حادة "تنور"، والشابات أيضاً قسمان "ألتو" خفيضة أو "أسوبرانو" حادة، وبما أن تطور تجربتنا أصبح شاهداً علينا، كان يجب تحقيق هدف حفظ التراث الغنائي السوري وتراث بلاد الشام من خلال أسلوب غير نمطي، فجاءت فكرة أن يحدث ذلك بأصوات نسائية احترافية أكاديمية. من خلال تعليمهن التقنية الغربية للغناء الشرقي، لكونه ليس هناك ما هو مدروس وإنما ما نقوم به هو تكريس تجربة توحيد الأصوات ودمجها من خلال توحيد مخارج الهواء ومصادره ومخارج الحروف الساكنة والمتحركة لدى المغنيات».
وعن الحفلات التي تم تقديمها قال: «الحفلة الأولى كانت في شهر تشرين الثاني عام 2023 ضمن صالة "الكاردن" في طرطوس والتي تتسع لحوالي 800 شخص، والحفلة الثانية في 8 أيار 2024 على مسرح ثقافي طرطوس، والحفلة الثالثة في 15 أيار بقصر الثقافة في حمص».
تجربة ملهمة:
كادت أن تبقى هذه الأحلام سجينة المخيلة تأكلها الأيام وهموم الحياة وتربية الأطفال، لكنها وجدت بصيص نورٍ لتمسي واقعاً يغيّر أسلوب حياة بالنسبة للمغنية "سلاف شحادة"، وهي محاسبة قانونية في إحدى الشركات وأم لطفلتين.
هذا ما أكدته في حديثها لـ "مدونة الموسيقا"، مشيرة إلى أنه بعد أول وقوف لها على المسرح في الحفلة الكورالية الأولى تغيرت الكثير من تفاصيل حياتها وكسرت رهبة مواجهة الجمهور، وأصبحت أكثر ثقة وانسجاماً مع حلمها الموسيقي الذي أصبح واقعاً تعيشه بتفاصيله من دون حرج، حتى إن التواصل مع بقية المغنيات والمايسترو بات روحياً وبعيداً عما هو محيط. أما على الصعيد الشخصي فأصبحت أكثر انسجاماً مع الآخر في المنزل والعمل وأكثر هدوءاً وارتياحاً بالإنجازات التي تحققها، موضحة أن مشاركتها في الكورال تعتبر تحقيقاً لحب قديم وحلم طفولي.
تقول: «التجربة مهمة جداً ومليئة بالشغف والمتعة والفائدة والاتقان والحرفية العالية بالعمل، وجميعنا كسيدات ومايسترو وفرقة موسيقية مهتمون بأدق التفاصيل لتطوير الصوت الجماعي، وإثبات حقيقة قديمة أن المرأة السورية قادرة رغم الظروف الصعبة على تجاوز المحن، وهي ولاّدة بالعطاء غير المحدود، المتقن وغير العبثي، بحكم أن غناءنا تضبطه معايير احترافية صارمة، فلا يمكننا الغناء بأي صوت أو بأي كلمات».
بين الحلم والواقع:
أغلب السيدات لهن أعمالهن الخاصة ويخضعن لضغوط الحياة ومشاغلها، ورغم ذلك تجاوزن التفاصيل المحيطة وركزن على تفاصيل التدريب، وفق ما أكدته المغنية "ذكاء بربارة" التي تدير مشروعها الخاص بصناعة الشوكولا كتأطير لدراستها الأكاديمية في ماجستير إدارة الأعمال.
وقد رتلت سابقاً في الكنيسة فعاشت حبها وموهبتها بالغناء الجماعي، والآن تحقق حلمها بالغناء الكورالي الأكاديمي وتخوض مراحل التدريب كقصة مختلفة عما تعيشه يومياً، وتنفصل عن العالم الخارجي بكل ما فيه، لتمنحه حقه بكل طاقة والتزام ومحبة، سعياً لتطوير وتحسين ذاتها.
مصادفة جميلة:
وفي لقاء مع المغنية في الكورال "غصون الشاعر" قالت: «انتسابي للكورال كان بمحض المصادفة الجميلة التي تركت الأثر الإيجابي في حياتي عامة، فمن خلاله تعرفت على سيدات من مختلف فئات المجتمع وتشكلت فيما بيننا علاقات قوية ارتقت فوق المصالح والمنافع».
مؤكدة أنها امتلكت خلفية موسيقية منذ الصغر من خلال العزف، مما ساعدها في دخول الكورال الاحترافي، وتعلّمت فيه كيفية التحكم بالصوت ومخارجه الصحية، الأمر الذي سهّل على المغنيات جميعاً الاندماج في صوت واحد.
تطور لافت:
أما عازف الكمان والموسيقي "فادي تمور" من فرقة التخت الشرقي المرافقة للكورال، فأكد أنه بسبب الأزمة الفنية التي تعصف بواقعنا نشأ جيل لا يعلم ما هو الموشح والقد والتراث الموسيقي السوري والعربي بشكل عام، ومن هنا جاءت أهمية ما يقدمه المايسترو "بشر" من خلال كورال "سيدات النغم" في إحياء التراث الموسيقي.
يقول: «إصرار المايسترو على النجاح في تقديم موسيقا جماعية كان قوياً، فالكورال ليس غناء فقط بل غناء ودمج أصوات وهارموني موسيقي وانسجام فني ما بين التخت الشرقي والمغنيات الكوراليات، وقد ظهر التطور السريع واللافت للسيدات في الحفلة الثانية من خلال الانسجام العالي في الغناء».