رؤيا جديدة حملت الكثير من الاختلاف، جمعت بين العديد من الأنماط الموسيقية المتنوعة والمتباعدة، لتُنتج عملاً موسيقياً جديداً بروحه وأسلوبه، هذه الروح التي سرعان ما تسربت إلى الجمهور ليتفاعل معها ويعيش لحظات من الدهشة والفرح والمتعة.
رؤيا مبتكرة
كان التساؤل كيف يمكن لعمل موسيقي واحد أن يجمع بين مقطوعة "الربيع" من "الفصول الأربعة" لأنطونيو فيفاليد وبين الأغنية التراثية "فوق النخل"، وأن يضم عملاً موسيقياً آخراً موسيقا "بحيرة البجع" لبيتر إليتش تشايكوفسكي مع الأغنية التراثية "موج البحر"، وما حدث أنه تم الجمع فيما بينها فعلاً على المسرح، الذي عج بتصفيق وتشجيع الحضور.
هو فكر جديد في الموسيقا قدمته عازفة البيانو "لين جناد" مع أوركسترا "أورفيوس" بقيادة المايسترو "آندريه معلولي" ضمن أمسية أقيمت في دار الأسد للثقافة والفنون، حملت عنوان "بطريقة لين" "à la leen" وهو عنوان مشروع "لين" الموسيقي الذي دأبت على تطويره والسعي لأن تخطو فيه كل مرة خطوة نحو الأمام. أما التوزيع الموسيقي الجديد وكتابة الأعمال فجاء بتوقيع الموسيقي "ناريك عربجيان".
الحفل الذي تمحور حول دمج عدة ثقافات مع بعضها البعض من خلال الموسيقا، جاء أشبه بحوار متناغم ومنسجم بين "البيانو” و "الأوركسترا" ليشكلا معاً حالة من التكامل الإبداعي، لتقديم أعمال موسيقية زادها الابتكار الذي لا حدود له.
بين الحلم والتجريب
ضم برنامج الحفل أعمالاً منوعة من موسيقا عالمية كلاسيكية وسمفونية وموسيقا أفلام وموسيقا عربية وجاز ولاتن، لتُقدم بأسلوب مغاير لما اعتاده الجمهور. وحول الدافع وراء خوض عازفة البيانو "لين جناد" غمار تجربة تحمل فرادتها وجرأتها ضمن مشروع وضعت له عنواناً "بطريقة لين"، عن ذلك تحدثت لـ "مدونة الموسيقا" قائلة:
«منذ أن كنت صغيرة أسمع الموسيقا بطريقة مختلفة، وأحب إضافة لمسة خاصة بي على أي مقطوعة أعزفها، وكان حلمي دائماً أن أُسمِع الناس كيف أسمع الموسيقا في رأسي، وطموحي منذ عشر سنوات محاولة دمج نوعين مختلفين من الموسيقا، لأنني أحب التجربة وأسعى للخروج بنتيجة مختلفة، ودائماً كنت أحب أن اتفاجأ بالنتيجة قبل أن يتفاجأ الجمهور بها، فمشروعي كان حلماً من أحلام الطفولة».
خطوة بعد أخرى
الحفل الموسيقي الذي أقيم مؤخراً يعتبر الخطوة الثالثة في مشروع "لين"، وكل خطوة كانت تحمل تطوراً أكثر جرأة عن الخطوة التي سبقتها، هذا ما تؤكده عازفة البيانو في حديثها، تقول: «في كل حفل يتطور المشروع بشكل أكبر، وتختمر الفكرة أكثر، فأجرب إضافة أنواع موسيقية أكثر، وأن يكون شكلنا على المسرح أكبر، ففي هذا العام وصل عددنا إلى ستين فرداً على المسرح، وهو رقم كبير بالنسبة لأي عمل موسيقي سيُقدم».
وعن خطوتها القادمة تشير إلى أن هناك قطعتين موسيقيتين تريد العمل عليهما، لأنه ما إن ينتهي الحفل حتى تبدأ التفكير بموسيقا جديدة، مؤكدة سعيها في كل حفل لتقدم عملاً جديداً أو عملين للجمهور، إضافة للقطع الموجودة أصلاً، مشددة على فكرة أن الناس يحبون هذه القطع الموسيقية وينتظرون الحفل لسماعها.
مزج القطع الموسيقية
حول الأسس والمعايير الموسيقية التي تم الاعتماد عليها في عملية اختيار ودمج المقطوعات الموسيقية، خاصة أن لكل منها روحاً ونمطاً مختلفاً عن الآخر "سيمفوني كلاسيك، جاز، عربي.."، تقول: «تم اختيار المقطوعات الموسيقية من عدة أنواع وأنماط مختلفة، أما الأسس التي اعتمدت عليها، فهي اعتمادي على الألحان وكيف أفكر في آلية مزجها مع بعضها البعض في رأسي، لنترجم ذلك كله على الورق».
وعن شكل العلاقة الموسيقية والابداعية في العمل والتي تربطها مع الموزع الموسيقي وقائد الأوركسترا، ومن أين تنطلق شرارة الأولى وكيف تتطور لولادة المقطوعة الجديدة، تقول: «تبدأ العلاقة الموسيقية والتجربة الإبداعية من عندي، وكيف اتخيل القطعة الموسيقية، فأكتب خطوطاً عريضة لدمج نوعين أو ثلاثة من الموسيقا عبر قطع محددة، وأتناقش حولها مع الموزع الموسيقي "ناريك عربجيان"، وأحياناً أضع ايقاعاً معيناً أحب أن تسير وفقه القطعة الموسيقية، وأفكار لبداية ونهاية القطعة، وكيف سنُقدم البيانو ضمنها، ونشتغل على عدة نسخ إلى أن نصل إلى النسخة الأكمل بنظري ونظره، وعندما نبدأ التحضير للحفل يتم التواصل مع المايسترو ونتناقش حول كيف ستظهر القطعة بشكلها النهائي على المسرح».
لأول مرة في الوطن العربي
تؤكد عازفة البيانو لين جناد لـ "مدونة الموسيقا" أن ما تقدمه هو الأول من نوعه في الوطن العربي، إن لم يكن الأول من نوعه في المنطقة كلها، كما أنه يعتبر من التجارب الأولى في العالم، أي أن يتم تجريب دمج موسيقا كلاسيكية مع موسيقا عربية بتوزيع أوركسترالي بالطريقة التي قُدمت في الحفل.
وفيما يتعلق بتفاعلها مع رد فعل الجمهور ضمن الحفل، تقول: «كل مرة يفاجئني الجمهور أكثر من المرة التي قبلها، ومن أحب اللحظات على قلبي تلك التي أقف فيها أمام الجمهور، وتحديداً الجمهور السوري، فهو مثقف جداً وسمّيع، ويقدّر قيمة ما يسمع، وتفاعله بالطريقة التي لمسناها ضمن الحفلات في سورية يمنح طاقة كبيرة جداً، لعزف أجمل ما يمكنني عزفه على المسرح».
مقطوعات جديدة
وفي حديثها عن تفاصيل برنامج الحفل تشير إلى أنه تم تقديم أربع مقطوعات جديدة، هي قطعة الافتتاح واسمها "Tico destiny"، وتم فيها الدمج بين السيمفونية الخامسة لبيتهوفن والمقطوعة البرازيلية تيكو تيكو. وهناك قطعة بعنوان "Amelie 5"، أما المقطوعة الثالثة فجاءت "ميكس" بين "نزلن على البستان" و "Radetzky March" للموسيقي النمساوي يوهان شتراوس الأب، وفي الختام تم تقديم أغنية موج البحر مع موسيقا "بحيرة البجع" لتشايكوفيسكي "موج البحر آ لا لين".
وتؤكد "جناد" أن الأعمال كلها كُتبت بطريقة جديدة للبيانو بمرافقة الأوركسترا، منوهة إلى مشاركة الآلات الشرقية مع الأوركسترا السمفوني، بما فيها "الدركبة، الرق، الطار.."، الأمر الذي قدّم غِنى إضافياً للبرنامج المُقدم.
توظيف الآلات الموسيقية
الموزع الموسيقي "ناريك عربجيان" تحدث لـ "مدونة الموسيقا" حول كيف تمت عملية التوزيع والدمج الموسيقي بين عدة أنماط موسيقية، يقول: «هو مشروع "لين جناد"، وفكرتها خلط موسيقا كلاسيكية مع موسيقا لاتن "موسيقا أمريكا اللاتينة"، بحيث نأخذ قطعاً كلاسيكية معروفة ليتم عزفها بطابع لاتيني، ويمكن وضع قطع لاتينية أو أغانٍ أجنبية معروفة. ولكن تطورت الفكرة وبتنا نخلط معها أغاني عربية ليكون هناك طابع عربي وسوري، مما أنتج ألواناً جديدة، الأمر الذي اضطرنا ليكون هناك آلات موسيقية أكثر، وتفيد الألوان الموسيقية المًقدمة، فوضعنا "الدركبة والرق" على سبيل المثال، لنستفيد منها وندمجها مع الأوركسترا».
وفيما يتعلق بتنويط مثل هذه الأعمال يشير إلى أنه في البداية ينبغي أن يكون هناك اتفاق ورؤيا حولها، واطلاع جيد على كل نمط "ستايل" بمفرده، لنستطيع خلط الأنماط "الستايلات" مع بعضها البعض، ومعرفة طبيعة الآلات كي لا يطغى دور على آخر، ويؤكد أن صعوبة التنويط تعود لتحديات الآلات وكيف يمكن توظيفها بشكل صحيح ضمن العمل.
أيَة موسيقا مع أيَة موسيقا
هل يمكن دمج أيَة موسيقا مع أيَة موسيقا، أم أن هناك قواعد وأسساً لذلك؟.. يجيب "ناريك عربجيان": «إلى حد ما يمكن دمج أية موسيقا مع أية موسيقا، لأن الدمج هو شيء "حرّ" ولكن يعود الأمر في ذلك إلى الذائقة الفردية ولأي مدى يمكن المحافظة على الطابع الأساسي دون تغيير، فإن كنا نخلط أغنية عربية معروفة مثل "على موج البحر" مع موسيقا الكترونية فينبغي ألا نجعل اللحن الأساسي يخرج من طابعه "وهذا رأي"، لأن الناس يشكل عام مرتبطة باللحن الأساسي، وتستطيع تمييزه. ولكن هناك تجارب جديدة جداً تحدث في الغرب أحياناً يضعون أغنية غربية كلاسيكية معروفة ويذهبون فيها إلى حد بعيد، وهنا من الصعوبة بمكان التمييز بأن هذه القطعة هي نفسها القطعة المعروفة، وفي النتيجة هذا الأمر يعود إلى أية مدرسة في التوزيع الموسيقي تتبع، ووفق أي "ستايل" نعمل».
ويؤكد أنه لحفل مثل حفل "لين جناد" لا بد أن تكون القطع كما هي في طابعها ولحنها الأساسي الذي ينبغي أن يكون واضحاً، في حين أن المرافقة الموسيقية والإيقاعات يزينون ويقدمون غنى ويجعلون الدمج سلسلاً بشكل أكبر.