المدينة الساحليّة التي أهدتْ للعالم أوّلَ نوتةٍ موسيقيِّةٍ، كانتْ عبر تاريخها مدينةً ذوَّاقةً للموسيقيين. وعازف البيانو "وديع نحَّال" مثالٌ لحكمة قانون "الرزق الإلهي"، والذي من ضمنه الموهبةُ، وولادةٌ مبشِّرة لموسيقيٍّ استطاع في زمن قياسيٍّ بإبداعه أنْ يخلقَ ذائقةً مميّزةً أوصلتْهُ للعالمية. موهبةٌ استثنائيةٌ قادرةٌ بأناملَ سماويّةٍ تنساب كعذوبةِ الماء في الجداول على الإدهاش والإمتاع كلَّ مرَّة.
موهبةٌ جعلته قادراً على محاكاة أيّ معزوفة يسمعها اعتماداً على الصوت وليس على قراءة النوتة الموسيقيَّة. حتَّى وصل بشغفه ودراسته للاحتراف، والتنقّل بين معزوفات الكونشرتو، والعزف المنفرد، والتأليف والتوزيع الموسيقيّ، وقيادة الأوركسترا، وغيرها من الأنماط الموسيقية، والعزفِ مع كبارِ الفرق العالمية. وذلك لتمتُّعِهِ بأُذنٍ تمكِّنه من آلته المحبَّبة على قلبه التي حلَّق بها بروائعِ المقطوعات العالمية، ومقطوعاتٍ موسيقيّةٍ خاصّةٍ من تأليفه جعلتْه يتألَّق في عمرٍ صغيرٍ بالمحافل الدولية ويفوز بجوائزَ متميِّزةٍ على الصعيدين الوطني والدولي.
نبوغ مبكر
نجح العازف "نحَّال" بأنْ يثبتَ صحةَ مقولة إنَّ "الموسيقا ليست فناً ولكنَّها جزءٌ من الروح البشريّة". وهذا ما عبَّر عنه عند الحديث عن رحلته الساحرة في مشواره الموسيقيّ منذ البداية، حتَّى الوصول للاحتراف، يقول: «الموسيقا هي اللغة التي تعلّمتُ نطقها، ونشأتُ بين أطيافها، كلَّما عشتُ فوضى الحياة ألجأ إلى "البيانو" ليعيدَ لي توازني، لم تكنْ دراسةُ الموسيقا وتعلُّم العزف على "البيانو" من الأمور السهلة في البداية، لكنَّ جمالَ صوته زاد رغبتي في تعلّم العزف عليه».
"وديع نحَّال" من مواليد اللاذقية "2007" طالب في الثالث الثانوي، بدأ تعلّم العزف على آلة "البيانو" في الخامسةِ من عمره مع الأستاذة "قمر طويل" في مركز "الغوري" باللاذقية، وكان سعيداً جداً بأنَّه سيتعلّم الموسيقا التي كان يسمعها ويميِّز جمالها منذ طفولته.
واظب على دروس "البيانو" والتدريب باستمرار دونَ انقطاع مذ كان في السادسة من عمره، وكان يفضِّلُ الاستماع إلى عازف البيانو "ريتشارد كلايدرمان"، وموسيقا "ياني"، بدلاً من الاستماع لأناشيد الاطفال، وتجلَّتْ محاولاته الأولى في التأليف الموسيقي في عمر الثماني سنوات.
عمل مجد وتطور مستمر
في العاشرة من عمره انتسب إلى معهد "محمود العجان" باللاذقية لمتابعة الدراسة على آلةِ "البيانو" مع الآنسة "آية أرسوزي"، كما بدأ بتلقي دروس الصولفيج مع الأستاذ "إلياس سمعان" الذي كان له دورٌ كبيرٌ في دخوله إلى عالم الموسيقا من خلال تدريسه "الهارموني والنظريات الموسيقيّة وقوالب التأليف"، كما درسَ آلة "الكمان" حتى السنة السادسة مع الأستاذ "أغيد طالب"، وتخرَّج في المعهد عام 2022 .
خلال سنوات دارسته في المعهد تلقَّى بعضَ دروس "البيانو" مع "الدكتور غزوان الزركلي"، كما شاركَ في الكورال متعدّد الأصوات لـ معهد "محمود العجان"، كما أنَّه عضوٌ في كورال "الراعي الصالح" منذ عام 2017. وقام بالتوزيع الموسيقي لبعض المقطوعات التي أدَّاها كلٌّ من الكورالين.
منذ عام 2020 يتابع تعليمه في العزف على آلة "البيانو" مع البروفيسورة عازفة البيانو "همسة الوادي جوريس" التي كان لها الفضلُ الكبيرُ في تطوُّر عزفه، وبدأ يميّز طموحه للدخول إلى أغوار "الموسيقا الكلاسيكية" والعزف على "البيانو" على أهمِّ مسارح العالم.
نجاحات متلاحقة
أسرتْ موهبة "وديع نحّال" القلوب بأدائهِ المتميِّز وتقنياته العاليةِ، ما عكس تنوّعه الفني، وقدرته على الابتكار، وحصد العديد من الجوائز، يقول: «من أولى مشاركاتي عام 2019 مسابقة صلحي الوادي الدولية الخامسة للبيانو، حيثُ فزتُ بالجائزة الأولى عن الفئة "ب". كما فزتُ بجائزة خاصّة تُعدُّ من أجمل المشاركات التي استمتعتُ بها، وتركتْ لي حافزاً للسعي والاجتهاد في مسيرتي الموسيقية، وهي مشاركتي كعازفٍ منفردٍ مع "الأوركسترا السيمفونية الوطنية السورية" بقيادة المايسترو "ميساك باغبودريان" لأداء كونشيرتو "بيانو لموزارت"، في دار الأوبرا بدمشق عام 2020، وكان لي شرفُ المشاركة كعازف منفردٍ على "البيانو" في افتتاحيةِ احتفاليةِ "الثقافة السوريَّة" في دار الأوبرا بدمشق في عام 2020».
مؤلفات خاصة
باعتبار الموسيقا خيرَ وسيلةٍ للتعبير، قام العازف "وديع" بتأليفِ بعض المقطوعات، نذكرُ منها: مقطوعة للبيانو "عندما تبكي سورية" "when Syria cries"، عبّر فيها بكثيرٍ من الشجن والحرقة عن المعاناة من الحرب التي عاشها وكبر فيها، وعمَّا سبَّبتْه من الألم والحزن، فنقلَ مشاعرَه وأفكارَه بموسيقاه، وشاركَ بهذه المقطوعة ضمن برنامج مسابقة "موزارت العالمية" والتي تُعدّ من أهمّ المسابقات على مستوى العالم في سويسرا "أون لاين" عام 2020، وتأهَّل للمرحلة الأخيرة، حيثُ تم اختياره من ضمن عشرينَ عازفاً فئة الصغار "١٨ عاماً وما دون".
ومن مؤلفاته أيضاً مقطوعة "Dreamy soul" لآلة الكمان ومرافقة الأوركسترا الكلاسيكية، وعدد من المؤلفات التي لم تنشر بعد.
تألّق داخلَ وخارجَ سورية
واستطاع "وديع" تمثيلَ بلده "سورية" في المسابقة الدولية السابعة للموسيقيين المؤدين في موسكو في عام 2021 وحصد المركز الأول، متحدياً كلَّ المصاعب في زمن الحرب. ومن الجوائز التي حصدها أيضاً الجائزة الثانية في المسابقة الوطنية للبيانو عام 2021.
ونال الريادة على مستوى سورية عام 2019. إضافةً إلى مشاركاته كعازف بيانو مع الأوركسترا الكلاسيكية لمعهد محمود العجان "2018-2019"، وتجربة قيادة الأوركسترا عام 2021، التي كانتْ وفق تعبيره ممتعةً ومميزةً.
كما أنّ له مشاركاتٍ مع فرقٍ سورية عدّة منها: أوركسترا الأمانة السورية للتنمية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائيUNDP، ومع دائرة العلاقات المسكونية للتنمية - مركز حلم، وحفل عيد الجيش العربيّ السوريّ مع كورال جرحى الجيش عام 2023.
تدريسُ الموسيقا
لقناعته أنَّ الموسيقا ليست فناً فقط، وإنَّما علمٌ أيضاً يحتاج إلى دراسة وتعمُّق، خاض غمار التدريس، وحول هذه التجربة يقول: «تجربتي بالتدريس كانت تجربة مهمة، تطلّبت مجهوداً كبيراً، وحسَّاً عالياً بالمسؤولية لتنمية مواهب تعمل بجدٍّ والتزام، وتقدّر قيمة الموسيقا. ولتشجيع هؤلاء الطلاب على السباحة في هذا العالم، والغوص في دواخلهم، لاكتشاف صوتِهم الداخلي الذي يسمحُ لهم مستقبلاً بالقدرة على وضع كتابة موسيقية خاصة بهم. ويحفِّزهم للإيمان بمواهبهم وقدرتهم على تحقيق أحلامهم».
موهبة استثنائية
«وديع نحَّال ليس موهوباً فقط بل هو استثنائيٌّ»، هكذا وصفه أستاذه في الصولفيج "إلياس سمعان" الذي عاصره قبل دخوله للمعهد إلى تخرُّجه، أي مذ كان عمره تسع سنوات وأجرى له اختبار الانتساب إلى الكورال، وتفاجأَ بمقدرة "وديع الطفل" المميزة على قراءة علامات "البيانو"، ومحاكاة الأصوات التي يسمعها بطريقة لافتةٍ، ما جعله يبدي اهتماماً بتعليمه "الصولفيج" وفق المناهج الأكاديمية. وهذا التميّز جعلَ "وديع" يتجاوز السنوات الدراسية الأولى في معهد محمود العجان "التحضيرية والأولى والثانية" ويدخل السنة الثالثة مباشرةً. ليتابع شغفه واهتمامه الموسيقيَّ، وبحثه المستمر عن المعلومة، وأسئلته التي تنمُّ عن شخصٍ باحثٍ، ما مكَّنه بأنْ تكونَ لديه اليوم مؤلفاتٌ موسيقيةٌ، ويوزع مقطوعاتٍ موسيقيةً للكورال ويُؤلّف له. ففي عيد اليوبيل الفضي للكورال، قدَّم توزيعات موسيقية مميزةً حصلتْ على الكثير من الإطراء.
وعن قدراته المتميزة أضاف أستاذه "سمعان"، قائلاً: «أرى الكثير من التقاطعات بين طفولة وشخصية العازفين "موزارت وشوبان" اللذين يعتبران من أعلام الموسيقا وبين "نحال"، فـ "موزارت" كان لمَّاحاً وذكياً وقادراً على حفظ ومحاكاة أي معزوفة يسمعها، وكذلك الحال مع "نحّال". أما "شوبان" فتميَّز بإحساسٍ عالٍ مُرهفٍ، وبسحر ينبعث من موسيقاه عندما يعزف، وهو الانطباع الساحر ذاته الذي يتركه "نحّال" مع جمهوره، وهذا ما يجعلنا نستبشر بموسيقيٍّ عظيمٍ نفتخرُ به».
حب عميق للموسيقا
عازفة البيانو البروفيسورة "همسة الوادي جوريس" قالت عنه: «التقيتُ به أول مرة عام 2019 في مسابقة "صلحي الوادي العالمية الخامسة للبيانو". حينها فاز بالجائزة الأولى، كما فاز بقلوبنا أيضاً كأعضاء لجنة التحكيم، وبقلوب الجمهور، وعلى الرغم من أنّه كان يبلغ من العمر 12 عاماً فقط، إلا أنَّه أظهر موهبةً كبيرةً. وفي عام 2020 طلب مني أن أدرّسه عبر الإنترنت، فوافقتُ بكلّ سرور، لأنَّني أرغبُ دائماً في مساعدة الموسيقيين والموسيقيات من وطني. ومنذ بداية دروسنا أظهر حماساً كبيراً وقدرةً مميزةً على العمل وحبَّاً عميقاً للموسيقا، وخاصة "البيانو"، والأهم أنَّه يجمع بين فرحته بعزف الموسيقا وعقليته الذكية. وإذا توافرت له جميع الظروف التي تمكِّنه من العمل بثباتٍ وتركيزٍ على ما يحب، فإنَّني أتنبّأ له بمستقبل رائع».
تفوق على مدرسيه
«وديع نحال موهبة متّقدة، وشخصٌ موهوبٌ بالفطرة، امتلك القدرةَ والإرادةَ ومصادرَ التعلّم، وقدرةً كبيرةً نتجتْ عن التدريب والتطوير». حسب مدرّسة الصولفيج سونيا محمد التي تستبشر فيه مستقبلاً لمؤلِّفٍ كبيرٍ وسطَ نجوم عازفي "البيانو" الكبار. مضيفةً: «هو حالة قلَّما تتكرّر، فقد تعرّف على أسرار مفاتيح "البيانو" في زمنٍ قياسيٍّ، وأتقنَ استخدام العديد من الآلات الموسيقية، والآن يعزفُ أفضل من مدرسيه، ويحلِّق مع "البيانو" على أنغام أعلام الموسيقيين الكبار، ويعيش أحاسيسَ كلِّ مؤلف حسب العصر الذي أُلِّفتْ به المقطوعة، ويوصل تلك المشاعر للمستمعين، وبالإضافة للمؤلف الأصلي فإنَّه يصب أحاسيسَ من روحه على المقطوعة في عزفه». مؤكدةً أنَّه موسيقيٌّ غيرُ عادي، ومحبوبٌ من الجميع.