كثيراً ما قام عازفون لآلات موسيقية غربية بعزف ألحان شرقية، ولكن ما حدود إمكانية الآلة الموسيقية الغربية في عزف اللحن الشرقي؟ وكيف يمكن تنويط العمل الموسيقي العربي ليتلاءم مع هذه الآلة؟ وكيف يمكن التعاطي مع ما تحتويه الموسيقا الشرقية من ربع بعد وزخارف موسيقية، ومقامات، وتقاسيم..؟ هل كل الآلات الموسيقية الغربية قادرة على عزف عمل موسيقي شرقي أو مقاربته؟. كلها تساؤلات نسعى عبر السطور التالية لإيجاد إجابات شافية حولها.
احترافية عالية
عازف آلتي "الفيولا" و"الكمان" والمؤلف الموسيقي "مهدي المهدي" تحدث لـ "مدونة الموسيقا" عن كيفية تنويط العمل الموسيقي العربي ليتلاءم مع الآلات الموسيقية الغربية، خاصة أن للموسيقا الشرقية خصوصيتها ففيها ""الربع بعد" كما أنها غنية بالزخارف الموسيقية، يقول:
«يتم إسقاط العلوم الغربية الكلاسيكية في أداء الآلات الغربية عند تنويط عمل عربي لهذه الآلات، أي أن الموسيقا العربية هي أحد أساليب تطبيق العلوم الكلاسيكية في الآلات غربية المنشأ، لكن بطريقة فريدة وخاصة عبر إضافة العُرَب والزخارف الموسيقية العربية، وعبر أداء المقامات الموسيقية العربية وخاصةً التي تحتوي على أجزاء البعد الطنيني "الربع بعد"، بينما الأهم من ذلك كله إضافة الإحساس الخاص بموسيقانا العربية، وهذا الأمر يتطلب احترافية عالية جداً من العازف ومخزوناً من الاستماع والثقافة الموسيقية والانتماء لهوية الموسيقا العربية، ليتمكن العازف من ترجمة هذه الأحاسيس وهذه الثقافة في أداء اللحن العربي المعاصر المكتوب للآلة الغربية. إذ أن بعض العازفين تميزوا بأداء المقامات العربية على الآلات الغربية، وابتكروا أساليب حديثة ومتطورة قد تمثل كسراً لقواعد الأداء الكلاسيكي، وهذا ما ميزهم دوناً عن غيرهم من العازفين».
وإن كانت الآلات الموسيقية الغربية كلها تمتلك القدرة لأن يُعزف عليها عمل موسيقي شرقي، يقول: «هناك آلات لا يمكنها أداء أجزاء البعد الطنيني كآلة "البيانو" وشبيهاتها من الآلات الإيقاعية "الماريمبا، اليبرافون، الإكزيليفون، الغلوكنشبيل"، وآلات النفخ الخشبية "فلوت، أوبوا، كلارينيت، باصون" فيكون دورها مرافق في العمل عربي الهوية، وهنا يكمن دور عملية "التوزيع الموسيقي" لبناء العمل، بينما هناك آلات استطاع عازفون قديرون ابتكار أساليب أداء أجزاء البعد الطنيني فيها، مثل "الغيتار والكلارينيت والترومبيت والترومبون"، وهنا التأليف أو التوزيع الموسيقي سيكون مخصصاً لعازف معين، وإذا لم يتواجد هذا العازف، يقوم المؤلف أو الموزع بتغيير التوزيع ليكون دورها مرافقاً للآلات الشرقية "كبقية الآلات الغربية الآنفة الذكر"».
الموسيقا فكر
عازف "الغيتار" والموسيقي "طارق صالحية" أكد أنه غير مطلوب من الآلة الغربية أن تعزف بديلاً عن الآلة الشرقية، وأن يكون "الغيتار" بديلاً عن "العود" أو "البزق" أو "القانون"، ولكن المطلوب أن يجد دوراً له ضمن هذه الموسيقا.
ويتحدث عن إمكانية تنويط العمل الموسيقي الشرقي ليتلاءم مع الآلة الموسيقية الغربية، فيقول: «بدايةً ينبغي أن يكون العازف فاهماً للموسيقا الشرقية ومقاماتها، وعارفاً بالربع تون "الربع بعد"، والذي مهما حاول عازف "الغيتار" عزفه، وحتى إن قدر على ذلك، فلن يكون بديلاً عن الآلة الشرقية التي تظهر فيها هذه الجمل اللحنية بشكل طبيعي وجميل. ولكن تكمن الشطارة بأن يجد "الغيتار" دوراً مناسباً له، فالعازف الذي يريد أن يوجد دوراً لـ "الغيتار" في الموسيقا الشرقية ينبغي أن تكون في داخله شخصية المؤلف والموزع الموسيقي، وغالباً لا يكتب له أحد ما عليه فعله، أو ربما يكتبون له رموزاً، نسميها هارموني "كوردات". ولكن كيف يتم توظيف ذلك، ومتى يكون دوره أساسياً أو مُحاوِراً، ومتى يقف عن العزف أو يأخذ دور الريادة في عزف "الصولو"، هذا كله له علاقة بفهم الموسيقا وطبيعتها».
ويؤكد أن الموسيقا "فكر"، بغض النظر عن الآلة التي يتم العزف عليها، والعازف هو من يصنع ما يريد تقديمه عبر آلته، فهي أداة، والموسيقي "الشاطر" يجعلها مطواعة بين يديه ويعزف عليها ما يريد. وضمن هذا الإطار يقول: «تجربتي في العزف مع "البزق والعود" والعزف مع فرق صغيرة شرقية أو مطربين شرقيين، جعلتني أعرف وأتخيل كيف أوظّف آلتي، فهناك موسيقيون يكتبون لك دوراً معيناً فيها، ولكن كل المؤلفين الشرقيين لم يصلوا إلى مستوى مهارة كتابة الدور لـ "الغيتار" كما يُكتب له في الموسيقا الغربية وخاصة "الكلاسيكية"، لذلك يكتبون رموزاً ويتركوا الأمر لمهارة العازف».
حواريات موسيقية
قدم عازف الغيتار "طارق صالحية" حواريات بين "الغيتار" و"البزق" مع الموسيقي "آري جان"، كما قدم حواريات بين "الغيتار" و"العود" مع العازفين "حسين سبسبي" و"محمد سبسبي"، حول هذه التجربة وكيف لآلة غربية أن تماشي الآلة الشرقية في عزف مقطوعات شرقية؟.. يقول:
«كنت أؤلف دوري، فهم يعزفون اللحن الرئيسي "الميلودي"، وهو خط واحد في الموسيقا، وكنت أوجِد اللحن الثاني وأقوم بما يسمى "تعدد ألحان" "بوليفوني"، فأنجز لحناً خاصاً للغيتار، بحيث أعزف "هارموني" وأحاور الآلة الأخرى التي تعزف "الميلودي"، فأنا في داخلي شخصية مؤلف وموزع موسيقي يمكنه تخيّل كيف يوجد شخصية لآلة "الغيتار" مع هذه الموسيقا. ولكن دائماً يُظلم عازف "الغيتار" عندما يعزف موسيقا شرقية وهو يوجِد دوره، فأضع لحن آلتي وأوجد لها دورها في الحوارية. وكنت مع "آري جان" ومع "محمد وحسين سبسبي" أسمع اللحن منهم وأخترع دوراً لآلتي يلبق مع دورهم، وينمو هذا الأمر بشكل تدريجي في البروفات».
موهبة العازف
عازف آلة "الكلارينيت" الموسيقي "باسم صالحة" تحدث عن إمكانية عزف الآلة الموسيقية الغربية للحّن الشرقي وحدود عزف "الربع بعد"، قال: «مدى إمكانية إظهار اللحن أو المقام الشرقي عبر الآلة الغربية يعتمد على موهبة العازف، بأن يستطيع تقديم اللحن وترجمته على آلته، وهو يدرك أن "الربع تون" ليس حكراً على الموسيقا العربية، فهو يُستخدم في الموسيقا الشرقية التي تشمل تركيا ودول البلقان بما فيها "أذربيجان، ألبانيا، بلغاريا، اليونان"، ويختلف بين بلاد الرافدين ومصر، إضافة إلى الفلكلور اليمني. فإظهار "الربع تون" مرتبط بسوية العازف على آلته الغربية، فإن كانت نفخية هناك طرق يمكنه التصرف فيها، وإن كانت وترية فحسب وضع الإصبع يُخفّض التون وفقا للون الموسيقي الذي يعزفه إن كان تركياً أو عربياً. وبالتالي يمكننا العزف على أية آلة غربية بالأسلوب العربي أو التركي، وعلامة "الربع تون" الشرقية تتغير حسب الجغرافيا، بحيث نسمعها "على سبيل المثال" في مصر بشكل مختلف عما نسمعها في تركيا أو اليونان..».
وعن كيفية التعاطي مع ما تحتويه الموسيقا الشرقية من زخارف موسيقية ومقامات وتقاسيم..، يقول: «نعتمد على خيال العازف وإمكانياته الإبداعية فيما يتعلق بالزخارف الموسيقي، ومن يعزف الموسيقا الشرقية يكون لديه هامش إبداعي كبير وارتجالي لحظي، فالتقاسيم ارتجال، أي أنه لحن على مقام معين يرتجله العازف، والتقاسيم حرة ليس لها ضوابط إيقاعية، في حين تتنوع المقامات الشرقية، فهناك مقامات أساسية وأخرى فرعية، بإمكان العازف إن كان لديه كم من الموهبة أن يترجمها على آلته غربية كانت أم شرقية».