لم يكن يوماً موالاً عادياً أو مقدمة لأغنية، كان في الغالب صوتاً يحمل الشجن وآلاف الحكايات، اختزل قصص الحب والفراق والهجر والشوق والظلم والحنين والملاحم المتناقلة عبر الأجيال، محافظاً على الهوية الكردية ولايزال. من سهول الجزيرة وعفرين وعين العرب "كوباني" وريفها صدح صوت "المواويل" لينقل حكايات الأجداد، في حين اقتصر استخدامه في دمشق على مناسبات الأعراس فيها.
بين الموروث والارتجال
يمكن أن يُغنى "الموال" وحده ويكون ارتجالياً أو متوارثاً من التاريخ والتراث وقد يسبق الأغنية، وتختلف مدته من دقائق إلى ساعة، كما يختلف حسب تنوع المنطقة الجغرافية، واشتهرت "عين العرب" "كوباني" بـ "المواويل الكردية"، فأدتها النساء هناك، ليس بغرض الغناء فقط ولكن نقلاً للتراث، واعتُبِرت كنوع من تناقل التراث الشفوي.
وغالباً ما يؤدى "الموال" بشكل حر دون إيقاع أو يرافقه عزف على "الطمبورة" أحياناً ويغنى في سوريا باللهجة "الكرمانجية". ومن المواويل المشهورة موال "lo Dilo" "يا قلبي"، ويقول:
آه يا قلبي يا حبيبي
ذهبت إلى قمة الجبل
وبقيت أنا في واديك
قلبي يبكي من أجلك
ونقلت "المواويل الكردية" جزءاً من بعض الملاحم الشهيرة، مثل ملحمة "ممو زين" للشاعر "أحمد الخاني"، وتحكي قصة حب وتضحية وفراق وتناقلتها الأجيال منذ القرن السابع عشر فاستخدم جزء منها كـ "موال ملحمي" طويل.
غنى الكثير من الفنانين "الكرد" الموال مثل: "بافي صلاح، أومري جملو، محمد عارف جزيري، سعيد آغا جزيري، بافي خدو، بوزان أحمد". وغنى بعض الفنانين "الأكراد" الموال كجزء من أعمالهم الغنائية مثل الفنان "شفان مدي".
الحنجرة الذهبية
حين نتحدث عن "الموال الكردي" يبرز اسم الفنان "مجو كندش" وهو مغنٍ وملحن وعازف بزق وملقب بـ "صاحب الحنجرة الذهبية"، ابن مدينة "عين العرب" "كوباني"، نشأ في بيئة موسيقية وأسس فرقته الخاصة التي قدم من خلالها التراث الغنائي "الكردي"، وشارك في العديد من الحفلات واشتهر بغناء "الموال الكردي"، يتحدث لـ "مدونة الموسيقا" عن تجربته قائلاً:
«تجربتي مع "الموال الكردي" تعود إلى الطفولة، حيث كانت جدتي لأبي تحفظ الكثير من "الملاحم الكردية" المؤداة على شكل موال، فتغنيها لنا بليالي الشتاء الباردة والطويلة، أما جدي لأمي فكان حكواتياً يروي لضيوفه قصص البطولات والحكايات الخرافية من التراث الكردي الشفوي، وعمي يصدح بصوته الجميل بين حقول القرية، أما الوالد فيدعو كبار المغنين في "كوباني" مثل "بافي خدو ومامدي كاشو" وغيرهما إلى مضافته لغناء الملاحم القديمة لضيوفه القادمين من عفرين». ويشير إلى أن الحس والأذن الموسيقية والصوت الجبلي والموهبة كانت المحرك الأساسي لاختياره هذا النوع من الغناء.
وحول التغيير الذي طرأ على "الموال الكردي"، يؤكد أنه حافظ على خصوصيته شكلاً مع تغيير في المواضيع والوظائف، يقول: «من الطبيعي أن يتغير "الموال الكردي" التقليدي، وخاصة في مضمونه ليتماشى مع المتغير زمنياً، فكان يُغنى لساعات، وبات يُغنى لدقائق والسبب تقني بحت، فقبل ظهور الأسطوانات كان المغني هو الناشر الفعلي للقصص والأساطير والملاحم التي تتوارث شفوياً من جيل إلى جيل، مع بعض التعديلات التي تفرضها ضرورات المرحلة، فيقوم المغني بدور المذياع والتلفاز والمسرح معاً لدرجة أن العديد منهم حصلوا فيما بعد على ألقاب كالآغا والأفندي، فالمضامين السياسية والاجتماعية بالمعنى المعاصر أضيفت على الموال الكردي التقليدي في القرن العشرين».
ويشير إلى أن "الموال الكردي التقليدي" في سوريا يتشابه كشكل موسيقي في جميع المناطق التي تقطنها الغالبية الكردية، أما فيما يخص اللهجة والمضمون فتختلف من منطقة لأخرى، لكن الروح المميزة تظل واضحة أينما ذهبنا. مؤكداً أن لحنه بسيط ذو إيقاع حر، يُستخدم عادة لسرد القصص والملاحم الطويلة، وهو الخزينة التي تحافظ على الكثير من العادات والثقافة والتاريخ. لافتاً إلى أن "المغني الكردي التقليدي" ينبغي أن يتميز بذاكرته القوية وحضوره المميز وحفظه للكثير من المواويل الموروثة وقدرته على الارتجال وإعطاء النص الأصلي بخياله ليتلاءم مع بيئته الاجتماعية وعصره .
الصوت الجبلي
الفنان "شفان شهاب حاجي" والملقب بـ "شفان ميدي" من مدينة القامشلي، ويُعد من أبرز الأصوات الحديثة، جمع في أغانيه وأدائه بين التراث الكردي والإيقاعات المعاصرة وحظي بشعبية واسعة. وأشتهر بأول أغانيه "سباسدكم ازته ياري"، وغنى "الموال الكردي" بصوته المميز، يقول لـ "مدونة الموسيقا":
«تجربتي الشخصية في غناء "الموال الكردي" كانت ناجحة فطبيعة "الفلكلور والموال الكردي" تميزهما بالأصوات الجبلية، وكان صوتي ملائماّ لهذا النوع من الغناء». وحول تطور "الموال الكردي" واختلافه من منطقة إلى أخرى، يقول: «جاء تطوره وفقاً للموسيقا الحديثة كذلك وفقاً لمؤديه، لأن الإحساس والأداء يختلفان من فنان إلى آخر، كما تختلف العادات والتقاليد من منطقة إلى أخرى، وتختلف لهجة ولون الموال والمحتوى العام له. ولكن من مئات السنين نصف جمال المناطق الجبلية والزهور والطبيعة والحب والعشق».
لحن بسيط وإيقاع حر
الباحث والموسيقي والفنان "تيار علي" الذي يمتلك حضوراً مميزاً على الساحة الفنية الغنائية "الكردية" تحدث لـ "مدونة الموسيقا" عن الموال وتسميته أكاديمياً معتبراً أن الأغنية الملحمية الكردية "اللاوك" توازي الموال، فهما الشيء نفسه، كقالب موسيقي وليس كمضمون. فـ "الموال" تسمية عربية بينما "اللاوك" تسمية كردية. وعن نقاط التوازي والاختلاف بينهما، يقول:
«ينبغي ألا تُطلق تسمية "موال" على "الأغنية الملحمية الكردية"، إذ أن لهذه الأخيرة طابعاً خاصاً يختلف بنيوياً وجوهرياً عن "الموال"، رغم انتمائهما إلى قالب موسيقي واحد. فالاثنان يندرجان ضمن إطار "الأدليب"، أي الأداء اللحني الحر غير الخاضع للمقاييس الإيقاعية "الموازير". ومع ذلك، فالاختلاف في المضمون بين الشكلين الغنائيين كبير. فبينما يُعدّ "الموال العربي" أقرب إلى التعبير اللحظي عن الوجد والحنين، تأتي الأغنية "الملحمية الكردية" التي تُعرف أكاديمياً وتوثيقياً باسم "لاوك" بوصفها شكلاً فنياً مستقلاً يتناول مضامين سردية وشعرية ملحمية».
وعن جوانب "اللاوك" يقول "تيار علي": «تُستخدم هذه التسمية تحديداً بين "الكُرد" في "سوريا وتركيا"، وتتميز الأغنية الملحمية الكردية "لاوك" بـ "البنية الشعرية، الوظيفة الثقافية"، حيث تقوم "البنية الشعرية" على غناء قصص شعرية طويلة تجمع بين العشق والفروسية، وتغوص في الأحداث الجانبية التي تتضمن الحبكة والعقدة والتشويق، مما يجعلها أقرب إلى الرواية أو السيرة الملحمية. وفيما يتعلق بـ "الوظيفة الثقافية" فقد أدّت الأغنية الملحمية الكردية دوراً محورياً في نقل القصص والسير والأحداث التاريخية، سواء كانت مشوقة أم مأساوية، مما يجعلها إحدى وسائل الحفظ الشفهي للتراث الكردي».
وفيما يتعلق بالبنية الموسيقية والبنية المقامية في الأغنية "الملحمية الكردية"، يقول: «تُعدّ هذه الأغنية نموذجاً فريداً من حيث معالجتها للمقامات الموسيقية، فهي لا تلتزم بالبنية التقليدية الكاملة للمقامات المعروفة في الموسيقا الشرقية، بل تعتمد أسلوباً خاصاً يضفي عليها خصوصية فنية متميزة، ويمنحها طابعاً مستقلاً داخل المشهد الغنائي الكردي».
ويوضح أن مؤديها يعتمد على تناولات جزئية للمقامات، فيلجأ أحياناً إلى استخدام جنسين مجزأين، أو يبدأ الأداء من الدرجة الثالثة في السلم المقامي، مما يُحدث نوعاً من الإرباك لدى المتلقي أو المحلل الموسيقي غير المتخصص. فيبدو وكأن تلك الدرجة هي تون الاستقرار، بينما يكون الاستقرار اللحني الفعلي مُبهماً، لا يمكن تمييزه إلا من قبل المتعمقين في علم المقام والموسيقا النظرية.
ويتابع: «يُضاف إلى ذلك السمات الفريدة للمسافات الصوتية "الإنترفالات" المستخدمة في هذا النمط الغنائي، مما يمنح الموسيقا "الكردية" بشكل عام، والـ "لاوك" بشكل خاص، بصمة صوتية مميزة. إذ تُوظف هذه المسافات بأسلوب درامي يخدم الطابع السردي الملحمي، ويُسهم في بناء التوتر والانفعال العاطفي في بنية الأداء. وهذا التفاعل الذكي مع عناصر المقام والمسافة الصوتية يجعل من "لاوك" قالباً غنائياً له بنية معقدة من حيث التركيب اللحني، لكنه في الوقت ذاته غني بالتعبير، ومرتبط بعمق بالهوية الثقافية الكردية».
الأداء الصوتي
حول الديناميك والتكتيك الأدائي في "لاوك" يتابع الفنان "تيار علي" حديثه: «تُعد الحناجر التي تؤدي الأغنية "الملحمية الكردية" من أبرز العناصر الفنية التي تمنح هذا اللون الغنائي فرادته. إذ يتميز مؤديها بقدرات أدائية عالية، تتجلى في الزخارف الصوتية "العُرب" والانفعالات التعبيرية الدقيقة، التي تحاكي بنجاح القصة الشعرية والحدث السردي. فالأداء لا يكتفي بنقل النص، بل يُترجم مضمونه بصوت نابض وعاطفة صادقة، ورغم الطول الزمني الذي قد تتسم به الملحمة إلا أن المستمع يبقى مشدوداً دون ملل بفضل ما يتضمنه الأداء من تشويق درامي وتحولات شعورية، ما يجعل من كل لحظة في الأغنية محطة سمعية مختلفة».
وعن الاختلاف في "الموال" حسب المكان الجغرافي يقول: «هناك اختلاف بين الأغاني "الفلكلورية الكردية" عامة، وهنا أقصد "الأغنية الإيقاعية والملحمة الكردية"، ولعل السبب هو حال كل اللغات ولهجاتها، ففي اللغة والموسيقا والغناء، تظهر هذه الاختلافات جلية، وهناك اختلاف في لهجات اللغة "الكردية"، حيث تتميز كل منها بخصوصية تساعدها في التعبير عن روح الإنسان وخلجات النفس، فعلى سبيل المثال في المناطق "الكردية الجبلية" تكون اللهجة مبسطة، والتعبير الصوتي أقرب إلى تعابير الأطفال، ويكمن السبب في طبيعة الجغرافية وبرودة الطقس، فيضطر الساكن فيها لأن يبتلع بعضاً من الحروف، وهنا تكمن الرابطة السببية بين اللغة وصوتياتها من جهة والموسيقا والغناء من جهة أخرى، لأن الرابطة والعلاقة التعبيرية بينهما هي الصوت، وكما تؤثر الطبيعة على الإنسان ومزاجه وتكوينه النفسي، فهي تؤثر في تكوينه الانفعالي والتعبيري والثقافي».
وينهي كلامة بالإشارة إلى أن "اللاوك" لا يمثل قالباً موسيقياً فقط، بل يُعد "كلاسيك الفن الكردي"، ويتابع: «على الرغم من قيمته الجوهرية، فإننا "حتى اليوم" لم نغرف من هذا الفن العظيم إلا القليل، وما زال يشكل مصدراً غنياً لإعادة بناء "فن كردي حداثوي" يحمل طابعاً أصيلاً ويستمد تفرده من جذوره«.