كان للموسيقا والأغنية حضور هام في الحروب والثورات، حتى أنه كان يُقال "دقت طبول الحرب"، في دلالة على دور الموسيقا في استنهاض الهمم، وفي الزمن الغابر أقيمت الحروب بمرافقات موسيقية، إن كان عبر الطبول أو من خلال الأصوات البشرية.
استنهاض الهمم
أثبتت الأغنيات والأناشيد والأهازيج حضورها البارز في مسيرة الثورة السورية، لا بل تميزت عن غيرها من الثورات بهذه الظاهرة التي كان لها وقعها الخاص ممتلكة قوة تأثير حقيقية وقدرة على استنهاض الهمم في الساحات والتجمعات والمظاهرات، لأنها جاءت من رحم الحدث معبّرة بصدق وعفوية عن آلام ومعاناة ووجع الناس، حتى أن حدتها تصاعدت بشكل تدريجي بما في ذلك المطالب التي حملها منشودها، داعية إلى إزاحة غمة الاستبداد وإسقاط النظام البائد، منتصرة لنور الحرية.
كانت تُردد الأغنيات بحماس كبير وإيمان أن النصر آتٍ، وبسبب المكانة التي احتلتها في نفوس الناس، كان مغنو الثورة مستهدفين لما شكلت كلمتهم المُغناة من قوة شكلت خطراً يُخشى منه، وأسطع مثال على ذلك، "عبد الباسط الساروت" الذي استشهد بعد أن غنى أجمل الأغاني وأكثرها تأثيراً، شانه في ذلك شأن الشهيد "ابراهيم القاشوش".
عديدة هي أسماء من لحنوا وكتبوا وأنشدوا وغنوا للثورة، ومن أبرز الموسيقيين الذين وقفوا إلى جانب الثورة السورية وبقوة، الموسيقار "مالك جندلي" حتى أنه خرج في تظاهرات أمام "البيت الأبيض" نصرة لشعبه عام 2011، وقام بتلحين "وطني أنا"، كما أصدر مجموعة أعمال أهداها لسوريا، منها "سوريا نشيد الأحرار، يا الله"، وتوّج ما قدمه عبر سيمفونية "سوريا نشيد الأحرار" التي روى من خلالها حكاية ثلاثة عشر عاماً من الثورة، وجاءت بأربع حركات تتناول مراحل الثورة، أولها سريعة تحكي عن اندلاع الثورة وكيف جوبه المتظاهرون بالاعتقال والقتل، وثانيها متوسطة السرعة وذات إيقاع رشيق غلب عليها الحزن، الحركة الثالثة روت حكاية المجازر، وتميز الحركة الرابعة والأخيرة بذروة كبيرة مشيرة إلى المضي قدماُ في طريق الثورة الذي لا حياد عنه وصولاً إلى النصر.
غيض من فيض
صدحت بالأناشيد الثورية حناجر نادت بأعلى صوتها مقارعة الظلم، ناسجة خيوط كلماتها من عمق الروح، تارة تستلهم موسيقا تراثية وشعبية معروفة ومحبوبة عند الناس، وتارة أخرى تؤلف لها ألحان قريبة من الجمهور المنتفض على الطاغية، والهدف أن تكون صرخة في وجه الظلم، ساعية إلى تخليد الأحداث بما فيها من تضحيات وصرخات وحكايات وآمال.
كثيرة هي الأغنيات التي انتصرت للثورة والوطن، لامست القلوب وعلّت من الهمم، وكان لها وقع مؤثر في النفوس، ومن أبرز مغنييها "عبد الباسط الساروت" الذي لُقّب ببلبل الثورة "1992 – 2019"، وبرز اسمه منذ البداية، حيث قاد المتظاهرين بما شدا من أناشيد وهتافات سرعان ما تحولت إلى أغانٍ رددها الناس في كل مكان، وامتازت أغانيه بالكلمة البسيطة والمعنى العميق، ملامسة الوجدان منادية للحرية المُبتغاة. ومن أغانيه وأهازيجه "جنة جنة، لأجل عيونك يا حمص، ساقط ساقط، ثورة، حلم الشهادة، لو ترجع، يا إدلب جدي ونادي، هذا الوطن للشهيد، يا يما بثوب جديد".
"إبراهيم القاشوش" الذي أُطلق عليه أكثر من لقب "عندليب الثورة، قاشوش حماة، قاشوش الحرية، حنجرة الثورة"، من مدينة حماة "1977 - 2011"، أنشد لمدينته لتتنفس الحرية في ساحة العاصي، ومن أهم ما قدم "سوريا بدها حرية" و"يلا ارحل يا بشار"، وهي أناشيد رددها المتظاهرون في مدينته حماه وما لبثت أن انتشرت لتتناقلها معظم المظاهرات داخل سوريا.
أما "أحمد القسيم" فاشتهر بأغنية "ارفع راسك فوق أنت سوري حر" التي حملت روحاً حماسية وشكلت دعماً نفسياً للمتظاهرين، وباتت بعد التحرير من الأغنيات الأكثر انتشاراً لما تحمله من معانٍ محملة بالعزة والعنفوان.
"وصفي المعصراني" الذي أحيا بمناسبة الذكرى الأولى للتحرير حفلات في محافظات سورية "حمص، طرطوس"، استطاع توظيف الموال لخدمة الثورة عبر ما قدم من أغنيات، ومن أغانيه الثورية: درعانا تنادي، حمص يا دار السلام، بوطني، حب الوطن، داريا الجريحة، إدلب النصر، يا طير خدني على وطني سوريا، يا رايح عالديرة، يا واقف على بواب الشهباء".
وجع الشارع ومطالبه
تواصلت "مدونة الموسيقا" مع المنشد الثوري "ماجد الخالدي" في "لوكسمبروغ"، والذي قدم أعمالاً بقيت في الذاكرة، وبعضها تجاوز بعدد مشاهداته المليون ونصف مشاهد عبر "اليوتيوب"، ومنها "انتصرنا، اذهلتم الأمة، يوم انتصار الثورة ـ ثوار جينا بليل، سوريا جيشك شعبك، المجد سوري هنا".
يشير "الخالدي" في بداية حديثه إلى أنه يسمي ما يُقدم ضمن هذا الإطار بـ "أهازيج ثورية" أو "أناشيد" وليس "أغاني" الذي يرى أنه مصطلح يمكن له أن يخلط بين العديد من المفاهيم، وحول النشيد الذي قدمه ووجد أنه الأقرب إلى نبض الشارع يقول: «الأجمل هو نشيد "بني أمية أصلهم ذهب"، لأننا شعب قُتل باسم الطائفية وهو بعيد عنها، شعب طحن باسم ثارات وهمية لا علاقة له بها، فالغلاف سياسي لكن "على الأرض" العقائد الدخيلة هي من صنعت هذا الوحش».
وحول السر الكامن وراء تجاوز عدد المشاهدات المليون ونصف وأكثر لعدد من أناشيده، يقول: «السر بأننا عشنا واقع الحرب وفهمنا أنه لن ينصرنا إلا الله سبحانه، وعبر كل تقلب أحوال أتكلم عن وجع الشارع ومطلبه في هذه الأناشيد، كما أن الناس يعرفونني ابن الأربعة عشر عاماً من الثورة والمبدأ الواضح، وصديقاً للساروت».
وعما ينبغي أن يتوفر في "أهازيج وأناشيد الثورة" لتكون قريبة من الناس، يقول: «من أهم فهم الثورة "الأهازيج الثورية"، فهي التي أوصلت صوت الشارع ومطالبه وحقيقته وهدفه ووطنيته وغايته، في حين أن السلاح لم يوصل هذا الأمر ولا يوصله».
"إلى أي مدى شكّلت الأغنية الثورية حالة استنهاضية؟"، يجيب قائلاً: «النشيد الثوري حق نطالب باسترداده، ووجب الاستمرار باستنهاض الهمم وإيصال رسالة "لا تراجع ولا استسلام" حتى ننال الهدف». وعن الفارق بين الأناشيد الثورية قبل وبعد التحرير، يشير إلى أنه بعد التحرير أصبحت الأناشيد التي تحمل اسم "بشار" طيلة أربعة عشر عاماً غير مرغوب فيها، يقول: «كل ما يذكر "السوري" أنه بطل يصبح "تريند"، خاصة عندما تستذكر الشهداء والجهاد واالثبات على هذا الطريق».
أغنيات مؤثرة
المايسترو والمؤلف الموسيقي "مهدي المهدي" تحدث لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «رافقت الثورة السورية مجموعة من "الأغنيات والأهازيج الشعبية" بالتزامن مع انطلاقها، وحتى بعد انتصارها، ومن أوائل المغنيين الذين غنوا لها "عبد الباسط الساروت"، ومن أشهر أغانيه التي اشتهر بها أغنية "جنة جنة"، التي غنّاها منذ القديم الفنان السوري الراحل "أسعد الجابر"، لكنّها في الأساس أغنية من كلمات الشاعر "كريم العراقي"، واللحن غير معروف الأصل، ويرجح أنه لحن قديم من التراث الفراتي، وكانت تُؤدى على إيقاع "التشوبي" الخاص بمنطقة "الفرات"».
ويتابع: «من الأغنيات المؤثرة في الشارع السوري والتي غناها "الساروت" أيضاً أغنية "يا يُما بـ ثوب جديد" وهي من كلمات "أيمن أبو سامر" وألحان "وصفي المعصراني" الذي لحن لـ "الساروت" أيضاً أغنية "حانن للحرية" وغيرها، ويعتبر "وصفي المعصراني" أيضاً من فناني الثورة الأوائل، فقد قدم العديد من الأعمال الغنائية، منها ما اقتبس ألحانه من أعمال مشهور كنشيد "موطني" وغير بعض الكلمات لتتوافق مع أفكار الثورة، ومنها من لحنه بنفسه، نذكر منها: "عالهودلك" من التراث، "دقوا طبول الفرح" من ألحانه، نشيد "موطني" ألحان "محمد فليفل"، "شدوا الهمة" لـ "مارسيل خليفة"، وغيرها الكثير».
ويشير "المهدي" إلى أن "الساروت" أطلق قبل رحيله آخر أغنية "سوريا ظلي واقفة رغم الجروح النازفة، لا بد يلفي العيد"، وختمها بعبارة "ثورتنا هذه كاشفة، سوريا ظلك واقفة". ويذكر فيما يلي أشهر أغنيات "عبد الباسط الساروت" مرفقة بتواريخ إطلاقها: "جنة جنة" 2012، " يايما بثوب جديد" 2014، "حرام عليك" " ثورة ثورة" "هذا الوطن للشهيد" "سوريا ضلي واقفة" 2015.
ارفع راسك فوق
يذكر المايسترو "مهدي المهدي" أن من أشهر أغنيات الثورة أيضاً "ارفع راسك فوق أنت سوري حر" التي اشتهرت بصوت الفنان السوري "أحمد القسيم"، وغناها في بداية الثورة السورية كرمز للأمل والحرية، وهي أغنية شعبية ارتبطت بالثورة السورية، ويعتقد أن الكلمات واللحن نبعت من الروح الثورية، وهي من تأليف وأداء "أحمد القسيم" نفسه، وانتشرت من جديد بعد انتصار الثورة انتشاراً واسعاً.
كما اشتهرت أغنية "سكابا يا دموع العين" فترة الثورة، ويشير إلى أنها في الأصل أغنية تراثية "دمشقية" على مقام "الصبا"، وتم تغيير كلماتها لتناسب الثورة، وأداها فنانون مثل "الجان الأخرس، عبد الباسط الساروت"، وأصبحت رمزاً للحنين والألم والفرح، مع استخدام كلمات بسيطة ومعبّرة عن عمق المشاعر والتاريخ السوري الأصيل، ويؤكد أن "الجان الأخرس" يعتبر من الفنانين الذين ساهموا في إبرازها وتداولها في سياق الثورة، حيث أشار إلى رغبته في تقديم عمل باللهجة السورية يتناسب مع التراث.
وعن أهم الفنانين الذين اهتموا بتقديم أعمال للثورة السورية يذكر أيضاً الملحن السوري "مالك جندلي"، ومن أبرز أعماله "سمفونية القاشوش" التي كُرِست بشكل خاص لـ "ابراهيم القاشوش" وهي تقوم على لحن أنشودة "يلا ارحل يا بشار" التي كان ينشدها "القاشوش" في المظاهرات. وهناك أيضاَ نشيد الأحرار "سوريا وطن الأحرار" الذي كتب كلماته ولحنه ووزعه أوركسترالياً.
ويتابع المايسترو "مهدي" حديثه عن الأغنيات الخاصة بالثورة التي انطلقت بعد الانتصار والتحرير، يقول: «هناك "نيالك يا سوري" لـ "خالد الحلاق"، وهي من كلمات وألحان "إيفان نصوح"، وأغنية "دوري يا فرحة" لـ "فضل شاكر" من كلمات وألحان "جمانة جمال"، كما جاءت مباردة الفنانة السورية "أصالة نصري" التي كانت من مناصري الثورة، وأدت أغنية "ارفع راسك فوق" بحلة جديدة وإضافة مقطع "سوريا جنة والفرح سوري" والتي ترددت على مسامع الشعب السوري مؤخراً».
وينهي "مهدي المهدي" كلامة بالقول: «من هذه الأغنيات ما هو ذو قيمة فنية عالية ومؤثرة، ومنها ما هو أكثر شعبوية على حساب القيمة الفنية، ونتمنى ختاماً أن تؤرشف هذه الأعمال بصيغة جديدة وبتوزيع أوركسترالي يليق بمستوى الأغنيات الوطنية الخالدة، ومن الممكن صباغة بعضها بشكل كورالي، وهو أمر يتطلب فريق عمل يُعنى بهذا المشروع، لتؤدى بالشكل الأمثل على المسرح من جهة، ولتكون مرجعاً فنياً موسيقياً للأجيال القادمة من جهة أُخرى».