نتابع في هذا الجزء الحديث عمّا تركه "إِمامُ المسرح الغنائي" الشيخ "أحمد أبو خليل القباني"، بالعودة إلى عدة مراجع، وبعد التواصل مع عدة نقّاد تحدّثوا لـ"مدونة الموسيقا" كي لا يبقى تراثه الموسيقي من ألحان وموشحات طيّ النسيان أو في دائرة الجهل به.
شَخصِيَّةُ "القَباني" المُوسِيقِيَّةُ
الإعلامي "بديع صنيج" يحدث "مدونة الموسيقا" عن تميز الراحل قائلاً: "رغم أن العصر الذي عاش فيه "القباني" لم يكن فيه آلات تسجيل، ولا أسطونات، كما أن التنويط كان غائباً، إلا أن الفضل فيما وصلنا من أعمال هذا المبدع السوري يعود إلى تلاميذه، الذين حفظوا أو أمْلوا ما يحفظون على بعض الباحثين، لدرجة أن أغلب التسجيلات النادرة والمتوافرة من تراثه يعود إلى ما بعد حوالي ثلاثين عاماً من وفاته".
ويبيّن "صنيج" أن "القباني" درس الموشحات العربية على أيدي نخبة من المبدعين، مثل "علي حبيب" و"أحمد عقيل" في "دمشق" و"حلب"، وراح يبحث في الموروث العربي بين الألحان والموشحات وبين المعاصر منه أيضاً، ويبدو أنه حفظ الكثير من الكلمات والألحان، وقدّمها على مسرحه في "دمشق" و"الإسكندرية" و"القاهرة"، وكان إذا لم تَرُقْ له كلماتُ بيتٍ من الأبيات أو جملة من الألحان، يلجأ إلى تلحين جديد، فيعطي الموشح مقاماً وإيقاعاً جديدين.
وفي أحيان أخرى، كان يأخذ من موشح قديم الدور الذي يستعذب لفظه ومعناه فيجعل منه موشحاً جديداً، كما أنه وضع عدداً من الموشحات التي تعد -حسب الكثير من النقاد الموسيقيين- أم النغمات العربية، مستفيداً من التراث والمعاصرة ومن اللغتين: التركية والفارسية، ومن علوم اللغة والدين، ومن شاعريته عالية المستوى، فجاءت موشحاته أصيلةً لحناً ولغة، ومنها على سبيل المثال: "آه وأشواقي لأوقات الوصال، "هات يا باهي السناء بالله يا باهي الشيم"، "بروق مربع النجد"، "سباني قد بدا باهي المحيا".
مُؤَسِّسُ المَسرَحِ الغِنَائيِّ فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ
والجميل في "القباني" -حسب الصحفي "صنيج"- أنه وظف معارفه في خدمة مسرحه، فبعد أن تتلمذ على يد الفنان الحلبي "أحمد عقيل" في فن الموشحات ورقص السماح، واستطاع أن يقدم رقصات وموشحات ضمن مسرحه بأسلوب سلب به عقول الناس، لدرجة أن الشيخ "سلامة حجازي" أرسل تلميذه "ممدوح رحمي" لينضم إلى جوقة القباني، ليأخذ الألحان ويعرف ضربها وتوقيعها، فقام بما كلف به قياماً مرضياً وذلك حسبما جاء في مذكرات "مريم سماط" إحدى مغنيات الكورال مع "القباني"، والتي نشرتها جريدة "الأهرام" عام 1915، وكل هذا وغيره جعل الفنان "محمد كامل الخلعي" يصف رائد المسرح السوري بـ"أستاذ التمثيل والموسيقا الشرقية"، كما اعترف بفضله الفنان "يوسف وهبي" حين قال عنه: "أعطانا شيئاً لم نكن نعرفه في مصر، والذي قدم وبنى المسرح العربي الأول في مصر هو أبو خليل القباني".
وما يثبت ذلك أنه حين انعقد المؤتمر العربي الأول في "القاهرة" عام 1932، كانت ألحان القباني موجودة، فغنّى "الدرويش" و"الحريري" عدداً منها، وحين قدم البارون "دي رلنجر" بحثه في الإيقاعات العربية للمؤتمر استخدم في أمثلته الموسيقية موشحاته، أما الباحث "جبرائيل سعادة" فيقول عنه: إنه "عميد الموسيقا في "سورية"، ومؤسس المسرح الغنائي في الوطن العربي، كما أنه علم من أعلام الحضارة العربية الحديثة، وتراثه يحتاج إلى عناية كبيرة.
جُمَلٌ مُوسِيقِيَّةٌ تُشبِهُ فَنَّ الفُسيفِساءِ الدِّمَشقِي
"مهدي المهدي" مؤلف وموزع موسيقي يعتبر "القباني" من مؤسسي الموسيقا، وهو أول من كتب ولحن، وأول من قدم مسرحيةً غنائيةً باللغة العربية، وهو -حسب اعتقاده- معلم الكل في "دمشق"، درس الموشحات في "حلب"، ورغم محاربته من المتشددين في دمشق وقولهم له (ارجع لـ"كارك" قبّاني) وكان يطرق الأبواب باحثاً عن مشخصاتية، أي ممثلين، وكان يطرد في أغلب الأحيان، كان يحاول نشر رقص السماح الذي سمي آنذاك بنقل السماح، حيث يمكنه نقل هذه الحركات الصوفية التركية الأصل لترافق الموشحات، ونقل هذا الفن وأصبح له هوية سورية دمشقية مستمرة حتى يومنا هذا "المولوي"، وهو ملك الموشحات في "دمشق" وتبعه عدة ملحنين "زهير منيني"، "عدنان أبو الشامات"، "عبد الفتاح سكر".
ألحان القباني خالدة، هو يحمل الهوية السورية في اللحن، وهي الجمل القصيرة المفصلة، أي جملة موسيقية تتكون من أجزاء صغيرة كفنِّ الفسيفساء في "دمشق"، مثل موشح "ياغصن نقا مكللاً بالذهب" وعندما ذهب إلى "مصر" جاءه "سيد درويش" -الذي يُعدُّ مؤسس الموسيقا في مصر- طفلاً وقرأ له القرآن بصوته العذب، فأصبح تلميذاً عند القبّاني".
مَنظُومَةٌ فَنِّيَّةٌ مُتَكَامِلَة
ويتابع المؤلف الموسيقي "المهدي" قائلاً: "أعدت توزيع موشحي "نمَّ دمعي" وكان الحفل خاصاً بالأعمال الدمشقية حصراً مع الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية، و"ما احتيالي" بقيادة المايسترو "عدنان فتح الله"، وهناك عدة تسجيلات لموشح "ما احتيالي" لمطربين من حلب مثل "صباح فخري"،"صبري مدلل" ولكنّي اعتمدت على تسجيل "مصر"، وأدعو وزارة الثقافة ودار الأوبرا إلى إقامة حفل يحتوي عدداً كبيراً من أعماله، تحيّةً إلى روح العملاق الراحل الذي لديه كتاب كامل من الموشحات.
عندما أرى صورة "القباني" أشعر بعبق الموسيقا الشرقية والعربية، هو قامة موسيقية لن تتكرر في الوطن العربي، كان منظومة فنية متكاملة يجب ألا تُنسى من ذاكرة الدمشقيين بالذات، أشعر أن ألحانه تشبهنا جينيّاً، ويجب أن ننطلق منها، فعندما نريد تأليف أعمال موسيقية جديدة يجب أن نستوحيها من التراث الذي تركه هذا الموسيقيّ الذي لن يتكرر والذيُ دعي أثناء إقامته في "مصر" إلى "أميركا" وحظي بعرض مُغرٍ للسفر إليها مع فرقته من ممثلين وراقصين لتقديم العروض هناك، هذا العملاق يشكل منظومة فنية متكاملة كتب لزوجته قائلاً: (هنا توجد العديد من النساء الجميلات لكن: إحنا نحبّك إنتِ) ومحدثاً إياها عن اختراع الكاميرا آنذاك".
قِرَاءَةٌ نَقدِيَّةٌ
الناقد والشاعر والكاتب مسرحي "سمير المطرود" يحدثنا عن أبرز ما قرأ عنه بقوله: "أبرز ما قرأت عنه "سهرة مع أبي خليل القباني" العمل الذي تناول سيرة القباني بشكل مسرحي، الذي قدمه الكاتب المسرحي العالمي "سعد الله ونوس"، كان يقارب فيها ما كان سائداً في فترة "القباني" والفكر المعاصر، حاول في مسرحيته أن يبين كيف تلقّى الجمهور صورة "القباني" آنذاك، ويقدم تلك الأجواء وذلك الفكر السياسي الذي كان سائداً وما هو المعادل الموضوعي له في زمننا".
وعن خصوصية "القباني" كموسيقي يكمل "المطرود" قائلاً: "هو ملحن يجيد العزف على العود ويضع ألحان مسرحياته بنفسه، وصاحب ألحان عديدة لما يسمى "الطقاطيق" في الغناء ومن أهمها "ياطيرة طيري يا حمامة" التي تأخذ حتى يومنا هذا مكانة في الذاكرة الاجتماعية وهو واضع اللحن والكلمات".
ويضيف المطرود مُعدّداً لنا مسرحياته الواردة في كتاب "محمد يوسف نجم" بعنوان "دراسات ونصوص كاملة لأبو خليل القباني": "هو من عمل على رقص "السماح" هذا الفن الراقي الذي يناسب المسرحيات التي تستند إلى التراث تحديداً ومنها "أبو الحسن المغفل" أو "هارون الرشيد" من تأليف "مارون النقاش"، مسرحية "أسد الشرى" من تأليفه وترجمة "داوود بركات" و"يوسف حبيس" ومسرحيات أخرى من تأليفه منها "الأمير محمود نجل شاه العجم"، "الانتقام"، و"جميل وجميلة"، "مسرحية "جان بياف" للمترجم "رحمين دبس"، ومسرحية "حفظ الوداد" من تأليف "سليم النقاش"، و"حمدان" أو "هرناني" ترجمة "نجيب حداد"، بالإضافة إلى مسرحيات "حمزة المحتال"، "الخل الوفي والغدر الخفي"، "السلطان حسن"، "السيد"، "وضاح ومصباح وقوت الأرواح".
ويحدثنا "المطرود" عن أثر الرجعيّة الدينية السائدة في ذلك الوقت على مسرح "القباني" بقوله: "بسبب الرجعية الدينية المتمثلة بالشيخ "سعيد الغبرة" أحرقَ المتشددون مسرحه فغادر إلى "مصر" حيث اعتمد "الغبرة" على سطوته الدينية لفرض هيمنته على المجتمع، وأرسل رسالةً إلى الأستانة يؤلّب فيها المجتمع ضده وضد المسرح الوافد الثقافي الجديد نظراً لما كان يعتبره مساساً في الهيبة السلطانية والدين، لأن "القباني" كان يقدم آنذاك مسرحية "هارون الرشيد وقوت القلوب" فانطلق الشيخ "الغبرة" من فكرة أنه طالما يقدم شخصية "هارون الرشيد" فلا عجب من أنْ يمسَّ الهيبة السلطانية في المستقبل.. لذلك هو يشكل خطراً على المجتمع".
رِسَالَةٌ تُحارِبُ القباني
حسب "المطرود"، اعتبر "الغبرة" أن عملية التمثيل شكلاً من أشكال التعرض لقيم المجتمع لذلك طلب في رسالته بصيغة الاستجداء (أغيثونا لأن الأعراض هُتِكتْ في الشام)، لكن في الواقع الرجعية الدينية هي التي جعلته يؤلب المجتمع على "القباني" وبالتالي كانت نقطة الانطلاق للمغادرة إلى "حمص" ثم "اللاذقية" ثم "الإسكندرية" ثم الاستقرار في "مصر" لمدة طويلة، كان خلالها يؤسس لمدرسة حقيقة في المسرح، وهي المسرح الغنائي، حيث كانت هناك مجموعة من الأذواق الموجودة على الساحة، لكنه اقترب من الجمهور لذلك يعتبر رائد المدرسة الفنية الكبيرة التي نسميها المسرح الغنائي والتي أفرزت الكثير من الأسماء.
رَائِدُ المَسرَحِ العَرَبِيِّ بِامتِيَازٍ
حول تميزه يقول لنا "المطرود": ما ميز "القباني" أنه جاء في فترة كان فيها المسرح العربي في بداية انبثاقه على يد اللبناني التاجر "مارون النقاش"، ومن كان معه من فرق مسرحية، إضافة إلى أن أخبار المسرح التي كانت تصل له عن طريق اللبناني "النقاش" أو من خلال أخبار المسرح التركي الذي كان يشهد نشاطاً ملحوظاً في الترجمة والتأليف، ولأن "القباني" من أصول تركية كان على اطلاع على الثقافة التركية، والأمر المهم أنه لم يكتفِ بما سمِعَ، بل عمل على توطين المسرح كما يجب أن يكون".
وبالتالي يُعدُّ أبو خليل القبّاني موسيقياً ومسرحياً اعتمدَ على الموسيقا العربية في إيصال الفكرة التي يريد أن يعمل عليها وارتكز على التراث والأدب العربي في اختياره للنصوص التي عمل عليها، هذا جعل كثيراً من النقاد يؤكدون أهمية "القباني" في نشأة المسرح العربي.
وهناك العديد من أعمال أدبية وفنية عن العلّامة السوري للروائي "خيري الذهبي"، من أهمّها: الملحمة التلفزيونية "أبو خليل القباني" من إخراج "إيناس حقي"، كما خصص الباحث الموسيقي د."سعد الله آغا القلعة" حلقة من برنامجه "العرب والموسيقا" للحديث عنه مستضيفاً حفيده "صباح قباني".
يشار إلى أن "أبو خليل القباني" من مواليد "دمشق" عام 1833 توفي إثر إصابتهِ بمرض الطاعون في عام 1903 ودفن فيها وأطلق اسمه على صالة مسرح في دمشق.
المراجع:
[1] دمشق أماكن وأحداث ورجال وصور، الدكتورة عزة آقبيق، دار العرب، 2019
[2] موشحات أبي خليل القباني، علي هيثم المصري، دار طلاس، 1991
[3] دراسات ونصوص كاملة لأبو خليل القباني، محمد يوسف نجم.
[4] سهرة مع أبي خليل القباني، سعد الله ونوس، اتحاد الكتاب العرب، 1973
[5] من دمشق إلى شيكاغو رحلة أبو خليل القباني، الباحث تيسير خلف، صحيفة العرب، 2018