تعيد "مدونة الموسيقا"، وفي إطار محاولتها لحفظ الذاكرة الموسيقيّة السوريّة، ولملمة المبعثر والمتناثر منها، إحياءَ ونشرَ العديد من المواد المنشورة منذ أعوام على مدونة وطن eSyria مدعمةً بفيديوهات صوّرها فريقُ عمل المدونة آنذاك، ولم تنشرْ لأسباب فنيّة.

عند الحديث عن الموسيقا تعيده ذاكرته مباشرةً إلى والده المطرب وعازف العود، الذي مانع دراسة طفله للموسيقا بدايةً لأنه في ذاك الزمان كان عزف الموسيقا عيباً، وكان الناس يقولون عن العازف مهما كان بارعاً بأنه مهرج، لكن "ياسين العاشق" كان يختلس العزف على عود أبيه أثناء غيابه ويقلده.

وعندما اكتشف والده ذلك أصيب بالدهشة لمهارة ذاك الطفل في العزف، وحينها عرف أنه لا فائدة ترجى من منعه عن الموسيقا، ليتحول الوالد الممانع تعليم ابنه الموسيقا إلى أول أستاذ فعلي له، لكن نتيجة ولع "العاشق" الصغير بآلة الكمان استعان والده باثنين من كبار الموسيقيين وعازفي الكمان آنذاك وهما "سامي الشوا" و"الياس فنون" لتدريبه.

ياسين العاشق

يقول "العاشق" عن مراحل تدريبه: «كان الأستاذ "سامي الشوا" يقود فرقة فيها "محمد عبد الوهاب" عازفاً على العود و"رياض السنباطي" كان أحد أعضاء الكورس فيها، و"الشوا" كان يشجعني دائماً ويعطيني دروساً مكثفة، كما تدربت على أيدي مدرس متميز آخر هو "الياس فنون" إضافة إلى أستاذ ألماني وآخر تركي، ثم باجتهادي الخاص كنت أطالع وأُحضِر ميتودات وأعزفها وأستمع كثيراً للموسيقا».

انتقل "العاشق" من مجرد متدرب على الكمان إلى عازف محترف، وكان ذلك في عام 1942؛ حيث عمل في لبنان ضمن فرقة تعزف بأحد مطاعم منطقة "عاليه"، ثم كأحد العازفين الرئيسيين مع فرقة "ماري جبران" التي كانت تقدم حفلاتها بصالة منصور في لبنان، وفي تلك الفترة كان "نجيب السراح" لحن لها أحد الألحان الجميلة، كما عمل مع "زكية حمدان" صاحبة أغنية "سليمة" فضلاً عن "سعاد محمد" التي عزف معها منذ عام 1947 ويقول في ذلك: «ما كانت "سعاد" تقبل الغناء إن لم أكن عازفاً معها، ومن ذلك أنه بعد عودتها من مصر بعد تصوير فيلم "فتاة من فلسطين" كان عندها افتتاح بكازينو الكروان مقابل البريد، وكنت مرتبطاً بعقد في مكان آخر، وحينها رفضت الغناء حتى الساعة الواحدة حين وصلت بعد أن انتهيت من حفلتي الأولى».

الفنان ياسين العاشق

كما عزف "ياسين العاشق" مع "أسمهان" حيث جمعتهما حفلة في بيت السفير السوري في القدس، واستمر في العزف ضمن فرق حتى أسس فرقته الخاصة وأطلق عليها اسم "فرقة الفارابي" المؤلفة من 27 عازفاً وكانت تجتمع في صالة لدى المصور "شاورش" الكائنة مقابل مشفى الطلياني.

نقلة أخرى في مسيرة "ياسين" الفنية كانت سنة 1947 عندما كان يعمل مع المطربة "شهرزاد" وجاءه تكليف بفرقة الإذاعة من رئيس دائرة الإذاعة في دمشق آنذاك الأستاذ "رفيق شبيب"، ويقول العاشق عن عمله في إذاعة دمشق: «عندما دخلت إذاعة دمشق كانت فرقة الإذاعة مجموعة من الهواة وبعض المحترفين الذين يعدون على الأصابع، ومنهم عازف العود "صبحي سعيد" وعازف الناي "بدر الدين حلبية"، و"محمد العايق" عازف إيقاع، أما الهواة فكانوا يقرؤون النوتة بالطريقة التركية، بمعنى أن علامة "صول" عندنا هي "ري" عندهم، وبدأت أدربهم وأعلمهم النوتة، وبقيت أعمل في الإذاعة فترة طويلة حتى تقاعدي سنة 1985، وإن إذاعة دمشق لديها مخزون كبير من الألحان والأغاني، وبعد أن كانت إذاعة "الشرق الأدنى" هي الإذاعة الأولى في ذاك الوقت إلا أن "إذاعة دمشق" في الخمسينيات استطاعت بإدارة الأستاذ "أحمد عسة" أن تتقدم عليها بعد أن أصبحت تنتج ثلاث أغنيات سورية يومياً لأسماء كبيرة منهم "نجيب السراج وسعاد محمد ووديع الصافي وأسمهان" وغيرهم».

ياسين العاشق مع العود

وكان العمل في إذاعة "دمشق" طريقاً جميلاً للتعرف على الكثير من الشخصيات الموسيقية المعروفة ومنها "حليم الرومي" الذي كان يغني كل أسبوع مرة في مقرها الكائن حينها في شارع بغداد، وأيضاً السيدة "فيروز" و"عاصي الرحباني" ولم يكونا قد تزوجا بعد، وحينها غنت "عتاب" و"راجعة"، كما تعرف على المغنية "حنان".

وللعاشق ذكريات موسيقية كثيرة في مدينة "حلب" منها لقاؤه مع "وديع الصافي" الذي طلبه بشكل خاص للعزف معه، وكذلك ذهابه إلى دائرة الموسيقا في حلب والتي كان يعمل فيها "ممدوح الجابري" من أجل تسجيل الكثير من الموشحات والمواويل مع "محمد خيري"، كما عمل مع ابن "حلب" المطرب الكبير "صباح فخري" منذ عام 1947 عندما غنى "يا جارحة قلبي" للمطربة "نجاح سلام": «عايشت تبدلات صوت "صباح فخري" من الرفيع (السوبرانو)، ثم غيابه لمدة عشر سنوات عن الساحة الفنية عاد بعدها بصوت أنضج وقوي أكثر، ورافقته في معظم حفلاته بالبلاد العربية وأميركا واستراليا، وبقيت أعزف معه حتى بداية عام 2000 تقريباً بعد أن منعني الطبيب عن العمل بسبب أزمة قلبية ألمت بي».

ولابن الخامسة والثمانين عاماً ذكريات موسيقية مع المبتكر والمجدد "بليغ حمدي" عندما قابله بدمشق سنة 1955 وكانت معه الفرقة الماسية وقدم حينها خمسة ألحان لكل من "كروان" "يا فايتني والحب عذاب" و"فتى دمشق" وغيرهم وكان مقر إذاعة دمشق آنذاك بشارع النصر، ويتذكر "العاشق" أن فرقتها حينها باتت تضاهي الفرقة الماسية. أما لقاؤه مع "محمد عبد الوهاب" فتم بعد ذلك بأربعة أعوام في "بلودان"، وفي العام نفسه التقى "العاشق" مع "فريد الأطرش" في أضواء المدينة بسينما دمشق التي كان يديرها "جلال معوض"، وكان "الأطرش" يتردد على نقابة الموسيقيين في مقرها الكائن حينذاك في "الشعلان" ويعتبره الموسيقيون السوريون نقيباً فخرياً.

وعلى صعيد موسيقي آخر شكل "ياسين العاشق" مع أمير "البزق" "محمد عبد الكريم" وعازف "القانون" التركي "اسماعيل شنشلار" وعازف الناي "بدر الدين الحلبي" و"محمد العايق" على "الرق" فريقاً موسيقياً مميزاً، يقول "العاشق" عن هذا الفريق الموسيقي: «تخوف البعض من ألا أكون على مستوى العازف التركي أو على مستوى أمير البزق، إلا أنني أثبت نفسي وبيّنت للجميع مستواي كعازف كمان، كما أنني كنت أقوم بتدوين (تنويط) ألحان "محمد عبد الكريم" ونعزفها أو نقدمها للمطربين مثل "نجاح سلام وسعاد محمد" ومنها لحن أغنية "رقة حسنك ودلالك"».

ومن العازفين الذين لمعت أسماؤهم في عالم الموسيقا وكان للعاشق فضل في تدريبهم عازف "الكمان" الشهير "عبود عبد العال" الذي أحضره والده إلى "ياسين العاشق" أوائل الخمسينيات ليعلمه العزف الشرقي، يقول "العاشق": «كان "عبود" يدرس في إذاعة القدس عند عازف روسي، وأنا كنت حينها بحيفا، وجلبه والده إليّ لأقوم بتعليمه تقنيات العزف الشرقي على آلة الكمان، بعد أن وصل إلى مستويات عالية في العزف الغربي على تلك الآلة، وفعلاً بدأت تعليمه بدمشق في فندق فؤاد الأول وفندق رشيد حيث كان والده يقيم عادةً، كما كنت أشركه معي في أعراس النساء التي أشارك فيها كعازف لصغر سني وكان "عبود" يرافقني في تلك الاحتفالات».

لم يكتف أمير "الكمان" كما لقبه الكثيرون بالعزف؛ إلا أنه دخل مجال التلحين وقدم ألحاناً كثيرة لكل من "نجاح سلام ودليلة التونسية ونهاد طربيه وفهد بلان" ومنها أغنية "ما قدرش زعلك يا حبيبي يا ملك" إضافة إلى وضعه مجموعة من الألحان لآلة الكمان، فضلاً عن تلحينه ما يقارب ألف لحن للأطفال ومنها ما كان يعرضه برنامج "ذاكرة التلفزيون" الذي قدمه الباحث الموسيقي المعروف "صميم الشريف" ومنها "اسكيتش" اسمه /نحنا طلاب الابتدائي/ الذي يغنيه أطفال ويدبلجه ممثلون هم "عمر حجو، نزار حنبلي، ياسين بقوش".

ويقارن "العاشق" بين الماضي والحاضر موسيقياً فيقول: «رغم قلة العازفين إلا أنه كان هناك عمل جدي وحقيقي، أما الآن فباتت الإذاعة تسجل على "تراكـّات" والعازفون لا يرون بعضهم، لكن في السابق كانت تتم بروفات كثيرة حتى يتم التسجيل النهائي ولا مجال للخطأ، وفي التلفزيون البث مباشر ولذلك كان ينبغي على جميع العازفين أن يكونوا متمكنين، وأعتقد أن "الميكسر" الذي يستخدم الآن لتوفير الوقت هو من أكبر الأخطاء الموسيقية، علماً أنني في عام 1970 درست في ألمانيا الإخراج الموسيقي ولكنني بقيت غير مقتنع بتقنية الميكسر، وأعتقد أن لدينا الآن ملحنين جيدين ولدينا أصوات ممتازة وشعراء جيدون ولكنهم بحاجة إلى رعاية أكبر، وبرأيي أن اندماج الدراما مع الموسيقا ضمن نقابة واحدة خطأ فادح، وهذا يظلم الموسيقيين، خاصة أن صندوق النقابة هو من حفلات الموسيقيين، لذلك لا بد من إعادة الفصل، لأننا في عصر الاختصاص ونقابة الموسيقيين كانت في البداية تابعة لنقابات العمال وبعدها تم افتتاح نقابة الفنانين عام 1963».