حضورٌ مؤثر، صوتٌ رخيم، لغة عربية سليمة، كوّنت هوية المبدع الناقد والمؤرخ الموسيقي السوري الأرمني الراحل "فاهيه تمزجيان" أحد أبرز أعلام النقد الموسيقي في سورية والعالم العربي.
الاِرتِقَاءُ بِالسَّمعِ
"مدونة الموسيقا" تواصلت مع "أديب مخزوم" فنان وناقد تشكيلي ومؤرخ موسيقي والذي يقول: «كان الناقد والباحث الموسيقي الراحل "فاهيه تمزجيان" يعيد إلى ذاكرتنا التراث الموسيقي المتوهج فهو يدرك أننا نستطيع توسيع دائرة الاستماع والاهتمام بهذا الفن الراقي أسوة بالفنون الأخرى، هو الذي وهب أهم سنوات عمره، للارتقاء بالحساسية السمعية من خلال برنامجه التلفزيوني لدى جمهور لايزال في بداية طريق التذوق الفعلي للموسيقا الكلاسيكية، حتى أننا نستطيع القول إن جمهور الموسيقا السمفونية لايزال يمارس عندنا كمظهر من مظاهر الترف الاجتماعي والثقافي».
بَصمَةٌ خَاصَّةٌ
وحسب الناقد "مخزوم" يوم خَطَا "فاهيه" خطواته الأولى في عالم التصنيف والتحليل الموسيقي الكلاسيكي، كان واضحاً أنه سيفرض نفسه في موقع متميز، ويحقق بصمته الخاصة في الإعلام المقروء والمرئي والمسموع عبر متابعاته المستمرة والمتواصلة للحفلات الموسيقية النخبوية، التي كانت تقام عندنا.
وحول ذلك يكمل الناقد "مخزوم" بقوله: «ارتكز "فاهيه" منذ البداية على القاعدة الموروثة، التي قامت عليها تجارب كبار الموسيقيين العالميين، منذ عصر الباروك إلى الكلاسيكية فالرومانتيكية والكلاسيكية الجديدة وصولاً إلى التأثيرية، حيث كان يعيد إلى ذاكرتنا، التراث المتوهج لفرق موسيقية كبيرة وقادة أوركسترا مبدعين، متمعناً في قراءة وتحليل الأداء الأوركسترالي برؤى المؤلف الموسيقي، وبحذافير النوتة، وبمشاعر المايسترو والعازفين.
كان يسترسل مع معطيات الآلات الوترية والنحاسية، في نشوة عارمة، ليشارك الإنسانية، في وقار واحترام وخشوع وتعبد، وكان يعيد قراءة مايسمع على مستويين ثقافي وروحي، وذلك لتعميق إحساسنا بالموسيقا السمفونية الخالدة والمستمرة منذ قرون، مؤكداً ماقيل عنها بأنها: حديث الروح وقيثارة السماء».
وفيما يتعلق باختيارات "فاهيه" يتابع الناقد "مخزوم" بقوله: «لم يكن "فاهيه" رتيباً كالآخرين، كان يبحث في ساعات الاستماع الطويلة، عن مادة للقراءة أفصح من الإيقاع السمعي، عن تحديث رصين في الجملة الموسيقية لايقلد الأصل ولا يفترق عنه، عن حوار بين العازفين والنص الموسيقي الخالد، كان يتوق إلى مؤثرات عاطفية، مولودة من ينابيع وجذور تراثية مختلفة، كان يبحث عن أسلوب سمفوني يستعيد الماضي برؤية الحاضر».
ثَقَافَةٌ مُوسِيقِيَّةٌ
من جهتها الكاتبة "إيمان أبو زينة" التي جمعتها معه علاقة صداقة وطيدة تقول: «خلال المدة التي عملت بها في موقع "مدونة وطن" التقيت الموسيقي الراحل "فاهيه" عام ٢٠١٠ وبنيت معه صداقة كانت من أهم الصداقات التي جعلتني أرتقي بالمعرفة الموسيقية التي لم أكن أتقن حفظها كما يجب، لكنه بدماثته، وتواضعه، وثقافته العالية استطاع تمرير الكثير من المعلومات لي من دون أن يشعرني بتفوقه وتميزه».
وحول رحيل مقدم برنامج "لغة العالم" في عام 2011 تتابع بقولها: «أستطيع القول إن "سورية" خسرت برحيله قامة مثقفة موسيقياً على أعلى المستويات لكنها استطاعت أن تكون معه وتدعمه من خلال احترام إرثه الفكري والمادي عبر برنامجه الراقي "لغة العالم" الذي استمر فترة زمنية طويلة من دون كلل حيث كان برنامجي المفضل أتابعه باستمرار، وكنت من محبي موسيقا "شتراوس" و"موتزارت" و"تشايكوفسكي"، وحين سمعت كيف يتحدث في برنامجه عن كل موسيقيّ منهم وتفصيل أعماله وشرحها ببنيتها وظروفها وتركيبتها الإبداعية؛ قرّرت الاتصال به ولقائه في مكتبه الصغير المليء بذائقته، ثقافته ومكتبته الموسيقية التي أطلعني عليها وتضمنت أندر وأقدم وأبرز الأسطوانات الموسيقية العالمية والعربية".
التَّمَاهِي مَع المُوسِيقَا
وتوضّح "أبو زينة" أن سعادة الراحل "فاهيه" كانت لاتوصف باهتمامها ببرنامجه وبمعرفة أي معلومة منه، وكان حسب قولها يفرح باهتمام الشباب العربي بسماع هذا النوع من الموسيقا ويسعد بلقاء أي صديق أو صحفي أو ناقد.
وتبين أن التحضير للقاء معه هو بداية الصداقة الطيبة التي جمعتها به فكان هناك الكثير من المكالمات الهاتفية واللقاءات القصيرة في مكتبه التي كانت تثريها وتمدها بمعلومات مهمة وجديدة في كل مرة.
وحسب اعتقاد "أبو زينة" أن ماميز الموسيقي "فاهيه" -رحمه الله- هو التماهي بالموسيقا حدّ الشغف وحول ذلك تقول: (كان مخلصاً للثقافة الموسيقية ولايتوانى عن التفاني بتحليلاته الدقيقة والعميقة، وكنت أواعده دائماً للقاء في كل الحفلات الموسيقية التي كانت تقدمها دار الأوبرا، فقد كان دؤوباً مثلي على حضورها وعلى الكتابة عنها سواء بالصحف أو الحديث عنها في برنامجه التلفزيوني أو الإذاعي كانت أجمل الأوقات تلك التي تكون بعد انتهاء الحفل خارج الدار للحديث عن استمتاعه أو نقده لما تم تقديمه).
تَثقِيفُ جِيلٍ كَامِلٍ
حول برنامجه تكمل بقولها: (كان يأسرني بعنوانه فقد كنت أراه عنواناَ ذكياً يقول لكل الشعوب أن اللغة ليست مهمة أمام الموسيقا.. كنت أتخيل دائماً من خلال هذا العنوان أن هناك قصة حب ستجمع حتماً بين امرأة ورجل من قارتين مختلفتين ولغتين مختلفتين لتكون الموسيقا هي اللغة التي يتحدثان ويتفاهمان بها.
كانت الفترة التي قدم فيها برنامجه في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي هي الجامع الأقوى للشباب المثقف الذي أراد الخروج من عباءة الأغاني والألحان الهابطة في ذلك الوقت، لذلك ساهم "فاهيه تمزجيان" في تثقيف جيل عربي كامل بهذه الثقافة من خلال برنامجه بمعلوماته، ثقافته وصوته الآخاذ، وتفانيه بإثرائنا بروائع الموسيقا العالمية، وأيضاً بروائع الموسيقا العربية التي ميزت ذلك الزمن أن عائلته وبالأخص ابنه الذي يعمل في هذا المجال).
لُغَةُ العَالَمِ مِن جَدِيدٍ
أثناء بحثنا عن الإرث الموسيقي الذي تركه الموسيقي "فاهيه تمزجيان" بعد وفاته استوقفنا موقع إلكتروني لابنه الموسيقي "جان تمزجيان" الذي ورث النتاج الفكري والموسيقي لوالده وخصص على صفحات الموقع أيقونة بعنوان "لغة العالم من جديد" تتضمن وصية والده على شكل رسالة له يقول فيها: (أرجوا أن تختار مايمكن أن يشد انتباه المستمع العادي، أي عليك أن تتوجه إلى ناس يطلبون العلم منك، إلى رجل الشارع إلى الشخص البسيط، وأن تطرح مقولتك كي تثير اهتمامه).
وحسب ابنه الموسيقي "جان" كان "فاهيه" من أولئك الذين بنوا ثقافتهم الفنّية بعصاميّتهم، وكانت نظرته للنقد الفنّي والموسيقي تنبع من ثقافة ذي أرضيّة صلبة ومن خلال حسّ مرهف لفهم أدق درجات الموسيقا كلغة، والتعامل معها من خلال إعمال الفكر.
لم تكن لغة الموسيقا بالنسبة له -حسب "جان"- لغة محلّية أو مناطقيّة محدودة الأفق بل كانت الموسيقا لغة للعالم أجمع، ومن خلال تملّكها كمستمع كان يريد فهم متحدّثيها وفهم فحوى مايقولونه وفحصه بميزان النقد العادل والبنّاء.
ويتابع "جان" بقوله: (كانت هذه الميّزة هي التي جعلة والدي قادراً على النظر نحو أعمال الماضي والقيام بمقارنات جريئة بينها، كمقارنته بين مؤلّفين عملاقين عالج كل منهما على حدة مفهوم "الَقَدر" موسيقياً، فمن وجهة نظر سمفونيّة، كان هناك الألماني "لودفيغ فان بتهوفن" في الحركة الأولى من سمفونيته الخامسة المعنونة "القدر يقرع الباب" (ألّفت عام 1807) ومن وجهة نظر أوبّراليّة، كان هناك الإيطالي "جوبسبّي فيردي" في إفتتاحيّة أوبّراه "قوّة القدر" (ألّفت عام 1861).
السَّهلُ المُمتَنِعُ
إن الميّزة التي مكّنت "فاهيه" من وضع أسس مدرسة نقديّة قويّة في أسسها الثقافيّة متينة في فكرها التحليلي، لم تمكّنه في سبر التاريخ الموسيقي وحسب، بل مكّنته أيضاً من النظر إلى الساحة الموسيقيّة المعاصرة وبالذات إلى مؤلّفات الموسيقيين السوريين الحديثين من خلال طرح أسئلة من النوع "السهل الممتنع" تدعو بعمقها وفطرتها الناضجة إلى التأمّل والاعتبار في الاتّجاهات التي ترنو إليها طموحات المذاهب الحداثيّة المختلفة.
ويمكننا أن نضيف لسيرة هذا الناقد النادر في العالم العربي -وحسب ما ورد في الموقع الإلكتروني- مرافقته للنهضة الفنيّة الموسيقيّة وتسليط الضوء على كلّ من وضع وِزرها على أكتافه، فلم يترك حفلاً للفرقة السمفونيّة الوطنيّة السّورية إلّا وكان لقلمه زاوية فيها واصفة ناقدة بنّاءة، ولم يكن يترك حدثاً موسيقياً مُهمّاً إلّا وكان لكاميرات التلفزيون العربي السّوري حضورها تحت إشرافه حيث كان مولعاً بالأوبرا.
أَعمَالُهُ الإِبدَاعِيَّةُ
فيما يتعلّق بالتأليف الموسيقي يذكر ابنه "جان" أن والده "فاهيه" لم يكتب عملاً موسيقياً واحداً بل كان له ماض في الغناء الشعبي الأرمني كان يمارسه كهاوٍ في النوادي الثقافية الأرمنية في الفترة التي كان فيها صوته من طبقة التينور (الصادحة).
وأن عمل "فاهيه" الإبداعي مارسه سنوات الستّينات في التلفزيون العربي السوري وهو كتابة سيناريو باللغة العربية لقصّة أوبرا بوتشيني المعنونة (توسكا) حيث كانت الشاشة الصغيرة ماتزال بالأبيض والأسود، ولعبت في هذا الفيلم المتلفز الفنّانة الكبيرة "منى واصف" بدور "توسكا" ومايميّز إعداد هذا العمل هو: اللغة الأدبية العالية لنقل الكتيّب الأوبرالي إلى الشاشة، استعمال مقطتفات من موسيقا الأوبرا كموسيقا تصويريّة ومراعاة دقيقة لتزامن أحداث الإعداد الدرامي للمسلسل بحيث تتجاوب تماماً مع المقصد الموسيقي للمؤلّف (بوتشيني) لذات اللحظة الدرامية على مسرح الأوبرا.
شَارَةُ بَرنَامَجِ لُغَةُ العَالَمِ
للوقوف على تساؤلات المستمعين حول اسم القطعة الموسيقيّة الشهيرة التي يستعملها البرنامج كشارة له يبين "جان" أنها ليس هناك اسم أو عنوان إنّما يشار إليها بالحركة الثالثة لـ"كونشرتو البيانو والأركسترا رقم 1" للمؤلّف الألماني يوحنّا برامز Johannes Brahms من أداء العازف "ديكران أتاميان" بقيادة "جورح نورفاك" مع الفيلهارمونيّة البولونيّة لمدينة Poznan.
ونشير إلى أن "فاهيه تمزجيان" ولد في "صلخد" في السويداء عام 1945 وتوفي في "دمشق" في الثاني وعشرين من شهر كانون الأول لعام 2011 عن عمر ناهز ستّة وستين عاماً، وكان صانعُ وبائعُ نظارات طبيّة في شارع الحمراء في "دمشق".