يسعى المطرب "موفق الشمالي" منذ بداياته للحفاظ على هوية الأغنية الشرقية الأصيلة، وكانت انطلاقته الأولى من مدينة "حمص" التي وُلد فيها عام 1964، قدّم خلال مسيرته لوناً غنائياً أصيلاً، فأبدع في "الموشحات والمقامات"، حتى أصبح سفيراً للأصالة وناقلاً لروح الطرب عبر الأجيال.

الخطوات الأولى

التقت "مدونة الموسيقا" المطرب "موفق الشمالي" الذي تحدث عن بداية مشواره الفني، فائلاً: «بدأت رحلتي مع الغناء منذ الطفولة، وشعرت أن الموسيقا تسكن وجداني، وصوتي يشكّل طريقي للتعبير عن مشاعري العميقة، وكان لعائلتي وأقاربي الدور الأكبر في دعمي وتشجيعي على المضي في هذا الطريق».

ويتابع: «كانت أولى خطواتي على المسرح في المرحلة الابتدائية، حين شاركتُ في حفل عيد الأم، وشكل ذلك اليوم نقطة تحوّل في حياتي، إذ شعرت للمرة الأولى بلذّة الوقوف أمام الجمهور، وأن الغناء عالمي الحقيقي، وتابعت المشاركة في الحفلات المدرسية خلال المرحلتين الإعدادية والثانوية، وكنت أحرص دائماً على تقديم ما أحفظه من أغنيات في سهرات العائلة والأصدقاء، حيث تلقيت تشجيعاً كبيراً وإعجاباً بصوتي، إلّا أنّني أدركت أن الغناء لا يكتمل إلا بالمعرفة الموسيقية الصحيحة، وأنّ الموهبة تحتاج إلى صقل وتوجيه لتصبح أداة فعّالة للتعبير الفني. وبعد انتهائي من مرحلة الثالث الثانوي، شعرت أن الوقت قد حان لبدء مرحلة أكثر احترافاً، فالتحقت عام 1985 بنادي "دواحة الميماس"، وهو نادٍ متخصص في الموشحات والأدوار والأغاني التراثية، وهناك بدأت أتعلم أصول المقامات والإيقاعات وأساليب الأداء الفني».

المطرب موفق الشمالي

وعن أهم الفنانين العرب الذين تأثر بغنائهم، يشير إلى أنه منذ بداياته كان يميل إلى الطرب الأصيل، حيث يجد سعادته بالاستماع إلى عمالقة الغناء العربي مثل "وردة، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب"، وحتى الأصوات الأقدم منهم مثل "فتحية أحمد، نور الهدى، زكريا أحمد"، وكان قدوته ومصدر إلهامه الأكبر في الغناء الموسيقار "ملحم بركات"، الذي أسره بأسلوبه الفريد وإحساسه العميق، فكان يستمع إلى أعماله باستمرار، خاصة تلك التي قدّمها في ثمانينيات القرن الماضي، مثل "راح الليل، شو بعدو ناطر، علواه يا ليلى"، فحفظ هذه الأغاني وتعلّم منها الكثير في التعبير الصوتي والأداء العاطفي.

يقول: «شكّلت هذه المراحل المتتابعة أساس مسيرتي الفنية، ورسّخت في داخلي قناعة أن الفن ليس مجرد صوت جميل، بل رسالة وجمال وانتماء إلى تراث غني ينبغي الحفاظ عليه وتطويره».

المطرب موفق الشمالي

الظهور الحقيقي

الباحث الموسيقي أمين رومية

يعود المطرب "موفق الشمالي" في الذاكرة إلى أولى تجاربه على خشبة المسرح، وتأسيسه فرقة خاصة به، يقول:

«مع مرور الوقت، قررت أن أؤسس فرقة خاصة بي، وكانت انطلاقتي الأولى أمام الجمهور من خلال الحفلات في مدينة "حمص"، وساعدتني هذه التجارب على اكتساب الثقة والخبرة في التعامل مع الجمهور، أما أول تجربة حقيقية قمت بها فكانت عام 1985 مع نادي "دوحة الميماس" على خشبة مسرح دار الثقافة في "حمص"، ضمن فعاليات مهرجان "الثقافة الموسيقية"، وفي تلك الأمسية المفعمة بالحماس قدمنا دور "يا جريح الغرام" للشيخ "زكريا أحمد"، ومنحوني مقطعاً صغيراً لأؤديه، وعلى الرغم من أن المقطع لم يتجاوز لحظات قليلة، إلّا أن التصفيق الحار من الحاضرين أشعرني بالفرح والسعادة، وكانت تلك اللحظة ميلاد ظهوري الحقيقي أمام الجمهور، وتجربة محفورة في الذاكرة لا تُنسى أبداً، ورسّخت في داخلي الإصرار على الاستمرار والمضي قدماً في مسيرتي الفنية، وجعلتني أدرك أن المسرح هو المكان الذي ينمو فيه الفنان ويزدهر صوته وموهبته».

قائد فرقة نوا أثر وعازف الأورغ فايز الشامي

وفيما يتعلق بالخبرة الموسيقية والغنائية التي اكتسبها من نادي "دوحة الميماس" الذي تأسس عام 1933 يقول: «قدّم لي نادي "دوّحة الميماس" الكثير، وعندما دخلت إليه لم أكن أعرف شيئاً عن "المقامات أو الإيقاعات"، فكانت المواد التي نعمل عليها تتضمن "الموشحات والأدوار والأغاني القديمة"، وهي أعمال صعبة من حيث النغمة والإيقاع، ويمتاز كل "موشح" بإيقاعه الخاص، مثل "السماعي والمحجّر والمربع"، مما يمنحه طابعاً فريداً، ويستلزم غناؤه دقةً وجهداً كبيرين لإبراز جمالياته الموسيقية».

ويتابع حديثه قائلاً: «خلال فترة انتسابي إلى النادي بدأت أطرح الأسئلة على أساتذتي لأتعرّف على المقامات والإيقاعات، وبفضل اجتهادهم واجتهادي معاً أصبحتُ أفهم ما أقول وأعي تماماً ما أقدمه من ناحية اللحن والنغمة، وتعتبر هذه المرحلة نقطة تحول في مسيرتي الفنية بفضل الأساتذة الكبار "برهان صبّاغ، بري العواني" حيث تعلمت منهما المقامات، كما شاركت مع الأستاذ "هشام الصوفي" في فرقة "النواة"، مما أضاف بعداً جديداً لتجربتي، ولهؤلاء جميعاً الفضل الكبير، وكان النادي بمثابة انطلاقتي الحقيقية في عالم الفن».

المطرب موفق الشمالي مع عازف الأورغ فايز الشامي

أنشطة وتجارب متنوعة

حول تجاربه اللاحقة وتأسيسه فرقة موسيقية خاصة به يقول: «كوّنتُ بعد ذلك فرقة خاصة بي، ضمّت أساتذة بارزين مثل "خلوق وفائي، محمود عبد العظيم"، إلى جانب أسماء أخرى معروفة في الوسط الموسيقي، حيث كان للأستاذ "خلوق وفائي" رئيس الفرقة وعازف الناي المعروف أثراً كبيراً في توجيهي ودعمي، بفضل خبرته الطويلة ومكانته المرموقة في الموسيقا».

وتحدث عن مشاركاته الفنية في حمص مع نادي "دوّحة الميماس" و"نقابة الفنانين"، قائلاً: «شاركت مع نادي الدوحة عام 1988 في حفل تكريم "أمير البزق محمد عبد الكريم" في "المركز الثقافي"، وهو أحد الأساتذة والموسيقيين المرموقين الذين قدموا مقطوعات موسيقية مهمة وسماعيات عديدة، بالإضافة إلى أعمال غنائية رائعة، منها "رقة حسنك وسمارك" للفنانة "نجاح سلام"، و"يا جارتي ليلى" للفنانة "فايزة أحمد"، وكان لي شرف المشاركة في تكريمه».

وفيما يتعلق بأعماله الفنية التي قدّمها في "دمشق" يقول: "انتقلت عام 1993 بنشاطي الفني إلى "دمشق" وبقيت فيها نحو ثلاثين عاماً، وعدتُ مؤخراً إلى حمص واستأنفت نشاطي الفني فيها، وأثناء إقامتي في العاصمة شاركت في عدد من الفعاليات والمهرجانات، من أبرزها مهرجان "الأغنية السورية" الذي كان يقام في مدينة "حلب" وشاركت فيه مرتين، الأولى بأغنية "ما أخونك" من ألحان "هشام الصوفي"، وكان مدير المهرجان آنذاك المطرب الكبير "صباح فخري"، والمشاركة الثانية بأغنية "لما رأيت عينيك" ألحان "يوسف العلي"، كما شاركت عن طريق "نقابة الفنانين" في مهرجان أُقيم في "بيروت"، ومهرجان آخر عن طريق وزارة الثقافة في "إسطنبول"، ضم فنانين من مختلف الدول العربية عبر فعالية تراثية عربية واسعة».

ويلفت إلى أنه خلال تواجده في "دمشق" شارك مع العديد من النجوم، وعمل لفترة طويلة مع الفنانة الراحلة "ربا الجمال"، التي يعتبر صوتها مميزاً ومهماً، وكان لديه نشاط مستمر وفرص عديدة لتقديم الفن التراثي، كما شارك مع "أوركسترا الطرب" بقيادة "ماجد سراي الدين" في حفل تكريم "أمير البزق محمد عبد الكريم" الذي أقيم في "دار الأوبرا"، الأمر الذي يعتبر أنه حقق له أحد أحلامه في الغناء بـ "دمشق"، وكانت له مشاركة على مسرح "الحمرا" مع الملحن الكبير "محمد محسن".

الأغاني التراثية

عن علاقته بالأغاني التراثية، يقول: «أحفظ الأغنية من أصلها، لكن لا بد لي من إضافة لمستي الخاصة، وأضع بصمتي من خلال العُرَب والتعبير الشخصي، فلا أستطيع أن أقدم الأغنية تماماً كما غُنِّيت سابقاً، بل أعمل على إحيائها بروحي وإحساسي، وأعتبر هذا الأمر منحة ربانية أطوّرها باستمرار، لتبقى الأغنية التراثية نابضة بالحياة. وبشكل عام أرى أن أداء الأغاني التراثية صعب جداً، كـ "الدور والايقاع بالموشحات" لأنها تحتاج إلى حسّ إيقاعي قوي وتمكّن في الأداء، كما أن اللهجة تلعب دوراً مهماً، سواء كانت "مصرية أم شامية"، لأنها الغالبة في هذا اللون من الغناء، كما تحتاج هذه الأعمال إلى مطرب متمكّن وصاحب خبرة موسيقية عالية، فليس كل صوت قادراً على أدائها».

وفيما يتعلق بالتحديات التي يواجهها مطربو التراث اليوم، يؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي أثّرت على طريقة تقبّل الجمهور لهذا اللون من الغناء، موضحاً أن الذوق العام تغيّر، ولكن على الرغم من ذلك هناك جمهور محبّ ومتابع لهذا الفن، الأمر الذي يظهر جلياً من خلال الحفلات التي تُقام في "المراكز الثقافية"، مشدداً على أنه لا يزال لهذا اللون جمهوره وروّاده الحقيقيون.

ويضيف: «للأسف، شركات الإنتاج لم تعد تهتم كثيراً بالمطرب التراثي، فهي تبحث عن الأغاني السريعة والأصوات الشابة، لكن مطرب التراث له خط خاص وجمهور محدد ومكانة مميزة، وأنا على قناعة بهذا الطريق، وراضٍ تماماً بما أقدّمه، وسأستمر عليه حتى النهاية».

ويشير إلى قلة الفعاليات والمؤسسات التي تدعم الفن التراثي، موضحاً أن هناك مهرجاناً واحداً سنوياً على مستوى "حمص" وآخر للموسيقا الثقافية، ويرى أن العدد قليل جداً، فمن الضروري تبنّي هذا النوع من الأعمال وتنظيم نشاطات دورية.

ويوضح "الشمالي" أن مستوى الغناء التراثي ضعيف إلى حد ما خاصة في "حمص"، أما الريّادة في هذا المجال فتعود لـ "حلب"، حيث يظهر جيل بعد جيل متقناً لهذا اللون ومحافظاً على التراث السوري.

أعمال خاصة

حول أعماله الفنية الخاصة تحدث "موفق الشمالي" مؤكداً أنه أطلق عام 1999 ألبومه الخاص بعنوان "من غير وداع" الذي احتوى على أغنية "ضميني أنا" من ألحان "عاصم البني"، والتي وصف صداها بـالرائع جداً، موضحاً أنه لو وجد تسويق جيد للأغنية لحققت نجاحاً كبيراً في الأسواق العربية مثل "لبنان ومصر"، وضم "الألبوم" أيضاً مجموعة أغانٍ من ألحان "هادي السلق"، حملت عناوين "غريب، كذاب، صبح الصباح، بحب صوتك، من غير وداع". وقدّم بعدها عدة أغانٍ خاصة مثل "كله يهون" و"أسفي على حسن ظني" و"فنجان القهوة"، وتم تسجيل معظم أعماله التراثية خلال مشاركاته في المهرجانات، وأُرشِفت للحفاظ عليها.

وعن رأيه بالجمهور ومدى تذوقه للطرب الأصيل يقول: «لا يزال الجمهور متذوقاً للفن، وشهدت حفلاتي الخاصة تفاعلاً كبيراً من قبل الحضور، أما بالنسبة لجيل الشباب فالعدد قليل، لكن هناك نخبة تحافظ على متابعة هذا النوع من الغناء، رغم بعض التراجع في الاهتمام».

ويؤكد حرصه الحفاظ على الغناء التراثي، مشيراً إلى أن أي شخص يمتلك صوتاً مؤهلاً وقدرة فنية كافية يمكنه أداء هذا اللون من الغناء، شرط أن يتابعه بشغف وحب حقيقيين، ويرى أن التراث يشكّل الجذر والأساس لكل إبداع فني، فمن لا ماضي له لا حاضر له، مشيراً إلى أن الفنان الراحل "صباح فخري" يُعدّ أحد أبرز من جسّد هذا المفهوم، إذ كرّس سنوات طويلة من مسيرته للغناء التراثي، ولم يكد يترك جانباً من هذا التراث إلّا وقدّمه بصوته، فكان من أهم من رسّخ هذا اللون وأسهم في إلهام الأجيال الجديدة المهتمة بالفن التراثي.

وفي ختام حديثه قال: «حلمي اليوم أن أواصل المشاركة في المهرجانات داخل سوريا وخارجها، لأبقي الأغنية التراثية حاضرة في وجدان الناس، وأنصح كل من يمتلك صوتاً وأداءً مميزين أن يخوض هذه التجربة، حتى إن لم تحقق له شهرة واسعة كما في الأنماط الغنائية الأخرى، فالقيمة الحقيقية تكمن في الاستمرارية، وفي الحفاظ على التراث حيّاً للأجيال القادمة».

أصول الأداء الصوتي

رئيس فرع حمص لـ "نقابة الفنانين" الباحث الموسيقي "أمين رومية" تحدث عن المطرب "موفّق الشمالي" قائلاً: «يُعَدّ صوت "موفق الشمالي" من الأصوات التي أثبتت حضورها بقوة في الأوساط الفنية، سواء في "حمص" أو "دمشق" على وجه الخصوص، بفضل الموهبة الصوتية التي يتمتع بها، واستطاع أن يُسخّر معرفته بأصول الأداء الصوتي في خدمة حنجرته المدرَّبة وصوته المنضبط الذي صقله عبر سنوات من التدريب والمثابرة، وبات قادراً على أسر الجمهور وجعله يُصغي باحترام إلى مطربٍ أتقن أداء الغناء الأصيل من موشحاتٍ وأدوارٍ وقصائد».

ويتابع: «يمتاز "الشمالي" بعدم سعيه إلى التقليد، وإنما نراه يطبع اللحن بطابعه الصوتي الخاص من خلال امتلاكه مساحةً صوتية خصبة تُقدَّر بأربع عشرة درجةً صوتية يؤديها باقتدارٍ وتمكُّن، فقد ثقّف صوته بالنطق السليم، واللغة الواضحة، وفصاحة اللسان التي تُظهر جمالية رنين الصوت الذي تميّز به، فغدت الألحان تجري على لسانه بسلاسةٍ وعذوبة بعيداً عن التَّصنُّع والتَّزييف الصوتي الذي يلجأ إليه بعض المطربين في هذا الزمن، ويميل إلى أداء الأغاني المرِحة ذات الإيقاع الرشيق التي تُدخل الفرح إلى قلوب المستمعين، ولا سيما أغاني المطرب والملحّن "ملحم بركات"، التي برع في أدائها وأتقنها أيّما إتقان».

في حين يقول قائد فرقة "نوا أثر" وعازف الأورغ "فايز الشامي" عن أداء "موفق الشمالي": «يُعد من كبار المطربين بفضل حفاظه على اللون الطربي والأغاني الأصيلة، وإتقانه لأصول "الموشحات والمقامات"، وكان لي الشرف أن نكون معاً على المسرح، حيث قدّمنا حفلاً مميزاً نال صدى رائعاً لدى جمهور حمص، وشعرنا بروح التراث تتجدد مع كل نغمة. وما يميّزه التزامه الفني والإنساني، فهو لا يسعى إلى الشهرة بقدر ما يسعى لأن يصل صوته النقي إلى قلوب الناس، وأن يُبقي الأغنية التراثية حيّة رغم تغيّر الأذواق والزمان، وأنا أفتخر بمشاركته على المسرح، لأننا نؤمن بأن الموسيقا ليست مجرد نغم، بل هوية وانتماء وجسر يصل الماضي بالحاضر، وحين أعزف "الأورغ" وتبدأ أولى نوتات المقدمة، ويعلو صوته بأداء صادق مليء بالعُرَب والدفء، أشعر أنني أعيش لحظة حقيقية من الطرب النادر، تبقى في الذاكرة وتعكس عراقة الفن الأصيل».