قربَ أسوارِ حلبَ القديمة التي تحيط بقلعتها، ولِد الفنان "أنور حريري" عام 1958 في حي "قارلق" المجاور لحي "باب الحديد" الأثري في "حلب"، ترعرع في كنف عائلة فنية توارثت الأذن الموسيقية عبر الأجداد.

خشبة المسارح

هو ابن خشبة المسارح العظيمة التي حفِظت خطواته الواثقة كما تحفظ الأم خطوات وليدها، ففي حضرة أوتاره يُولد الصمت نغماً وتغدو الذاكِرة متحفاً تستذكر إنجازاته التي خطّت حروفهاً بعمق في ذاكرة الموسيقا العربية.

نشأ في مدينة يصدح من مآذنها نداء الصلاة ندياً جميلاً، فيجعل أرواح السامعين تسمو بخشوع مسبحةً الخالق على عظمة خلقه للكون. ومن مقامات "الراست والبيات والسيكا.." تشبعت أذنا الطفل "أنور حريري" من أنصاف الـ "بيمول" ومن صوت والده "مصطفى" الذي كان مؤذناً في جامع "قرلق"، فغدت ذائقته السمعيّة قويّة رصينة، مفعمة بالروح الشرقيّة.

أنور الحريري في حفل تكريمه بحلب

لم تكن طريقه سهلة، لكن خطواته واثقةً ومتسارعة، مبنية على قفزات غير متوقعة. وقد عمل خلال مسيرته بشغف وحبّ كموسيقيّ مرموق وعازف ماهر لآلة "الكمان" مع أسماء كبيرة.

خرج بعمر مبكر حاملاً معه كمانه ناسجاً من أوتاره خريطةً للهوى العربي، يعزِف للغائبين أوركسترا الحنين للوطن.

الموسيقي وعازف الكمان أنور الحريري

مكرّماً في حلب

الموسيقي وعازف الكمان أنور الحريري

"أنور حريري" اليوم أكثر من مجرد موسيقي بارع، فهو ذاكرة حيّة لموسيقي سوري كان سفيراً للفن، مثّل بلاده في العديد من المهرجانات في المحافل العربية لأكثر من 50 عاماً من العطاء والتميز، فلكمانه صوت ينساب عبر الزمن ليعيد إلينا ملامح الجمال المفقود، جمالٌ جسّد عَظمة الكلمة وروعة اللحن العربي، فحضوره على المسارح لم يكن عزفاً على آلة الكمان فحسب، بل عزفاً على أوتار الوجدان، ليذكّرنا أن الموسيقا الراقية ليست ترفاً، بل حاجة لصفاء النفس في زمن ساد فيه الصخب الموسيقي وتحوّلت الكلمات من أشعار راقية تجسد صوراً سامية إلى حروف حافية تختزل مشاعراً واهية.

وقد عاد الفنان القدير مؤخراً إلى مدينته الأم "حلب" مُكرماً من "نقابة الفنانين المركزية" في سوريا بتاريخ وأحيا حفل تكريمه بموسيقا كمانه الساحر الذي انتظره الحلبيون كثيراً، ليروي ظمأ أسماعهم ويُعيد لذاكرتهم كلمات الحب المرموقة وموسيقا الزمن الجميل.

أنور الحريري يعزف في أمسية مع سيد مكاوي

مسيرة حافلة بالعطاء

عن مسيرته الفنية الحافلة بالعطاءات تحدث لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «ولدتُ في حلب، تلك المدينة التي لاتزال تُنجب الموسيقيين كما تُنجب لنا الغار والياسمين، كان والدي مؤذناً في الجامع، فكان صوت الأذان أول من علّمني معنى المقام، وفي بيتنا المتواضع، وسط تسعة إخوة، وجدتُ للكمان مكاناً بين الكتب والروايات، وبدأتُ العزف البسيط وأنا ابن الست سنوات، على يد أخي الأكبر "علاء" رحمه الله، ثم التحقتُ بـ "المعهد العربي للموسيقا"، وتخرّجتُ منه عام 1971».

وأضاف: «بدأت في "بيروت" رحلتي الاحترافية حين عزفتُ مع الفنان القدير "محمد جمال"، وكان له الدور الأكبر في انطلاقتي، ومن ثم تعرّفتُ على "وديع الصافي"، ورافقته في عدد من حفلاته كرئيس لفرقته الموسيقية. ومِن ثَم انتقلتُ إلى "القاهرة" والتقيت بالفنان "عمار الشريعي"، وهناك انضممتُ إلى الفرقة "الماسية" عام 1976، وعملتُ مع الموسيقار "بليغ حمدي" و"رياض السنباطي" و"وردة الجزائرية" و"عبد الحليم حافظ"، وكانت تلك الأيام من أروع الأيام الذهبية في حياتي، حين كان "الكمان" جواز سفري إلى قلوب الناس قبل آذانهم».

الأخلاق والموسيقا

عن مرحلة مصر يقول: «بعد وصولي إلى مِصر ذهبت إلى الفنان "عمار الشريعي"، واتفقت معه على تسجيل بعض المقطوعات الموسيقية داخل "إذاعة القاهرة"، وبينما كنت أعزف داخل أروقة الاستديو 48، سمع صوت عزفي عن طريق المصادفة الموسيقار "بليغ حمدي"، فقرر الدخول إلى مصدر الصوت، ففتح باب الغرفة ووجدني داخلها، فسأني من أكون؟..، أجبته والدهشة تملأ عيناي أنا "أنور حريري" من "حلب"، فقال لي: "أنا عايزك بكرا"، فأحبته أنّي مضطر للسفر، فقال: "عايزك بكرا الساعة 6 في النادي الماسي عند المايسترو أحمد فؤاد حسن، ومش حتسافر"».

ويتابع: «في اليوم التالي ذهبت إلى المكان المحدد، فوجدت الموسيقار "بليغ حمدي" والأستاذ "أحمد فؤاد حسن"، وعلى يمينه المطربة "وردة الجزائرية"، وأمامهم الفرقة تعزف سحر أوتارها من مقام "البيات" أغنية "أحضنوا الأيام"، وهنا أشار إلي الموسيقار "بليغ حمدي" أن أجلس بقربه وانتظر، وبعد انتهاء البروفة، همّ الموسيقيون للمغادرة فقال لهم الموسيقار حمدي: "محدش يمشي، اقعدوا واسمعوا العازف ده من حلب". وفي هذه اللحظات بدأت مشاعر الرهبة تتسلل إلى عروقي وأطراف أصابعي، وأنا أقف بين ثلاثة أهرامات عظمية في "مصر"، وبعدها احتضنت "الكمان" وقررت عزف مقطوعة بعنوان "حياتي" من تأليف الموسيقار "محمد عبد الوهاب"، ولم تحتاج تلك المقطوعة إلى براعة عالية في العزف وتكنيك دقيق في الأصابع، وحين انتهيت سألَ الموسيقار الراحل "بليغ حمدي" أعضاء الفرقة الموسيقية عن رأـيهم، فأجابوا مبتسمين "كدة تمام"».

ويضيف الفنان" حريري" قائلاً: «تم إبلاغي بعد ذلك بطلب حضوري لتسجيل أغنية "أحضنوا الأيام" في الاستديو، وبعد أيام قليلة تمت دعوتي للمشاركة في إحدى الحفلات في "هيلتون النيل"، وإذ بي أتفاجأ أن المطرب هو العندليب الأسمر "عبد الحليم حافظ".

يستذكر "أنور حريري" موقفاً إنسانياً نبيلاً قام به "العندليب" في آخر حفلة له قبل وفاته، مشيراً إلى أنه في ذات الحفل الذي جمعه بـ "عبد الحليم حافظ"، جاء أحد العازفين للمكان وهو يرتدي مِعطفاً بلون فستقي مخالفاً للباس الموحد الذي ترتديه الفرقة الموسيقية، فشعر هذا العازف بالحرج الشديد واعتذر من قائد الفرقة الموسيقية واستأذن للمغادرة، إلا أن العندليب حين شاهد الموقف المحرج الذي تعرض له عازف "الأورغ" أصر على بقائه، وقال له: "إن مشيت، أنا ح امشي". وأضافَ حريري أنّ الفنان الحقيقي ليس من يحمل في جعبته النهج الموسيقي فحسب، بل مَن يحمل في قلبه أخلاقاً عالية تجعله محبوباً وخالداً في قلوب الناس.

سيد مكاوي في حلب

جال الفنان "حريري" مسارح عديدة حول العالم مع "سيد مكاوي"، وكان أحبها إلى قلبه حين رافقه في زيارة خاصة لمدينة "حلب" عام 1994 وعزف ضمن فرقته الموسيقية، أما على صعيد الخليج العربي، فعمل "حريري" مع عدد من الطربين هناك، منهم "محمد عبدو، طلال مداح، عبد الله الرويشد"، وتأثر كثيراً بالإيقاعات الخليجية التي كانت تبهره بأزمنتها كونها مختلفة عن المدرسة السورية والمصرية، ووصفها بأنها "ترعب الموسيقيين الكبار" نظراً لخصوصيتها الإيقاعية وصعوبة عزفها.

يُضيف الفنان حريري أن مسيرة عمله كانت زاخرة على صعيد العمل مع فنانين في الخليج العربي ، لكنه بات يلاحظ دخول آلة "الدرامز" الإيقاعية في الأغنيات الخليجية الجديدة ، واصفاً ذلك المشهد أنه بات معقد موسيقاً وثقيلاً على الأذن البشرية، لأن الإيقاعات الخليجية هي بالأصل صعبة التراكيب فعندما يُضاف لها نبضات إيقاعية إضافية من آلة "الدرامز" تصبح ثقيلة على الأذن حسب وصفه ، مشيراً إلى أن جمال الإيقاعات العربية بشكل عام يكمن في وضوح التراكيب الإيقاعية.

وعلى الرغم من عمله مع معظم عمالقة الفن العربي الأصيل في الفترة الواقعة بين سبعينيات القرن المنصرم حتى الآن، لكن المقدرات لم تحالفه بالعزف مع كوكب الشرق "أم كلثوم" نظراً لوفاتها عام 1975، لكنه يشير إلى الأغنية التي كان يتمنى عزفها مع سيدة الغناء العربي: «علاقتي المتينة بالموسيقار "بليغ حمدي" ومحبتي له، ستحتم علي اختيار أغنية من ألحانه لذا كنت أتمنى أن أعزف أغنية "حب إيه" نظراً لِما تحمله من كلمات جميلة كُتبت بقلم الشاعر الكبير "عبد الوهاب محمد"».

المنهج العربي الأول لـ "الكمان"

أنجز "أنور حريري" كتابة أول منهج عربي لآلة "الكمان"، عنه يقول: «كان المقياس العربي المعتمد في قياس الأبعاد التي تقسم البعد الصوتي بين النوتات والمقامات هو وحدة "الكوما"، بينما وجدت في وقت لاحق أن البعد المناسب لتدريس آلة "الكمان العربي" هو وحدة الـ "سنت"، بحيث تكون المسافة بين العلامة والأخرى هي "200 سنت"، وبهذه الطريقة يمكن احتساب "نصف البيمول" بشكل أكثر دقة». مشيراً إلى أن هذا المنهج وضع بشكل أكاديمي بحيث يُسهل على الطلاب العرب دراسته "أون لاين" عبر الانترنت.

وحول الموسيقا العربية المعاصرِة فقد ترك "أنور الحريري" بصمة واضحة في تطويرها، إلى جانب مسيرته الطويلة في التلحين وكتابة الأغاني. وفيما يتعلق بالتوزيع الموسيقي فقد لجأ إلى البساطة والجمال في التوزيع، معتمداً على آلات أصيلة كـ "العود والناي والكمان" مع الإيقاع البسيط المفهوم للاذن البشرية، وهذا ما كان واضحاً في معظم أغنياته التي قام بتوزيعها، مثل "جرح ثاني" للمطرب الراحل طلال مداح.