تميزت "حلب" على مر التاريخ والعصور بمكانتها الفنية والطربية، وكان لها الفضل بالحفاظ على هذا الكنز الثمين من الضياع والإندثار من خلال وسائل متعددة منها التدوين والتعليم بالمعاهد الموسيقية، وآخرها كان عن طريق التسجيلات والغناء بأصوات كبار مطربيها ومنشديها الذين حرصوا على غناء والقدود والموشحات والموال بأفضل أداء ولحن، ومن هؤلاء المطرب الحلبي المخضرم "أحمد خيري" صاحب الحنجرة الدافئة والجملية

صقل موهبته من خلال دراسة القدود والموشحات والدور، ليشق بعدها طريقه بنجاح وثبات مثبتاً علو كعبه بين أقرانه وبما يقدمه من وصلات طربية حلبية تلقى الرضا والإعجاب.

وعن مسيرته الفنية يقول "خيري": أنا من مواليد مدينة "حلب" لعام ١٩٦٦ عضو نقابة الفنانين منذ عام ١٩٩٨، درست وتعلمت في مدينتي "حلب"، اكتشف موهبتي الغنائية مبكراً الفنان الراحل "عبد القادر شعار" حين طلب مني وشجعني على الغناء وأنا طفل على مسرح سوق الإنتاج عام ١٩٧٤، وقدمت خلالها عدة أغان من التراث الحلبي، وبعد حصولي على الثانوية درست الموسيقا في معهد إعداد المدرسين القسم الموسيقي، وتابعت زيادة معارفي الفنية والموسيقية في مدينة "دمشق" وتخرجت عام ١٩٩٠.

1- الفنان الحلبي أحمد خيري

وبداية الطريق الحقيقي لي نحو دخول عالم الغناء عندما تقدمت لبرنامج طريق النجوم الذي كان يبث عبر التلفزيون العربي السوري أسبوعياً وعلى الهواء مباشرة، وبعد منافسة طويلة وصعبة مع زملائي حصلت على المركز الأول.

ثم تعينت بعدها مباشرة في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون قسم دائرة الموسيقا مع الملحن الراحل "إبراهيم جودت" ويقيت بتلك الوظيفة لمدة عشرة سنوات، شاركت خلالها في أغلب المهرجانات الوطنية والدولية ومنها كان مهرجان الأغنية السورية بمدينة "حلب" وكان بعنوان (اسق العطاش)، وبمهرجان "صفاقس" في "تونس" مع الفنان التونسي "نور الدين الباحي" وكذلك بمهرجان "دار الأوبر" في "القاهرة" مع الفنان الراحل "صبري مدلل" وبعد ذلك كنت أدعى لأغلب النشاطات الفنية والموسيقية والغنائية بالقطر بلا انقطاع، وأهمها كان في حفل "دار الأوبرا" في مدينة "دمشق".

2- مراسل مدونة الموسيقا زهير النعمة مع الفنان أحمد خيري

اعتز وافخر أنني درست وتعلمت على أيدي كبار المحلنين في مدينة "حلب" أمثال "نديم الدرويش" و"بهجت حسان" و"عبد القادر حجار" و"عاطف خياطة" و"محمد قدري دلال" و"مؤيد الخالدي" والراحل الكبير "صباح فخري".

رَحَلَاتٌ خَارِجِيَّةٌ

سافر المطرب "أحمد" كما يقول لـ"مدونة موسيقا" لأغلب دول العالم، وغنى فيها للجاليات العربية وأهم رحلاته كانت نحو "أمريكا" خلال عام ٢٠٠٨، واستمرت الدعوات توجه إليه حتى عام ٢٠١٤ غنى فيها في جامعة "سنتا بربارة" بولاية "سان فرانسسيكو" وكان يقدم خلالها الغناء من تراث الفلكلور السوري للجاليات العربية هناك، وكانت توجه له الدعوات عن طريق شركات إنتاج فنية، وتابع رحلاته الغنائية في أغلب الدول الأوربية والعربية. وسافر إلى مصر مع "فرقة شيوخ الطرب" مع العازف المبدع "محمد قصّاص" وأتيحت له الفرصة للغناء بدار الأوبرا لثلاث مرات بتكريم "صباح فخري" مع زملائه "صفوان العابد" و"عبود حلاق" و"فؤاد ماهر".

3- الفنان أحمد خيري مع الراحل صباح فخري

وعن خط أسلوب الغنائي يقول: حرصت على حفظ وتعلم وغناء التراث والقدود والموشحات والأدوار والموال بأصوله الحقيقة مع تطوير ذاتي ومقدرتي الفنية ومتابعة الدراسة والتعلم من الهفوات والأخطاء. ومحاولاتي الغنائية الخاصة كانت قليلة تجسدت بأربع أغانٍ لم تتوفر الظروف الفنية الكافية لنشرهم وتوزيعهم.

أَغلَبُنَا يَركُضُ خَلفَ الأَغَانِي الجَاهِزَة

أكد المطرب "أحمد خيري" أن مدينة "حلب" في السابق كانت نقطة تلاقي وعبور للحضارات العربية والتركية، ما جعل كل الحضارات والثقافات المتنوعة تنصب إليها، ما أكسبها مكانة وقوة فنية فريدة لتكون عاصمة الغناء والفن العربي فيها درس وتعلم "سيد درويش" لمدة عام ونصف، ومنها انطلقت القدود والموشحات للعالم العربي.

وتابع الفنان "خيري": تراثنا الأدبي غني وواسع وعلينا البحث فيه ونبش الموشحات والقصائد التي لم تغنى بعد وهي جميلة جداً، ولكن أغلبنا يركض خلف الموشحات الجاهزة والمحفوظة لتحقيق نجاح مضمون، وتابع هناك أكثر من ٥٠٠ موشح أندلسي وقصيدة، كذلك أشعارنا جميلة جداً يمكن البحث فيها وتلحينها وغنائها وإذا ما تم الشغل عليها ستضيف الرصيد الثمين للأغنية السورية.

وأهم الموشحات موجودة في كتاب "النفحات القدسية" وفيه آلاف الموشحات والقصائد. فيما شركات الإنتاج تركض حالياً، للأسف، خلف أغاني الطبل والزمر، وشتان بين الأصالة الفنية والهابطة .

مِشوَارِي مَع الرَّاحِلِ "صَبَاح فَخرِي"

بكل فخر واعتزاز يقول: بقيت في فرقة الراحل الكبير "صباح فخري" مدة سبع سنوات، سافرنا إلى أغلب دول العالم، كان يحبني كثيراً يعاملني مثل ابنه يناديني بـ"حمدو"، تعلمت منه أصول الغناء على المسرح والوقوف واحترام الجمهور، وأذكر كيف كان يؤدي ابتهال "يارب ان عظمت ذنوبي" ويتأثر كثيراً بهذا الابتهال، وكيف كانت لديه القدرة على غناء موال "قل للملحية بالخمار الأسود" ومن إبداعه أنه كان في كل مرة يغنيها بأسلوب مختلف وبغناء أجمل من السابق. وعندما كنا نحط الرحال بأي دولة تشعر اهتمام تلك الدول باسم الفنان "صباح فخري"، وكان يُعامل بكل تقدير واحترام.

خُطَّةُ عَمَل

بعد رحيل القامة الفنية الكبيرة والتي لن تتكرر "صباح فخري" سوف أتقدم بخطة عمل موسعة مع زملائي الفنانين ومن يرغب بإعادة دراسة مسيرة الراحل بالكامل وجمعها والحفاظ على ما قدمه في مسيرته الطويلة من خلال إحصاء كل التسجيلات وتدريسها بالمعاهد الفنية الغنائية، لكي تبقى رحلته مدرسة ناصعة يستفاد منها للأجيال الصاعدة ونشرها بمختلف وسائل الإعلام خوفاً من الضياع والاندثار، وأتمنى من جميع المشاركين وضع اقتراحات قد تفيدنا بتجسيد قامة فنية عربية لن تتكرر.

حَلب قِمَّةُ الطَّرَبِ

قدمت "حلب" كبار الفنانين على ساحة الغناء المحلي والعربي أمثال الراحلين "محمد خيري" و"صبري مدلل" و"وضاح شبلي" و"رضوان سرميني" و"محمد أبو سلمو" و"حسن حفار" و"أديب الدايخ" و"فاتن حناوي" و"سمير حلمي" و"ميادة بسيليس" و"ربى الجمال و"مها الجابري"... والكبيرة -أطال الله في عمرها- "ميادة حناوي" و"نهاد نجار" و"صفوان العابد" و"شادي جميل" و"سمير جركس" و"فؤاد ماهر" و"عبود بشير" و"حمام خيري" و"شهد برمدا" و"محمود فارس" و"عمر سرميني" و"أحمد أزرق" و"حازم الشريف" وهناك مواهب وأسماء شابة كثيرة بحاجة للدعم والرعاية والاهتمام، وهم كثر وأعتذر ممن لم يذكر اسمه في هذه العجالة.

مَعَاهِدٌ فَنِّيةٌ ولكن..!

هي بادرة جيدة وممتازة لتعليم هواة الفن والغناء والموسيقا من خلال تدريس القدود والموشحات والموال...ولكن بصراحة تحتاج هذه المعاهد إلى الدعم المادي واللوجستي والدعاية الإعلامية اللائقة وهي غير متوفرة في بعض الأحيان، وأنا قمت بالتدريس في معهد "صباح فخري" ولدي ٣٥ طالباً من هواة الغناء للموشحات والقدود.

الفَنُ الأَصِيلُ وَالمَالُ لَا يَلتَقِيان

وأسِفَ الفنان "خيري" لموجة الغناء الهابطة والمنتشرة حالياً والتي تخرش الآذان وسببها بعض شركات الإنتاج الفنية التي يهمها تحقيق الأرباح فقط دون النظر لما يقدم من تواضع غنائي، وعرض علي الكثير لتقديم مثل ذلك لكنني رفضت إطلاقاً الدخول في هذا الاتجاه والانجرار نحو تقديم فن هابط رغم الريوع المادية التي تقدم للفنان.

وختم حديثه لـ"مدونة موسيقا" بالقول: إننا في سورية نملك كل مقومات الفن والغناء الأصيل وسبل الحفاظ عليه من خلال وزارة الثقافة والاعلام ونقابة الفنانين والمهتمين وبعض شركات الإنتاج التي تسعى للحفاظ على الفن الأصيل بعيداً عن التفكير بهاجس جمع الأموال على حساب النغمة الجميلة.