حاز الفنان الكبير "صباح فخري" الذي رحل عن عالمنا بتاريخ 2 تشرين الثاني 2021 إعجاب الجماهير العربية، وإعجاب شريحة واسعة من الأجانب، هو الذي لم ينقطع عن تقديم حفلاته على مسارح المدن والعواصم العالمية الكبرى باعتباره ملك القدود والموشحات والأدوار والتقاليد التراثية المنفتحة على الثروة الغنائية والموسيقية التي تشكلت في مدينة "حلب" طوال قرون... هكذا بدأ الناقد والمؤرخ الموسيقي "أديب مخزوم" حديثه لـ"مدونة الموسيقا" عن الفنان الراحل "صباح فخري".
صنَّاجَةُ الغِناء
"أديب مخزوم" ناقد وفنان تشكيلي ومؤرخ موسيقي والذي حاور الراحل عام 2006 يحدثنا عن تفاصيل هذا الحوار بقوله: «منذ سنوات طويلة كان هاجسي محاورة كبار نجوم الموسيقا والغناء، وفي مقدمتهم الراحل الكبير "صباح فخري"، وحين حصلت على رقمه من أحد زملائي الإعلاميين، اتصلت به مرات عديدة، وكان يرد بنفسه ويقول لي في الوقت المناسب يعطيني موعداً، إلى أن نشرت مقالاً تحت عنوان (هكذا سميت حلب بمدينة السمّيعة) وحين قرأه أعجب به، وسرعان ما وافق على اللقاء، وكان ذلك في صيف 2006 واصطحبت معي مصور الصحيفة التي أعمل بها، وتم اللقاء في منزله في "دمشق" استغرق حوالي ساعتين، وكان حواراً مطولاً وشاملاً، شغل صفحة كاملة في الصحيفة، وهو مسجل لدي على شريط كاسيتت».
تصدير التراث إلى العالم
وحول دور "فخري" في إحياء التراث الغنائي الأصيل يتابع "مخزوم" قائلاً: «المعروف أن مدينة "حلب" كانت تستقطب فطاحل الغناء العربي ليحوزوا منها على شهادة الميلاد والاعتراف من نخبة السميعة، الواعين لأهمية الحفاظ على المناخ التراثي الغنائي الذي لا يزال يحتفظ بوهجه كشاهد على أصالة واستمرارية التراث الموسيقي والغنائي.
وعلى هذه الخلفية التراثية تبلورت الأصوات الحلبية المعاصرة، وفي مقدمتها صوت الفنان الكبير الراحل "صباح فخري" الملقب بـ"صنّاجة الغناء"، هو الذي ظل وعلى مدى سبعة عقود محافظاً على موقعه في واجهة الصدارة.
ولقد وفر له غنى التراث الحلبي مجالاً رحباً للدراسة والاطلاع والاختيار، وكانت رحلته الطويلة مع الغناء الأصيل بمثابة عودة إلى القيم التراثية التي أثارت الاهتمام واكتسبت تقديراً غيرَ عاديّ أدى إلى وصولها لمناطق عديدة من البلاد العربية والعالم».
تعليم الغناء...همُّهُ الأوّل
تواصلنا مع المطرب "جود دلال" وهو من طلابه وأحد خريجي معهد "صباح فخري" الذي يقول:
«انتسبت للمعهد في بداياته عندما افتتح أواخر العام 2008 وكان يُركّزُ الراحلُ "فخري" على تعليم مادة الغناء فيه، ولم يكن همُّهُ "صناعة نجوم" بقدر ما كان همه أن يصقل موهبة المطرب، ويهتم بتعليمه وتثقيفه لأنه يرى أن موضوع الثقافة عند الموسيقيين قليلة. تعرفت إليه في المعهد حيث كان المدير العام له يحضر الدروس الأساسية والامتحانات شخصياً إضافة ً للقاءات تحفيزية مع الطلاب ليشجعهم على تعلم الموسيقا، وجاءت تسمية معهد "صباح فخري" للغناء والموسيقا للتشديد على أهمية مادة الغناء ويعتبر الوحيد من نوعه في العالم العربي، ودائماً كانت تتردّد على لسان الراحل كلمة: "اقرأ"».
مدرسةٌ بذاته!
وحول علاقته بالطلاب يكمل المطرب "دلال" بقوله: «لم تكن علاقتنا معه علاقة مدرس بطلابه، بل كانت علاقة أبوة، ودوماً يخاطبنا بكلمة (يا أولادي) ونحن نراه مثل الأب لأن معظم المنتسبين للمعهد انتسبوا له محبةً وإعجاباً به ويريدون أن يسيروا على خطاه، تعلمنا منه وحاولنا تقليده باللاوعي لشدة تأثرنا به، حاولنا أن نغني ونتحرك مثله، كان دائماً يعلمنا الصبر والسير بخطوات مدروسة على طريق النجومية، هو إنسان مثقف متعلم لديه كاريزما متميزة، ويسير واثق الخطى، مشيته وحركاته مدروسة، جمع المجد من كل أطرافه».
ويتابع: «كل شيء تعلمته منه أطبقه اليوم، مع أنه يحتاج لسنوات لتحصيله، هو صاحب الفضل الأكبر على مدرسة الغناء الحلبية، هيأ لنا أغلب الأعمال التي نغنيها اليوم من موشحات وقدود، وقدمها لنا على طبق من ذهب، وهو مرجعي بكل مشواري الفني».
سبعون عاماً من الطرب
من جهته "عبد الرحمن الحلبي" شاعر غنائي يقول حول رحيل الفنان الكبير "صباح فخري" الذي دخل اسمه موسوعة "غينيس" بعد غنائه لمدة عشر ساعات متواصلة في أحد حفلاته: «سيخلد اسمه على طول المدى لأنه أغنى المكتبة العربية من غناء أصيل سواء أكان على صعيد الموشحات، القدود والأدوار والقصائد بشتى أنواعها فقد امتلك حنجرة قوية كلما غردت كلما ازادت جمالاً فأطرب القلوب والأرواح لمدة تجاوزت السبعين عاماً حتى وصل سن الشيخوخة فتراجعت طبقات صوته في سنواته الأخيرة».
خسارة لا تعوض
وحول حامل لواء الأغنية الأصيلة يكمل "الحلبي": «حافظ الراحل على ترثنا السوري وخاصةً الحلبي، أحيا مئات الموشحات والقدود بعد أن كانت طي النسيان وألبسها حلل الجمال وفن الإتقان من ناحية قولبتها بمقياسها الصحيح إضافة إلى أنه غنى القصائد والموشحات الملحنة حديثاً وجعلها تتماهى مع تلك القديمة من حيث الشكل والمضمون، ولحنها له كبار الملحنين السوريين أمثال الملحنين "عدنان أبو الشامات"، "محمد محسن"، "ابراهيم جودت" و"سهيل عرفه" وغيرهم».
موهبته في الارتجال
يؤكد "الحلبي" أن الراحل الكبير "فخري" كان مثقفاً فنياً، وعندما يغني يرتجلُ في كل مرة، ويضيف شيئاً جديداً باجتهاده وخبرته، فيشد المستمعين له ويزدادون إعجاباً وهياماً بعذوبة صوته ورقة إحساسه وحضوره الآسر، وأنه كان قدوةً حسنةً لكل من عرفه عن قرب. ويقول: «كم كنت محظوظاً أنني اجتمعت به لعدة المرات في جلسات فنية خاصة وبصحبة الراحل الكبير الموسيقار "عدنان أبو الشامات" الذي لحن له من كلماتي بعض القصائد الدينية التي أراد أن ينفذها على نفقته الخاصة، وكم كان متميزاً في سرعة الحفظ كلاماً ولحاناً ـ رحمه الله ـ كتب الراحل "فخري" المقدمة الأولى لكتاب "المنهاج الشامل" تأليف الموسيقار "عدنان أبو الشامات" وكانت المقدمة الثانية من كتابتي، هذا الكتاب الذي اعتمدته نقابة الفنانين مرجعاً لامتحان الانتساب إلى النقابة».
في سطور
نشير إلى أن "صباح فخري" من مواليد مدينة "حلب" عام 1933 واسمه الحقيقي "صباح الدين أبو قوس" حاصل على عدة أوسمة وتكريمات منها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، ووسام تونس الثقافي، ووسام تكريم من "سلطنة عمان"، وجائزة الغناء العربي من "الإمارات" وجائزة مهرجان "القاهرة" الدولي للأغنية وجائزة تقديرية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، كما كرم مؤخراً من قبل منظمة طلائع البعث في دار الأوبرا لدوره في إغناء التراث الغنائي السوري.