هل حقاً بين أيدينا كل تاريخنا وتراثنا الفني الموسيقي والغنائي الواسع والشامل في المقامات والموشحات والمواويل والطقطوقات، ولم يبقَ منه شيء إلا وظهر للعلن وتم تسجيله وحفظه وغناؤه وتلحينه بقالبه الأصلي من دون المساس به مع بعض الإضافات البسيطة؟ أم إنه العكس تماماً، هناك جزء مهم وكنز موسيقي مدفون بين الكتب وفوق الرفوف وفي الأرشيف يحتاج لفريق متخصص من أجل البحث المضني والعناء وفهم مكنوناته التراثية الموسيقية الثمينة؟
وفي حال النجاح بالحصول عليه أو على بعض منه لابد من وضع الخطة المناسبة لإضافته للرصيد السابق، وصحيح أن ما ظهر منه للعلن مهم وله قيمته التراثية وأعطى الانطباع عن الحضارة والثقافة وجمال وإبداع الموسيقا العربية، لكن الأهم ولتتمة الموضوع لابد من البحث عن ما هو مغمور وقد لا يقل قيمة ومتعة عما هو متداول.
موقع "مدونة الموسيقا "التقى الباحث في التراث الموسيقي الدكتور "أيمن سيد وهبة" الذي ينشط في مجال البحث وتحديداً بالتراث الموسيقي الشرقي النادر والمهمل، والذي لم يظهر بعد، ووفق عدة خطوات وتراتيب بغية تحقيق هدفه الذي يسعى إليه منذ أكثر من أربعين عاماً، في البداية وفي تعريف نفسه قال: "رغم اختصاصي ومهنتي بطب الأسنان، لكن جذوري متأصلة بحب الموسيقا وتراثها مثل كل العوائل الحلبية التي تعشق الطرب، وذلك بسبب الهدوء السائد وفساحة البيوت العربية والطبيعة الجميلة ففي كل منزل حلبي تجد مغنياً أو عازفاً أو منشداً، فوالدي وعمي وجدتي كلهم كان يجيدون الغناء والعزف ببراعة على آلة العود، ويقيمون حفلات السمر والسهرات البيتوتية، التي كان تغنى فيها القدود والموشحات وقصائد الإنشاد ورقصات السماح، وضمن هذه الأجواء كان من الطبيعي والمنطقي أن أخطو على نفس المنوال بدراسة الموشحات والقدود والغوص في معالم التراث الموسيقي وأصوله، وتطور اهتمامي فيما بعد إلى جانب آخر بالفن الموسيقي، وهو حب وسماع أداء للمطربين القدامى من خلال أشرطة (البكر) ومحاولة تميز أصواتهم عن بعضهم البعض وطريقة غناء كل واحد منهم، وأوجه الاختلاف وتوسعت آفاق هوايتي أكثر في مطلع التسعينيات نحو البحث بشغف في الأغاني النادرة وغير المعروفة بغية تسجيلها وتحويلها إلى تسجيلات رقمية وأرشفتها وحفظها عن طريق الكمبيوتر مع المحافظة على عملية النقل بأن تكون بنفس السرعة الأصلية التي سجلت فيها وحتى الآن تمكنت من أرشفة أكثر من ٧٠٠ أغنية نادرة من التراث السوري ومن مختلف مطربي المحافظات، وإن كان أغلبها من التراث الفني الحلبي، وكذلك بحثت في التراث الموسيقي اللبناني والمصري ونجحت في حفظ ما جمعته على قناتي الخاصة على اليوتيوب وصفحتي الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، خشية من الضياع والاندثار، وحتى يتم الرجوع لهذا الأرشيف في أي مناسبة تلزم".
"فيروز الحلبية" و"مها الجابري" و"سحر" و"يولاند أسمر"
عندما تذكر كلمة "فيروز" بالوسط الفني يخال لنا جميعاً أنها المطربة الكبيرة "فيروز" اللبنانية، ولكن قد لا يعلم بعضنا أنه في بداية القرن العشرين كان في مدينة "حلب" مطربة مبدعة اسمها "فيروز" الحلبية، اشتهرت بجمال صوتها، وغنت أمام "جمال باشا السفاح"، واكتشفت لها من خلال البحث تسجيلات غنائية مذهلة، حتى أن أحد اصدقائي في "أمريكا" عثر على إحدى تسجيلاتها النادرة في مكتبة "الكونغرس" وأرسل لي ذلك التسجيل وحفظته في أرشيفي الذي اعتمدته.
وفي مثال آخر وهو أننا لا نعلم سوى عدد محدود من أغنيات المطربة الراحلة "مها الجابري"، ولكن الحقيقة التي لا يعلمها الكثير أن في رصيد الراحلة أكثر من ٥٠٠ أغنية، وما هو مشهور منها ومذاع لا يتجاوز عدد أصابع اليد، وتمكنت من الحصول على أكثر من ٣٠ تسجيلاً جديداً لم تُذع من قبل لملحنين مصريين وسوريين، ونفس الأمر ينطق على المطربة الراحلة "سحر" (واسمها الحقيقي فضيلة مقلي) وكذلك "يولاند أسمر" وهناك مطربون حلبيون كثر عاشوا وماتوا بالمغترب ولهم أرشيف غنائي كبير، وهذا ما أبحث عنه ليلاً نهاراً للوصول إليه ولو بطريقة مأجورة وعلى نفقتي الخاصة، لوضعه في أرشفة التراث الغنائي السوري اللامادي.
مَصَادِرُ البَحثِ
يقول عنها الدكتور "أيمن": للأسف أشقاؤنا المصريون سبقونا بأشواط كثيرة بمواضيع الأرشفة الفنية الغنائية لمطربيهم وكل مطرب عربي غنى فوق مسارحهم، بينما نحن متأخرون، ولم نعلن بعد الخطوة الأولى للأرشفة وأهملنا ذلك كثيراً، وللحقيقة هذا المجال يعد بمثابة الكنز المدفون والذي يحتاج لنفض الغبار عنه، وبالنسبة لي بعد أن تخصصت بذلك بدأت بالاعتماد على عدة مصارد موثوقة للأرشفة أهمها:
١- من خلال محاولة الحصول على أشرطة الكاسيت والأسطوانات القديمة وأحاول تجهيزها هندسياً وصوتياً وسماعها أكثر من مرة مع الاستعانة بالخبرات والأعمار القديمة للتأكد من هوية صاحب الصوت.
٢- من معارفي الشخصيين في محافظتي "دمشق" و"حلب" وأنا على استعداد للسفر لأي محافظة لأجل شراء أو اقتناء أشرطة غنائية نادرة.
٣- البحث والتواصل مع المواقع المأجورة على النت والتي لا تسمح بالدخول إليها إلا بعد دفع الرسوم المقررة. مثل موقع "منتدى سماعي" حيث لديه أكثر من ٢٥ ألف مشترك كلهم مهتمون بالتراث الموسيقي لطلب تسجيلات نادرة.
٤- البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تبث الأغاني القديمة والنادرة.
وكنت أحرص على متابعتها مثل برنامج "أبيض وأسود" الذي كان يعرض في التلفزيون السوري وتسجيل ما يلزمني، وكذلك الاستماع لإحدى الإذاعات اللبنانية التي كانت تهتم بهذا الجانب.
وحتى وصلت للاستماع ومتابعة برنامج "يا مال الشام" في إذاعة مونتريال "بكندا"، حيث كان يقدمه المذيع الحلبي "سامي هلال". الأمر الذي شجع إذاعتي "لبنان" و"مونتريال" لاستضافتي للحديث عن الأغاني النادرة للمطربين الحلبيين.
وأنتم يحسب لكم في "مدونة الموسيقا" عملكم وجهدكم هذا بالتدوين والأرشفة والبحث في التراث الموسيقي للمطربين والملحنين السوريين. وللعلم التراث الحلبي النادر وهو قابل للتطوير شريطة عدم المساس بالجوهر، ويمكننا الاعتراف بفضل المطرب الكبير الراحل "صباح فخري" في الحفاظ على الكثير من التراث الموسيقي وغنائه الأدوار والموشحات التي أصبحت مشهورة، ولم يكن أحد يعرفها من قبل. وعلى جيل الشباب القيام بذات الدور الذي قام به الراحل "صباح" بالبحث في التراث الغنائي والموشحات ونبش ماهو مهمل وقد يكون تم غناؤه لمرة واحدة وبذلك نعيد تراثنا الجميل للواجهة وبثه بقالب جديد ويحسب لمن يقوم بهذا العمل جهده وتعبه.
أُمنِيَاتُ الأَرشَفَةِ
وختم الدكتور "أيمن" حديثه لمدونة الموسيقا بالقول: "الأغنية السورية بتاريخها الطويل والثري وبمختلف ألوانها الغنائية بحاجة لأرشفة رقمية حتى لا تضيع وتندثر، فهي مرآة الثقافة الفنية للمجتمعات، وتعكس حالة الرقي والحضارة والتطور، وأتمنى أن تتبنى أي جهة أو عدة جهات مشتركة ما بين وزارة الثقافة والإعلام والهئية العامة للإذاعة والتلفزيون بالتعاون مع نقابة الفنانين تشكيل لجان سريعة من الخبرات تضم مطربين وملحنين وشعراء وباحثين، للعمل على تحويل الأرشيف الغنائي السوري إلى تسجيلات رقمية مؤرشفة، ويكون لها موقع على الشبكة العنكبوتية يمكن الرجوع له وقت الحاجة والعمل أيضاً على تحويل كل ما يتوفر في أرشيف الإذاعة والتلفزيون من كاسيات إلى أشرطة رقمية ويمكن حفظها في مكتبة "الأسد" أو لدى أي وزارة أو جهة مهتمة".
شَهَادَاتٌ فَنِّيَةٌ
الباحث الموسيقي "ماهر موقع" قال: "يتميز الدكتور والباحث الموسيقي "أيمن سيد وهبة" بالشمولية في تناوله للتراث الموسيقي الشرقي، وأهم رواده من مطربين وملحنين ومهتمين تابعوا هذا الفن وتطوره ولعله من المفيد الإشارة إلى الجهد الكبير المبذول من الدكتور "أيمن" في البحث والتعمق لنبش الجواهر الفنية التي لم تأخذ حقها من الدراسة والتحليل، حيث إن كثيراً من الأغاني والمقطوعات الموسيقية والألحان الجميلة والأصوات المتميزة قد غابت على رفوف المكتبات الموسيقية داخل محطات الإذاعات والتلفزيونات وتم نسيان أغلبها، حيث يتم عادة التركيز على الجديد من الإنتاجات الفنية والموسيقية والغنائية بشكل يؤدي إلى غياب هذه الأعمال الجميلة والعريقة ونسيانها في الغالب من أذهان المستمعين. لذلك فأنني أرى أهمية الجهد الذي يقوم به الدكتور والباحث "أيمن" يرقى إلى مستوى الباحث الأكاديمي والموسوعي الذي ينقب عن الجواهر المكنونة من تراثنا الموسيقي الجميل ويضعها من جديد أمام المهتمين والمتابعين من المطربين والملحنين لإعادة إحيائها وتطويرها ولاسيما أن كثيراً من الأعمال التي يتناولها باحثنا المُجِدّ الدكتور "أيمن" هي أعمال وألحان جميلة وقابلة للتطوير ويمكن أن تشكل حلقة مهمة من حلقات الاهتمام بالتراث اللامادي الذي بدأت المنظمات الثقافية الدولية توليه العناية اللازمة بعد أن تم أدراج القدود الحلبية على لائحة التراث الإنساني".
فيما قال "عبد الحليم حريري" رئيس فرع نقابة الفنانين بمدينة "حلب": "نقدر ونشكر جهود الدكتور "أيمن" بتسليطه الضوء على مطربين ومطربات لم يكن لهم حظ من الشهرة على الرغم من إمكاناتهم الفنية العالية وأصواتهم الجميلة.. وبرأيي أهمية ذلك تنبع من دراسة سبب عدم شهرة أولئك المطربين والمطربات وعدم خلود أغانيهم ويأخذنا ذلك إلى لحن الأغاني التي غنوها حيث لم تلقَ رواجاً شعبياً. وهذه معضلة الكثير من الأصوات الجميلة المتمكنة التي لا تجد ملحناً فذاً يعطيها أغاني بيحبها الناس. وبالنهاية يجب أن نعلم بأنه لا يمكن للحن أن ينشهر إن لم يلامس بيئته وأذواق الناس. فكل الألحان صحيحة ولكن ليست كلها جميلة.. فللجمال مقاييس مختلفة".