غادر المايسترو "مؤيد الخالدي" سورية، لكن البلاد لم تغادره، وبقي مواظباً على زيارتها ليهديها الألحان الشرقية الأصيلة التي تنعش النفس والذاكرة، عاش في الغرب لكن الشرق بقي مستوطناً في ذاكرته، وعمل سفيراً للألحان الشرقية في كندا ومازال يسعى إلى إعادة إحياء هذه الألحان التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، إيماناً منه بأن الألحان الشرقية والعربية عريقة وتستحق أن تبقى خالدة.

لم تكن موهبة المايسترو "مؤيد الخالدي" متأخرة بل كانت منذ طفولته، حيث تحدث لـ"مدونة الموسيقا" عن تأثره بالموسيقا: "في فترة الطفولة كانت والدتي تستعين بالراديو حتى تتمكن من تهدئة بكائي، وكنت استمع إلى فيروز وأم كلثوم وأسكت عند سماع القرآن الكريم، وفي عمر أربع سنوات انتبه والداي إلى الألحان التي كنت أعزفها على لعبة بيانو اشتروها لي، كما لاحظوا أنني أقوم بالنقر على الطاولة وفق لحن الأغنية من دون أخطاء أو نشاز، فما كان منهم إلا أن بدؤوا بالاهتمام بهذه الموهبة وتشجيعي على تنميتها، وبدأت بالتدريب وأصبحت الموسيقا جزءاً من ذاتي فاتجهت لدراستها والتعمق بها، الأمر الذي ساهم بدور كبير في صقل الموهبة الموسيقية، وتعرفت على ثقافات الشعوب والحضارات المختلفة والموسيقا الخاصة بهم ما أضاف لي الكثير من القيم الثقافية والموسيقية".

ثالث قائد أوركسترا في سوريا!

تعدّ مسيرة "الخالدي" حافلة بالأحداث التي شكلت محطات مهمة في حياته، ويقول عنها: "لكل محطة في حياتي بصمة لا تقلّ أهمية عن غيرها سواء تلك التي كانت في البلاد أو في الخارج، ومن أهم المحطات كان تخرجي من "روسيا" وحصولي على درجة الماجستير بقيادة الأوركسترا والتأليف والتوزيع الموسيقي، وعودتي للبلاد والانضمام إلى نقابة الفنانين عام 1988 وتصنيفي ثالث قائد أوركسترا بتاريخ سورية وهذا شرف وفخر لي، لأنتقل في عام 1992 إلى سلطنة عُمان وأسست أول أوركسترا مصغرة بالمدرسة السلطانية، واستمررت بقيادتها حوالي 13 سنة، لأنتقل في عام 2004 إلى كندا وأعمل مع زميلي الأستاذ "أنس السيد" على تأسيس أوركسترا "أندلسيا" عام 2007 ولاتزال مستمرة لليوم تقدم الموسيقا العربية الشرقية الأصيلة لكل المتذوقين للموسيقا من العرب والأجانب المتواجدين في مونتريال– كندا، ولكل من يخالجه الحنين لبلاده العربية، وتتميز أوركسترا "أندلسيا" بأنها تضم مجموعة من الموسيقيين النخبة في الوطن العربي والتي رافقت العديد من الأساتذة الكبار في الفن أمثال وديع الصافي".

1- المايسترو مؤيد الخالدي

وعن المسارح العربية والأجنبية التي وقف عليها "الخالدي" وأيّها الأقرب إلى قلبه يقول: "إن مسرح دار الأوبرا في دمشق من أجمل وأروع المسارح التي أقف عليها، ويعود الموضوع إلى الراحة النفسية التي أشعر بها وخاصة أنني أقف بين أهلي وفي بلدي، حيث أكون في قمة الإبداع لأني أقدم الفرح للناس التي تعيده إليّ عند تفاعلها مع العرض، ومن المعروف أنه إذا قدمت الفرح للناس فإن فرح الناس سيعود إليك عندما تلاحظ ردة فعلهم مباشرة بعد انتهاء العرض، الأمر الذي لمسته مؤخراً عندما قدمت مشروعي "رحلة من الأنغام" على مسرح دار الأوبرا واليوم أعمل على خوض رحلة ثانية ولن تتوقف الرحلات مع الأنغام في السنوات القادمة".

لا تقل أهمية التحضير لبرنامج الحفلة عن العرض ذاته، بل يعتبر الركيزة الأساسية لنجاح العمل ويتحدث "الخالدي" عنه: "أعتمد في برامج الحفلات التي أقدمها سواء الغربية أو الشرقية وأكثرها الشرقية على تقديم كل ما هو جديد، ولا أقصد مقطوعة موسيقية جديدة بل أقصد المقطوعات الفنية العربية الأصيلة القديمة المحفورة بوجداننا وباطن عقولنا ولكن أصبحت منسية لدى الناس، وما أفعله أنني أقوم بمسح الغبار عنها لتعود وتتألق مرة ثانية بالذاكرة، لذا أبذل جهداً كبيراً في انتقاء الألحان والمقطوعات، وقد يستمر التحضير لثلاثة أو أربعة أشهر أعمل خلالها على إضافة أو تعديل المقطوعات وأسمع البرنامج مرة واثنين وثلاثاً، أعمل خلالها على معالجة التسلسل اللحني المنطقي للمقطوعات والذي يجب أن يكون تصاعدياً، ثم أبدأ بعدها بالتنويت، فإن كان هناك مقطوعات تتطلب توزيعاً يتم توزيعها ولكن مع الألحان القديمة أفضل أن تبقى كما هي لأننا اعتدنا عليها بهذا الشكل".

2- المايسترو مؤيد الخالدي

مهمّة صعبة لكن جميلة!

وعن مهمة المايسترو والأسس التي اعتمدها في انتقاء الفرقة الموسيقية يقول "الخالدي": "تعتبر مهمة المايسترو من أصعب المهام فهو القائد الذي يسير بجيش من الموسيقيين إلى برّ الأمان ليقدم العمل الصحيح والمميز للذائقة الشعبية، وكل عمل لا ينجح من دون تكامل وتناغم العمل بين المايسترو والموسيقيين فهما الركيزتان الأساسيتان لتقديم عمل فني ناجح، فمهمة المايسترو ضبط عمل العازفين من ناحية الأداء، بمعنى: هل السرعة مناسبة، هل قُدمت الأصوات العالية بمكانها، والأصوات الخافتة بمكانها، هل تم إظهار الآلات المطلوب إظهارها بالوقت والشكل الصحيح، وهل تمت السيطرة على بعض الأخطاء التي تظهر أثناء العزف مباشرة! لذا عندما أعمل على انتقاء أعضاء الأوركسترا يجب أن يكون العازف موهوباً وذواقاً للموسيقا ليكون بالتالي ذواقاً للعمل الذي يتم تقديمه أكان شرقياً أم غربياً، وبالتالي فإنه يضع بصمته الموسيقية الخاصة عند تنفيذ اللحن المطلوب، لذا أطلب دائماً من أفراد الأوركسترا أن يسعدوا أنفسهم عند العزف لأنك عندما تسعد نفسك فسوف تسعد الناس الموجودين في المسرح".

ويختلف تجاوب الجمهور باختلاف الموسيقا التي يتم عزفها له، وخاصة إن كانت موسيقا مختلفة عن ثقافته، فيقول "الخالدي": "الموسيقا الغربية عبارة عن رسم محكم الأحداث مخروطي، وبالتالي فإن الموسيقي ينفذ ما يكتب إليه بالحرف من دون زيادة أو نقصان، فهي عبارة عن 1+1=2 فيها السعادة والحزن والفرح كحال الموسيقا العربية، لكن تتميز موسيقانا العربية العظيمة بأنها أعمق وأقدم وأقدر فهي كالكرة يمكنك التحكم بها كيفما تشاء مع الالتزام باللحن المكتوب، وتجد فيها التقاسيم والأنغام ويتخللها الشجن وبالتالي تصل للمستمع العربي محملة بالوجد والهيام، وعندما تعزف للجمهور الشرقي لحناً شرقياً بالتأكيد سينجم معك ويقدر كل ثانية تقدمها له، بينما لو عزفت له موسيقا غربية وهو لا يعرف الكثير عنها سيتابع بانتباه ليتعرف على شيء جديد، وكذلك الأمر للجمهور الغربي عندما تقدم له موسيقا شرقية سيكون في قمة الانتباه لأنه يسمع لحناً جديداً وغريباً، وبالعموم يشترك الجمهور الشرقي والغربي باحترام الفن والموسيقا".

وختم المايسترو "مؤيد الخالدي" اللقاء بالحديث عن المواهب والخامات الموجودة في سورية الولّادة والغنية أكثر من الذهب العتيق، لكنها تحتاج الفرصة لتظهر وتنال الشهرة والوصول للناس، وأن وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب والإنترنيت ساعدت الموسيقي على الانتشار والوصول للناس بشكل أسرع من قبل، ويعتقد أن طريق الفن طويل وصعب سواء في الماضي أو حالياً لكن وجود مثل هذه الخامات في مثل هذا الزمن السيئ فنياً يبشر بالخير، وبالرغم من انحدار مستوى الفن إلا أنه لا يزال هناك ذواقون للفن الجميل وهناك أفراد يقدمون الفن الأصيل.

يذكر أن المايسترو "مؤيد الخالدي" فنان وقائد أوركسترا وملحن من مواليد دمشق 1963.