كثيرة هي الآلات القديمة التي لايزال العديد منها يًستخدم إلى اليوم، منها ما خضع للتطوير والتحديث ليجاري العصر، ومنها ما بقي على حاله وانبثقت عنه آلات أخرى، ولكل منها حكاية تضرب في جذورها عمق الأرض. ولكن ماذا عن "الطمبورة" وعائلتها التي تضم عدة آلات بما فيها "البزق، الباغلمة"، وما تاريخها؟ وما الفارق بين آلة وأخرى؟.. تساؤلات نسعى إلى الإضاءة عن أجوبة لها عبر السطور التالية.

نظرة تاريخية عامة

للوقوف على تاريخية كل آلة ومقدراتها اللحنية، توجهت "مدونة الموسيقا" إلى الباحث الموسيقي "شادي اميل سروة" الذي ربط كلامه بثلاث آلات موسيقية، هي "الباغلمة، البزق، الطمبورة"، وقال بداية: «لطالما كان البحث الموسيقي المرتبط بالتاريخ في هذه المنطقة المباركة من الكون التي تتقاطع فيها الحضارات والثقافات يشكل تحدياً شخصياً بسبب غياب الحيادية الحقيقية في الأبحاث».

ويتابع: «غالباً ما تُحصر الآلات الموسيقية ضمن قومية معينة، رغم أنها نتاج تفاعل إنساني واسع .فالعرب أصل الموسيقا والأكراد أصل آلة البزق، والأتراك أصحاب المقامات، والفرس مخترعو نظريات الموسيقا، والسريان أصحاب الكوما وأرباع الأبعاد ..الخ. ويضيع بين هذا وذاك حقيقة أن لا أحد يملك الموسيقا، فالموسيقا عبقرية إنسانية جامعة، ومحاولة تأطيرها في قوميات محددة سيفقدها من معناها ويحولها لنقطة خلافية إضافية نتصارع عليها ونحاول بصراعنا إلغاء الآخر ووجوده».

الباحث الموسيقي شادي اميل سروة

ويشير "سروة" إلى أنه يتناول الآلات الثلاث "الباغلمة، البزق، الطمبورة" عبر منظور متعدد الثقافات، يشمل الحضارات الموجودة في منطقة المشرق "الكردية، العربية، التركية، السريانية، الأرمنية، الفارسية" إضافةً إلى تأثيرات الحضارات القديمة "اليونانية ـ البيزنطية" و"السومرية ـ الآشورية"، يقول: «من خلال دخولي في تفاصيل بعض الأبحاث لاحظت وجود آلات مشابهة تاريخياً في مناطق مثل "الهند وشرق آسيا"، لكن أفضّل عدم ربطها بأصل هذه الآلات، بل باعتبارها مثالاً على تشابه الفكر الإبداعي الإنساني عبر التاريخ و الجغرافيا».

الطمبورة

تناول الباحث الموسيقي "شادي اميل سروة" بداية تاريخ وأصل آلة الـ "الطمبورة" "Tanbur/Tambura"، يقول: «ذكرت النصوص الآشورية آلة "تمبورو" في كتابات آشوربانيبال "وهي من أقدم الآلات الوترية، ظهرت في النقوش السومرية والآشورية مع الآلة الأكثر شهرة وهي القيثارة السومرية المكتشفة في اور (7-3 ق.م) وهي أداة مصاحبة للموسيقا الملكية والدينية"، كما ذُكرت "الطمبورة" "ܬܢܒܘܪܐ" في النصوص الآرامية المسيحية أي السريانية، في كتابات "مار إفرام السرياني" (القرن الرابع الميلادي) كآلة مصاحبة للتراتيل الدينية المُستخدمة في التسبيح، وكانت تصنع أحياناً من قشرة السلاحف "حسب مخطوطة من دير مار متى". وعرفت مناطق الأناضول وبلاد فارس الآلة أيضاً بأسماء مختلفة بحسب حجم الصندوق وطول الزند ومنها "الكورا/ جورا" باللهجة العراقية و"الطنبور"، "الديوان ساز"، "الميدان سازو الساز الفارسي"، أما عند الأكراد فهي معروفة باسم "Tembûr"، وهي موجودة أيضاً في جزء من الطقوس "اليزيدية"».

آلة الطمبورة

ويشير "سروة" إلى أن "الطنبورة" بشكلها المشابه لقيثارة "اور" استخدمت في "أفريقيا ومصر القديمة" وأطلق الاسم على آلة مشابهة لـ "القيثارة الآشورية" وبأوتار ثلاثة ولاتزال في مناطق "النوبا"، وانتشرت في المنطقة العربية لاحقاً في العصور العباسية. وفيما يتعلق بـ "التراث الأرمني" فهناك إشارات لآلات مشابهة في المخطوطات، لكن دون تأكيد تطابقها التام مع "الطمبورة" السريانية أو الكردية.

وحول الخصائص التقنية لآلة "الطمبورة" يوضح أنها مؤلفة من جسم صغير من خشب التوت أو أنواع أخرى ، وعادة لها ثلاثة أوتار، أما "الرقبة" فهي زند طويل يصل إلى حتى "23 دست أو برداية أو دوسة" وهي "تسميات تطلق على التقسيمات في زند الآلة تحدد للعازف الأبعاد الموسيقية المختلفة. ولها صوت عميق وروحاني.

آلة البزق

البزق

آلة الباغلمة

في حديثه عن أصل وتاريخ آلة "البزق" "Buzuq/Bouzouki" يقول: «تطورت عن "Pandoura" اليونانية القديمة، بتأثير فارسي من آلة "البربط" وهي أداة أساسية في الموسيقا الشعبية الحضرية. وظهر "البزق" بصيغته الحديثة بالقرن 19 في "اليونان كبوزوكي"، وانتقل إلى "بلاد الشام وتركيا". وفي العصر الموسيقي الحديث استُخدم في موسيقا الرحابنة خاصة "زياد الرحباني" وبرع فيه العازف السوري الكبير "محمد عبد الكريم"».

ويشير إلى أنه في المصادر السريانية ورد باسم "ܒܘܙܘܩܝܐ" في وصف احتفالات الزواج في طور عبدين. يقول: «تميزت آلة "البزق" أحياناً بوجود ثقوب صوتية دائرية صغيرة "3-5 ثقوب" بدلاً من الثقوب البيضوي، ذكرها المؤرخ السرياني بارعبرايا "القرن 13" عند حديثه عن موسيقا البلاط. أما في التراث "الأرمني" فاستُخدمت في بعض الفرق الشعبية بالمناطق العثمانية المختلطة. ومن الجهة التركية والكردية وفق بعض المراجع يعود الأصل الى آلة "الكوبوز" التي تنحدر إلى عصر ما قبل الإسلام في "آسيا والأناضول"، وهناك أحياناً خلط مع آلة "الطمبورة والساز" بسبب التشابه».

الموسيقي شكري سوباري

وعن الخصائص التقنية لـ "البزق" يقول: «شكله أقرب الى "العود" من "الطمبورة", فـ "الطمبورة" بطنها مقعّر أكثر "كمثري" الصندوق أقرب شكلاً الى "آلة العود"، وله فتحة في بطن الصندوق تتحكم بطبيعة الصوت، له رقبة طويلة، 28–30 دست، عادة 4 أوتار "2×2" في النسخة الحديثة، وأحياناً 6 أوتار في النسخ "السريانية أو الأرمنية". وصوته معدني واضح بسبب الأوتار المعدنية التي استخدمت في العصور الحديثة».

الباغلمة

الآلة الثالثة التي تحدث عنها الباحث الموسيقي "شادي اميل سروة" هي "الباغلمة" "Baglama/Bağlama"، متناولاً أصلها وتاريخها، يقول: «ظهرت بصيغها البدائية في "الأناضول" خلال العصور الوسطى في القرون "11 – 13 ميلادي" كتطور للآلات "التركمانية" وآلات "أوزبكية" مثل "Dutar" وآلات "فارسية" مثل "Setar"، وتطورت في العصر "العثماني". ويُرجع بعض الباحثين جذورها إلى الآلات الوترية في "بلاد ما بين النهرين"، مع تأثيرات من آسيا الوسطى مثل الأصول "السلجوقية"، وذُكرت باسم "ܒܠܓܡܐ" في مخطوطات "دير الزعفران"، واستخدمت في الأغاني السريانية الشعبية "أغاني الزراعة والحصاد"، أما في الثقافة الأرمنية فقد وُجدت آلات مشابهة في الفرق الشعبية بأقاليم "الأناضول الشرقية" في القرن 19، خاصة بين الأرمن القرويين».

الموسيقي غاندي حنا

وفيما يتعلق بالخصائص التقنية يشير إلى أن لـ "الباغلمة" صندوق أكبر من "الطمبورة"، وشكل الصندوق كمثري، برقبة طويلة، وتضم الآلة عادة 7 أوتار "3-2-2"، وللصندوق فتحات للتحكم بالصوت "يختلف موقعها في الصناعة الحديثة للألة"، وهناك أنواع كثيرة بحسب الحجم وطول أو قصر العنق، نذكر منها "الباغلمة قصير العنق"، "الباغلمة طويل العنق"، "التار والسيتار" ويتراوح عدد الدساتين ما بين 40-19 دست /برداية /دوسة.

ويؤكد أن جميع هذه الآلات هي آلات شعبية، ولم تدخل إلا في العصور الحديثة جداً أبواب الأكاديميات التعليمية والبحثية في تركيا وإيران وبعض الدول الأخرى. وللأسف لم يهتم العرب في تاريخهم الموسيقي المعاصر بهذه الآلات كثيراً، ولا يعتبرون أنها أساساً من التخت الشرقي "الات موسيقية يتم استخدامها في تقديم القوالب الموسيقية العربية"، ولم تطوّر مناهج تعليم لهذه الآلة في الكليات والمعاهد العربية الرسمية.

الموسيقي أكرم نيازي

ويتابع قائلاً: «لم أدخل في بحثي بأساس تسمية الآلة بالتفصيل لكنني حُكماً لست مع ما ورد في بعض المشاركات، وبالأخص ما فسّر الاسم من خلال الجمع بين لغتين "بو - زق"، لأن هذا الكلام "مع احترامي الكبير" ليس طريقة بحثية. أما تفسير ترجمة "الباغلمة" على أنها ثبات مثلاُ، فلم أجد بالقاموس هذا التفسير بل التفسير الذي وجدته وهو أقرب الى المنطق "bağlamak" أي الربط، ربما ربط الوتار على الآلة أو أي شيء مربوط ومشدود كالوتار».

التداخل الحضاري

تنوع الآلات الموسيقية في الشرق الأوسط, شأنه شأن اللغة والفكر, والموسيقا، يعكس عمق حالة التداخل الحضاري بين شعوب المنطقة. و"الباغلمة، البزق، الطمبورة" مثال على ذلك وهي ليست ملكاً لقومية واحدة، بل هي ثمرة قرون من التفاعل بين الثقافات "الكردية، السريانية, العربية، التركية، الفارسية، الأرمنية، وغيرها". والإصرار على حصرها في هوية واحدة يحجب ثراءها الحقيقي ويحوّلها من جسر للتواصل إلى سبب للخلاف. فأرجو ألا نهتم بأصل الآلة بقدر ما نهتم بتطويرها وتطويعها لتعود وتظهر في انتاجاتنا الموسيقية. وهذا لا يتم إلا في حال نقلنا الآلات من المفهوم الشعبي ووضعناها في إطار أكاديمي للبحث والتعليم، ليكون لدينا أجيالاً جديدة تستخدم آلات الأجداد للاستمرار في إبداع وإنتاج الموسيقا».

ويشير الباحث الموسيقي "شادي اميل سروة" في نهاية كلامه إلى المراجع التي استند عليها، وهي:

ـ تاريخ السريان" لميخائيل الكبير "الجزء المتعلق بالفنون".

ـ موسوعة روتليدج للموسيقى، روتليدج، ٢٠١٧.

ـ كارتومي، م. "١٩٩٠" حول مفاهيم وتصنيفات الآلات الموسيقية. مطبعة جامعة شيكاغو.

ـ بيكين، ل. "١٩٧٥" الآلات الموسيقية الشعبية في تركيا. مطبعة جامعة أكسفورد.

ـ لويرغرين، ب. "١٩٩٨" "قيثارات أور". مجلة الموسيقى الفصلية، ٨٢(٤)، ١-٤٣.

ـ كومينز، د. "٢٠٠٩" العود وآلات أخرى في الشرق الأوسط، مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية.

ـ نرسيسيان، أ. "٢٠٠١" الموسيقى الأرمنية: ببليوغرافيا شاملة. المكتبة الأرمنية.

الفوارق بين الآلات

الموسيقي والعازف "شكري سوباري" تحدث لـ "مدونة الموسيقا" عن الفوارق بين الآلات الثلاث، مشيراً إلى أن "الطمبورة والباغلمة" شكلهما بيضوي، ولكن تتميز "الطمبورة" بزند طويل و"الباغلمة" بزند قصير قليلاً، ويُعزف على "الباغلمة" بستة أوتار "ثلاثة، اثنين، اثنين"، بينما يُعزف على "الطمبورة والبزق" بوترين "اثنين باثنين", وهناك عازفون يعزفون عليهما بـ "وترين، وترين، وترين" أي "دو، صول، فا" ليستطيعوا عزف المقامات كلها. فعندما قصّروا من زند "الباغلمة" أضافوا وتراً ليكون هناك "أوكتاف" أكثر.

يقول: «شكل "البزق" دائري تقريباً، زند "الطمبورة" أطول وأرفع من زند "البزق"، أما الدوسات "العلامات الموسيقية" التي على "الطمبورة" فعددها 28 وهي أقل مما على "البزق" حيث يبلغ عددها 32 وما فوق حسب العازف. أما عازفو "البزق" فهم متمرسون أكثر من عازفي "الطمبورة" الذين يعزفون في غالبيتهم الموسيقا الكردية القديمة ويحدثوها قليلاً عندما يزيدون من "الدوسات" المرتبطة بالمقامات».

آلة شعبية تطورت

الموسيقي وعازف البزق "غاندي حنا" خريج كلية التربية الموسيقية من جامعة حمص، ومُدرس الآلة في كلية التربية الموسيقية، يتحدث بداية عن "البزق" قائلاً: «هو آلة وترية تشبه آلة "العود" ولكن تتميز بطول الزند وصندوق مصوت أصغر، وتعتبر آلة شعبية، كانت سابقاً بوترين "وتر صول - وتر دو"، وكان لأمير البزق "محمد عبد الكريم" دور كبير في تطويرها، حيث أضاف الوتر الثالث وأصبحت أوتار آلة "دو صول دو"، كما قام بزيادة عدد "الدساتين" والمفرد منها "دستان" وهو الحسبة الصوتية الموجودة على زند الآلة. وبذلك تطورت آلة من شعبية إلى آلة تُدَرّس في كليات ومعاهد الموسيقا بطريقة أكاديمية. وأصبح من السهل جداً عزف القوالب الموسيقية عليها، كقالب السماعي وقالب اللونغا مثلاً. وتتميز آلة "البزق" بصوتها الحاد "تريبل"، أما أشهر عازفيها، فهم "محمد عبد الكريم، مطر محمد، سعيد اليوسف"».

ويشير إلى أن "الطمبور والباغلمة والبزق العربي" هم عائلة "البزق"، ولكن هناك فرق بين كل منها من حيث شكل الآلة وطابع الصوت ودوزان الأوتار، ويوضح دوزان الآلات الثلاث الذي يكون على الشكل التالي:

دوزان أوتار "الباغلمة " صول فا دو

دوزان أوتار "الطمبور" صول ري لا

دوزان "البزق العربي" دو صول دو

لافتاً إلى أن اسم "الباغلمة" يعني ثبات الدرجة أو العلامة، صندوقها المصوت يكون أكبر وزندها أقصر. أما "الطمبور" فصندوقه المصوت أصغر بالنسبة لـ "الباغلمة". ويختلف "البزق العربي" تماماً بالشكل عن "الباغلمة والطمبور" فله قمرية مفتوحة على صدر الآلة والصندوق المصوت يكون عادي متوسط الحجم.

ويستشهد بقول لأمير البزق "محمد عبد الكريم" تناول فيه معنى كلمة "بزق" فقال أنها مركبة من مقطعين، المقطع الأول باللغة التركية "بو" وتعني "هو"، والمقطع الثاني "ذوق" بالعربية، فأصبحت "بوزوق"، وأخيراً "بزق". مشيراً إلى أنها في اليونانية "بوزوكي"، وفي معجم اللغة الكوردية "بزك" أي كل شيء بارز له بطن.

أكرم نيازي:

تحدث الموسيقي "أكرم نيازي" عن آلته "الطمبورة" التي يعزف عليها منذ الصغر، وأكد أنها كانت منسية على المسارح، ولم تكن تُعزف على النوطة، موضحاً أنها آلة قديمة وتعود إلى خمسة آلاف سنة، ولكنها تطورت وأُستنسخ منها آلات وترية أخرى. يقول: «تطورت "الطمبورة" بالأوتار والبعد والمقامات، فكانت 14 برداية، طورتها لتصبح 25 برداية "البعد"، فكانت هناك مقامات لا تعزفها، ولكن بعد تحديثي لها أصحبت تعزف مختلف المقامات، كما أن "الملاحم" التي لم تكن تُعزف عليها باتت تستطيع عزفها».

ويشير "نيازي" في ختام حديثه إلى أن العازفين لا يستعملون أصابعهم وإنما الريشة على آلات "البزق، الساز، الباغلمة"، في حين يعزفون بالأصابع على آلة "الطمبورة"، ولكن بعد تطورها بات يُعزف عليها واسطة الريشة.