من أزقة حارات دمشق القديمة حيث تفوح رائحة الياسمين، ومن المقاهي العتيقة والأسواق المزدحمة، ومن حالات "الحب والفرح والفقد والحزن"، ومن النزهات والسيارين إلى الغوطة، وأعراس الشام و"حمام السوق" و"جهاز العروس"..، ولدت "الأغنية الشعبية الدمشقية" بكلمات وألحان بسيطة بلغة محكية تحمل نبض البيوت والمقاهي والحارات، فحملت معها تفاصيل الحياة اليومية التي تصل بين الماضي والحاضر.

الحفاظ على التراث

تناقلت "الأغنية الشعبية" عبر الأجيال بشكل متوارث من جيل إلى آخر، وضمن هذا الإطار نذكر الفنان والموسيقي الراحل "مصطفى هلال" الذي يعتبر أكبر جامع للتراث الغنائي، حيث وثق التراث الغنائي الدمشقي الشعبي على مدى عشرين عاماً، كما ساهمت مسلسلات البيئة الشامية في الحفاظ على هذا التراث واستمراره، ومما قُدم من أغنيات شعبية نذكر "بالي معاك" التي غناها الراحلان "نجاح حفيظ ورفيق سبيعي" في مسلسل " دمشق يا بسمة الحزن"، وأغنية "يا قضامة مغبرة" التي اشتهرت بأدائها الفنانة "هدى شعراوي" في عدد من الأعمال الدرامية. كما أحيّت الفنانة "لينا شاماميان" بعضاً من أغاني التراث كأغنية "بالي معاك" التي غنتها بتوزيع موسيقي معاصر، وأغنية "هالأسمر اللون".

ومن تلك الأغاني: "تعي عالفي، ياسمين الشام على خدك، بيلبقلك شك الألماس، يا طيرة طيري يا حمامة، عالصالحية يا صالحة". وتقول كلمات أغنية "تعي عالفي" التي تجسد حواراً طريفاً فيه مقارنة بين سمر وبيض البشرة:

الأغنية التراثية الدمشقية

تعي عالفي

المطرب عبد النور بلكة

أنا بدي شوفك لحظة وفرِّح قلبي شوي

البيضا قالت انا عيوني كبار

مكحِّلة من الله وشعراتي طوال

روحي يا سمره يا شعرك شعر الفار

الباحث في التراث الشعبي محي الدين قرنفلة

أد ما بتغسليه ما بينظف بالمي

الباحثة في التراث الدكتورة نجلاء الخضراء

بعد ذلك ردت السمره النيران بالمثل :

السمره قالت شو صاير بالشام

رخصان الكوسا وغليان البيتنجان

روحي يا بيضا يا كوسا دبلان

باّخر تشرين بكبوكي بالمي

ومن الأغاني التراثية الجميلة أغنية "يا طيرة طيري يا حمامة" ألحان وكلمات "أبو خليل القباني". تقول كلماتها: "يا طيرة طيري يا حمامة، وانزلى بدمّر والهامه، جيبى لى من حبى علامه، هالأسمر أبو الخال، أنا على دينى جننتينى".

وغناها عدد من الفنانين، منهم الفنانة "شادية" في فيلم "خياط للسيدات"، كذلك غناها الفنان "صباح فخري" والسيدة "فيروز"، ولا تزال تُغنى لليوم، خاصة أنها تندرج ضمن أغاني السيران الدمشقي.

سر الاستمرارية

المطرب "عبد النور بلكة" الذي أحيا عدداً من الأغاني التراثية، خاصة فيما يتعلق بالموشحات التي يعتبر العديد منها مجهول المؤلف والملحن، يوضح في حديثه لـ "مدونة الموسيقا" أن "الأغنية التراثية الشعبية" وليدة الحدث، يقول: «تعتمد "الأغنية الشعبية" بشكل عام على الحالة والحدث الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي. فعلى سبيل المثال عندما كان الأحرار والوطنيون يقبعون في السجون ظهرت أغنية "يا ظلام السجن خيم". ومن الممكن ألا تخرج "الأغنية الشعبية" في وقتها، وإنما أن تُكتب وتُغنى بعد الحدث بفترة».

ويتابع: «يعتمد لحن الأغنية على البساطة خاصة إن كانت نتاجاً شعبياً غير متخصص، فتكون أحياناً تركيبة الكلام مكتوبة بطريقة مختلفة عن أسلوب كتابة الأغنية ذات القالب المرتبط والملتزم بقواعد كتابة الأغنية، وكذلك يكون اللحن بسيطاً بعيداً عن قواعد الموسيقا، وقد يُغنى أحياناً بوزن إيقاعي غير صحيح لأنه نتاج بيئة شعبية. كما أن هناك أغاني شعبية قد تكون وصلت إلينا مُعدّلة وليس كما كانت في حلتها الأساسية، فجاء مختصون وعارفون بالموسيقا وأعادوا تهذيبها بطريقة صحيحة».

وضمن هذا الإطار ذكر ما جرى بينه وبين المخرج الراحل "بسام الملا"، يقول: «أراد مني تجهيز توليفة أغانٍ شامية لحفل زفاف في مسلسل "ليالي الصالحية"، وطلب حضوري لأقوم بتحفيظ الممثلات الأغاني، وأثناء التصوير كانت بعض الممثلات يخرجن عن الوزن، ولكن الحس الفني للمخرج الراحل جعله يوجه بضبط الوزن، فقلت له "لن يكون هناك مشكلة كيفما غنين، لأنهن ليسن محترفات"».

وعن سبب استمرار هذه الأغاني إلى اليوم، يقول: «أغلب الناس تتغنى بالموروث الشعبي، وبالأغاني التي تم تناقلها عبر سنوات طويلة، رغم أن هناك أغاني الكلام فيها أقل من عادي، لكنها تبقى موروثاً شعبياً فنياً قديماً، فـ "الأغنية الشعبية" ذات كلام ولحن بسيط نتجت عن حالة اجتماعية، وهذا سبب استمرارها».

ويشير "عبد النور بلكة" إلى أن هناك من قدم الأعمال الشعبية بطريقة وقوالب جديدة، مؤكداً أن الآراء تضاربت بين من يرى ضرورة بأن يبقى التراث الشعبي على حاله وبين من يذهب باتجاه التجديد في بعض الأغاني.

جزء من الهوية الثقافية

حول الجذور التاريخية لـ "الأغنية الشعبية الشامية"، تحدث الباحث في التراث الشعبي "محي الدين قرنفلة" لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «هي جزء من تراثنا الشعبي، وترتبط بطقوس اجتماعية تعود بأصولها لزمن قديم، حيث كانت تعبر عن حياة الناس بأفراحهم وأتراحهم، واعتمدت على التراث الشفهي المنقول من جيل إلى جيل، كما تأثرت هذه الأغنيات بالعديد من الثقافات والحضارات التي مرت بها البلاد، وهذا سبب تنوعها، فمن يستمع إليها يلاحظ أنها تلامس حياة الناس اليومية ضمن المجتمع كالزراعة والأعراس والأعياد وعودة الحجاج من بيت ﷲ الحرام، وبعضها يتضمن حكاية لها علاقة بالمجتمع وطريقة تفكيره, كما أن هناك أغاني البيادر وجني المحاصيل الزراعية..، والمعروف أن بعض الأغنيات ترافقها "الدبكة" وهي "رقصة شعبية" تعبر عن الفرح، كما أن هناك "الموال" الذي يبث شوق المحبوب وحنين العاشق وحزن الفراق. ويمكن القول أن "الأغنية الشعبية الشامية" جزء من الهوية الثقافية للمنطقة».

وفيما إن ساهمت "الأغنية الشعبية الشامية" بنقل قيم وعادات المجتمع الدمشقي عبر الأجيال، يقول: «لقد ساهمت بذلك، فهي تُعتبر مرآة تعكس الحياة اليومية والعادات والتقاليد والقيم الأخلاقية ضمن المجتمع الدمشقي، ولعبت دوراً هاماً في الحفاظ على الموروث الشعبي ونقله إلى أجيال المستقبل، واستمرت عبر سنوات طويلة، ورددها الناس في المناسبات المختلفة، حتى أنه في دمشق كانت هناك نساء تخصصن بالعزف على آلة "العود" والغناء في أعراس النساء، وفي مناسبات أخرى لها علاقة بالنساء. كما كان هناك رجال تتم دعوتهم مقابل أجر للغناء بكافة المناسبات، وكانوا يطلقون على أحدهم "المغنواتي"، ومما لا شك فيه أن الأغنية تعتبر هوية ثقافية نقلت العادات والتقاليد والقيم التي سادت في يوم من الأيام».

تأثير "السوشيال ميديا"

حول أفق تطور الأغنية في ظل حضور "السوشيال ميديا"، يقول "محي الدين قرنفلة": «لعبت "السوشيال ميديا" دوراً هاماً في انتشار "الأغنية الشعبية الشامية"، وأهم وسائلها اليوم "اليوتيوب"، حيث اطلع الجيل الجديد على تفاصيل هذه الأغنية، بعضهم أعجب بها وأحبها ورأى أنها تعكس الماضي الجميل للأجداد والآباء، والبعض الآخر يسمعها في المناسبات، وأعتقد أن "السوشيال ميديا" خدمت بشكل أو بآخر انتشار هذه الأغنية من جديد».

أما عمن قام بتوثيق هذا التراث الشعبي، فيقول: «هناك من قام بتوثيق هذه الأغاني وغيرها الكثير، لكن كلّفته هذه الهواية المال لحفظ التراث، فهو يملك كماً كبيراً من الأغاني القديمة، ليس الشامية فقط بل العربية عموماً، وهو السيد "محمد المصري" الموثق الموسيقي الموجود في دمشق مع أرشيفه الذي يعتز به، وأعتقد أن هناك كثيرين تصدوا لحفظ الأغاني القديمة بشكل شخصي».

بين الشامي والدمشقي

الباحثة في التراث الدكتورة "نجلاء الخضراء" أوضحت لـ "مدونة الموسيقا" الفرق بين "الأغنية الشامية" و"الأغنية الدمشقية"، تقول: «"الأغنية الشامية" تدل على أغاني "بلاد الشام" بشكل عام "فلسطين وسوريا ولبنان والأردن"، وهي متشابهة في هذه البقعة الجغرافية إلا أنها تحمل بعض الخصوصية حسب التضاريس وتاريخ المكان وهوية المغني وقوة صوته وثقافته وانتمائه لقرية أو مدينة أو عشيرة، وربما يكون الاختلاف في أساليب الأداء من منطقة إلى أخرى فقط. أما "الأغنية الدمشقية" فهي خاصة بدمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، وتحمل صفات "الأغنيات الشعبية" العامة، ليس لها مؤلف معروف، وتتحدث عن مشاعر المجتمع وأماله وتطلعاته، ولها مرجعية اجتماعية تتحدث عن العادات والتقاليد والمناسبات والسهرات في المدينة والمواسم في الريف الدمشقي».

وتتابع: «كما ظهرت "العراضة" ضمن العناصر التراثية الغنائية الدمشقية، وهي فن دمشقي متوارث يحضر في المناسبات والأعراس ووصول الحجاج وافتتاح المحلات، حيث يرتدي المنشدون الزي الشامي ويقومون بعروض مبارزة بالسيف والترس والألعاب نارية. أما النساء فأخذن منحى الأغنية البسيطة الناعمة، سهلة الكلمات والقريبة من القلب، وكان يتم تأديتها في المناسبات والسهرات والمنتزهات والجلسات النسائية الأسبوعية، منها على سبيل المثال أغنية "طيب مقلي" وكانت تُؤدى أثناء إعداد الطعام، وهناك أغاني الألعاب "تمختر يا أبو الجبة"، وفيها تسأل النسوة عن حرف أزواجهن، إضافة إلى أغاني الجلسات النسائية، حيث اعتادت النساء الدمشقيات على الاجتماع أسبوعياً في ساحة بيوتهن، ومن تلك الأغنيات ما يتحدث عن الحب والحبيب، "بالي معاك" و"ناعم هالربحان"، وهناك أغنيات السجال بين النساء مثل "تعي عالفي، وأغنيات الأعراس "طالعة من بيت أبوها" و"على يا أبو عيون اللوزية" و"بيلبق لك شك الألماس"».

أغنية مؤثرة ومتأثرة

وتؤكد الدكتورة "نجلاء الخضراء" أن الأغنية الدمشقية كانت مؤثرة ومتأثرة، إذ نرى مثيلاتها في باقي المنطقة الشامية مع اختلافات بسيطة في الكلمات أو المطلع وأساليب الأداء، مثل "آه يا لسمر اللون"، وأغنية "طالعة من بيت أبوها" التي تختلف في نسختها العراقية بالمطلع حيث يكون بطيء الرتم مما يعطي اللحن مسحة من الحزن، أما الأغنية الدمشقية فسريعة الرتم وتتشر الفرح من خلال حروفها ونغماتها».

وعن الاهتمام بتوثيق التراث الغنائي الشعبي، تقول: «"الأغنية الدمشقية" اليوم هي ذاتها في القرن التاسع عشر، إذ لم تلقَ الاهتمام اللازم بعد هذا التاريخ، واكتفى المغنون الدمشقيون بالغناء باللهجة البيضاء دون تخصيص، ومنهم "مصطفى نصري وعصمت رشيد وموفق بهجت"، ولم يعملوا على تطويرها وتنميتها، حتى بدأت الدراما السورية بنقل تلك الأغنيات ونشرها مما أدى إلى حفظها وحمايتها وإعادة إحيائها دون تطويرها وتنميتها».