تحوّل الحلم إلى حقيقة مع بداية تسعينيات القرن الماضي، حين تم الإعلان عن ولادة الفرقة "السيمفونية الوطنية السورية" إلى النور عام "1993"، ومنذ ذلك التاريخ وهي تقدّم إبداعات عالمية وعربية مُستقطبة جمهوراً من مختلف الفئات العمرية، وامتد عطاؤها إلى خارج "سوريا" في حفلات فاجأت كثيرين بمستواها العالي والأكاديمي.

أمسية ونظرة استعادية

قدمت الفرقة "السيمفونية الوطنية السورية" بقيادة المايسترو "ميساك باغبودريان" مؤخراً أمسية موسيقية على خشبة مسرح الأوبرا في دار "أوبرا دمشق"، سرعان ما نفذت بطاقاتها، وتميزت ببرنامج متنوع مؤلف من أربعة أعمال موسيقية، هي : "روميو وجولييت" لتشايكوفسكي، تأملات للحن محمد عبد الوهاب "حياتي أنت" لصلحي الوادي، "رقصة رقم 2" لماركيز، "المتتالية رقم 2 الأرليزيانية" لبيزيه.

نتابع خلال السطور التالية حوار مع المايسترو "ميساك باغبودريان"، يُقسم إلى محورين أساسيين، الأول الأمسية الأحدث للفرقة "السيمفونية الوطنية السورية"، والثاني يشكّل نظرة استعادية من بداية بزوغ فكرة إنشاء الفرقة إلى اليوم، بكل ما مرت به من نجاحات، إضافة إلى تفاصيل ألية عملها وحفلاتها وما تقدمه من أعمال موسيقية.

الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان

البطاقات نفذت

المايسترو ميساك باغبودريان

- كيف تقرأ الإعلان الذي نشرته دار الأوبرا قبل الأمسية وقالت فيه "البطاقات نفذت"، وهو أمر غالياً ما يتكرر مع الفرقة السيمفونية؟

هما شعوران، الأول فرح كبير، بأن هناك حاجة وطلب عند الجمهور لحضور الحفل الموسيقي، فقام بحجز البطاقات ليؤمن أماكنه، ولم يترك الأمر للدقيقة الأخيرة، وهذا يُشعرني بالسعادة كموسيقي بأن هناك من يحب هذا النوع من الموسيقا، وكلما رأيت عبارة "البطاقات نفذت" أشعر بالسرور وأرتاح نفسياً بأننا حصلنا على حقنا معنوياً.

المايسترو ميساك باغبودريان

ولكن يأتي فوراً شعورٌ أخر، يتمثل بأن نكون على قدر توقعات الجمهور الذي أتى وحجز البطاقات بشكل مُسبق، فهو أمر بحد ذاته يحمّلنا مسؤولية كبيرة بأن نحافظ على ثقة الجمهور وتوقعاته وتطلعاته في الحفل الموسيقي، مما يتطلب جهداً كبيراً والكثير من التفاصيل، لأنه عبر التفاصيل تُحدِث الفرق في النتاج الفني.

وفيما يتعلق بعبارة "البطاقات نفذت" التي تسبق معظم حفلات الفرقة "السيمفونية الوطنية السورية"، فهو أمر مرتبط بتاريخ الفرقة ونوع الموسيقا التي نقدمها وتنوع برامجها، فليس هناك تكرار في البرامج، إضافة إلى أننا نستضيف قادة أوركسترا وعازفين منفردين، مما يُحرّض الفضول عند الناس، كما أن هناك متابعة من قبل الجمهور، فيسألون متى ستعزفون سيمفونية كاملة" و"متى ستعزفون لموزارت أو باخ أو بيتهوفن"؟، وقبل الحفل يسألون عن البرنامج، وتأتينا مقترحات حول عزف هذا العمل أو ذاك، وبالنتيجة هي حالة تفاعلية جميلة ومهمة جداً بالنسية إلينا.

الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان

التصفيق الحار

الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان

- كيف تعاطيت مع مشهد الحضور وهو يصطف بانتظام ضمن حرم دار الأوبرا خارج المبنى للدخول إلى الحفل؟.

كان هناك جو من الرقي والتنظيم الذاتي، فلم يطلب منهم أحد أن يقفوا في الدور وإنما هم وقفوا لوحدهم ينتظرون دخول الدار، وأرى أن طبيعة الموسيقا تفرض نوعاً من الجمهور، فمن يأتي لحضور حفل موسيقا كلاسيكية يعرف إلى أين يأتي، ويدرك الآداب العامة لدخول الأوبرا.

صلحي الوادي والفرقة السيمفونية الوطنية السورية

كنت سعيداً بالعدد الكبير الذي أتى لحضور الحفل، ولحظة ظهورنا على المسرح وتصفيق الجمهور الذي أظهر مدى اشتياق الناس للمكان وللفرقة، وما حدث يُعد حالة ثقافية اجتماعية، لأن الحفلات الموسيقية ليست فقط حالة ثقافية وإنما هي حالة اجتماعية تشاركية أيضاً، فكل منا له عمله المختلف عن الآخر ولكن نجتمع في هذا المكان لنتشارك مع بعضنا بعضاً لحظات تمنحنا إياه الموسيقا من مشاعر، وهي لحظات جميلة.

- قلت "التفاصيل تُحدِث فرقاً في النتاج الفني"، فما التفاصيل التي تُركّز عليها؟

حفل مع قائد الأوركسترا خوسيه مولينا من جمهورية الدومينيكان في أبو ظبي سنة 2011

الأمر أشبّه بمخرج وممثلين، فأي عمل مسرحي ممكن أن نقرأه ونمثله، ولكن يمكن أن نقدمه بشكل "جيد جداً، أو عادي، أو سيء"، وربما لا نستطيع تحقيق الحالة الدرامية على المسرح، لأن التفاصيل التي يريدها كاتب المسرحية لا تصل إلى المخرج ولا يستطيع إظهارها. وبالنسبة إلينا كموسيقيين علينا أن نكون مؤدين لعمل كتبه مؤلف موسيقي، أي أننا بحاجة للدخول إلى أعماق المؤلف والعمل الموسيقي، لنأخذ فلسفته وروحه والأفكار الباطنة الموجودة داخل النوتات. وبالتالي هذه التفاصيل التي نشتغل عليها، فالأمر لا يتعلق بأن تُقدم النوتات صحيحة فقط، وإنما أن يكون لها معنى ولون وصورة تنتقل إلى الجمهور.

برنامج متنوع

- لماذا قُدّم الحفل دون عنوان؟

حفل مع الأستاذ نوري الرحيباني رحمه الله

أحياناً ترتبط برامج موسيقية مع بعضها بعنوان مشترك، وإن أردنا تسمية الحفل الذي قدمناه لأسميناه "الشوق إلى المسرح"، ولكن فعلياً جاء برنامجه متنوعاً ويحمل تفاصيل ومعاني، فكل عمل يمثل حالة إنسانية نعيشها.

ففي تفاصيل حكاية "روميو وجولييت" والصراع الذي يدور بين الطبقات والعائلات، هي حالة نعيشها بشكل يومي ضمن مجتمعاتنا، كما أن الحفل كان مُهدى إلى الأستاذ صلحي الوادي بذكرى وفاته، وجاءت "تأملات للحن محمد عبد الوهاب ـ حياتي أنت" تعبيراً عن حالة إنسانية عاطفية حنينية مرتبطة بصلحي الوادي، أما القسم الثاني من الحفل فسعينا أن يكون احتفالياً إلى حد ما، لنخرج من الحالة الدرامية المأساوية ونذهب باتجاه ما يمكن أن يعطي الأمل والفرح، فجاء خيار "رقصة 2" وهي قطعة لاتينية تحمل طاقة وجملاً موسيقية حلوة، والختام بقطعة احتفالية لـ "بيزيه" حيث تكون الاوركسترا الكبيرة مشاركة بآلاتها كلها.

حفل أعمال المؤلف شتراوس

- ما الخط الذي جمع بين المقطوعات، خاصة أنها تنتمي لعدة ثقافات وأساليب تأليفية؟

جمعتها الرغبة فيما نريد تقديمه للناس، والرسائل التي نود إيصالها، كما أنها أعمال سبق وعزفناها ولمسنا حب الناس لها، وخلال الحفل كان الحماس بادياً على الجمهور، وهي كلها تفاصيل هامة جداً بالنسبة إلينا.

المايسترو ميساك باغبودريان

- هل شكّل إعادة عزف جزء من مقطوعة "رقصة 2" استجابة لتفاعل الجمهور في نهاية الحفل؟

قمنا بتحيته لأني شعرت أنه لا يزال هناك عطش ورغبة بأن يسمع المزيد، فقررنا دون أن يكون العازفون مجهزين للأمر تقديم المقطوعة، شعرت أنه لا بد أن نقدم مقطوعة للجمهور، فكان هناك صدق في المشاعر وتصفيق، وشوق ودعم والكثير من التفاصيل.

تفاعل الجمهور مع الفرقة السيمفونية الوطنية السورية في دار الأوبرا

وفاء لـ "صلحي الوادي"

الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان

- ماذا عن الدمعة التي ترقرقت في عينيك بعد انتهاء عزف عمل "صلحي الوادي" والتصفيق الحار للجمهو ؟

"صلحي الوادي" أستاذنا، عشنا معه سنوات طويلة وتحدث لنا عن معاناته والمصاعب التي مر بها، ورأينا كيف يتحقق حلمه بإصراره وإرادته. كما رأيت كيف نعاني نحن، فهناك تاريخ وكأنه يُعاد فيما يتعلق بالموسيقا وبالفرقة السيمفونية، وبالحالة الثقافية بشكل عام. فقد مر "صلحي الوادي" بلحظات كان فيها أزمات تتعلق بشكل الإدارة وبوجود الموسيقا، وبالموسيقيين وباحتراف الموسيقي، فكانت فكرة احتراف الموسيقي صعبة في تلك الفترة، واليوم نحن نعاني من المشكلة نفسها "مشكلة احترافية العمل"، فإن لم يكن الموسيقي على المسرح فكيف سأعيش؟، الموسيقيون الذين كانوا على المسرح كلهم مهنتهم الموسيقا وليس لديهم مهن آخر، فهم لا يعملون بالموسيقا في أوقات الفراغ، وإنما الموسيقا هي حياتهم ومهنتهم وحرفتهم التي يعيشون منها.

تعود الذاكرة لدروس الأستاذ "صلحي الوادي"، وحلمه بأن تصبح "دار الأوبرا" واقعاً، علماً أنه لم يستطع أن يكون في الأوبرا، فكان ينبغي أن يقوم بافتتاحها عام 1998 ولكن حدث الحريق، وتأجل الافتتاح لعام 2004، كما أنه مرض في عام 2002، فلم يعيش افتتاحها كما كان يستحق أن يعيشه، لأنها كانت حلمه، وبالتالي تحزن أن إنساناً بهذه العظمة لم يستطع عيش هذه اللحظة، كما أحزن على أنفسنا لأننا نعيش أزمات، ولكنه يعطينا القوة لنُكمِل، فكانت المشاعر كثيرة ومختلطة.

الفرقة السيمفونية

- ما نقاط العلّام الأساسية في تاريخ "الفرقة السيمفونية الوطنية السورية"؟

إنجاز "فرقة سيمفوني" احتاج إلى وقت وتحضير وزمن، فالأستاذ "صلحي الوادي" كان يعمل منذ الستينيات ويُبرمج لها، حيث أصبح هناك "أوركسترا الحجرة" وكانت "وتريات" ثم أضيفت آلات "نفخ"، وفي عام 1990 أتى خبراء من "روسيا" ليعرّفوا الموسيقيين السوريين على آلات جديدة مثل "الباصون والأوبوا والفرنش هورن"، فعازفو هذه الآلات قلائل، وكان السعي لإقناع موسيقيين سوريين أن يصبحوا عازفين عليها، وأول ظهور لـ "الفرقة السيمفونية الوطنية" في سورية كان عام 1993، والذي جاء نتيجة لعمل طويل.

هناك لحظات كانت مهمة جداً للفرقة، ولحظات غيّرت مسارها، ففي عام 1995 قُدّم أول عمل أوبرالي في "سوريا"، في كل من "دمشق وتدمر وبصرى" بعنوان "دايدو وإينياس"، وجاء بالتعاون مع المركز الثقافي البريطاني، فكانت هذه المرحلة مهمة في تاريخ "الفرقة السيمفونية" وفي تاريخ الحياة الثقافية في "سوريا"، بأننا نستطيع إنتاج عمل أوبرالي يضم ممثلين ومغنين وفرقة موسيقية وفرقة رقص، ورغم أنه كان هناك منفردون من "بريطانيا" ولكن الكتلة الكبيرة كانت من السوريين، وحملت "السينوغرافيا" توقيع الأستاذ "نعمان جود"، وهي تفاصيل أذكرها جيداً لأنني كنت في الإنتاج وعازف البيانو ضمن البروفات.

عزفت الفرقة بمدينة "لوس انجلس" في "الولايات المتحدة الأميركية" عام 1998، وكان حدثاً مهماً، وتكلمت الصحافة هناك كثيراً عن المُنجز السوري وبأن هذا النوع من الموسيقا موجود في سوريا، لأنهم لم يتخيلوا أن يكون لدينا مثل هذه الفرقة ولها جمهورها الذي يتابع حفلاتها.

المرحلة التالية افتتاح "دار الأوبرا" عام 2004، الأمر الذي كان حلم للكثير من الموسيقيين، لأن "الفرقة السيمفونية" كانت تقدم حفلاتها في "قصر المؤتمر" ضمن قاعة لم تكن مجهزة للحفلات الموسيقية، وإن كان الشرط فيها مقبولاً إلا أنها بعيدة عن المدينة، والمكان للمؤتمرات، فكنا بحاجة ليكون لدينا بيتنا الذي نقدم فيه حفلاتنا الموسيقية. وقمنا عام 2004 بأول جولة في إيطاليا، أحيينا خلالها ست حفلات في خمس مدن، وشكّلت مرحلة هامة ضمن إطار الظهور الدولي للفرقة.

وفي عام 2012 عندما كانت "الفرقة السيمفونية الوطنية" تابعة لـ "المعهد العالي للموسيقا" إدارياً، انتقلت واحتضنتها "دار الأوبرا"، فبات هناك لائحة داخلية تنظم العمل، وعقود مع الموسيقيين، وأصبحت المسيرة احترافية بشكل أكبر، وأُقيمت جلسات لاختيار العازفين، وبذلك انتقلنا إلى حالة إدارية مختلفة قليلاً ومنظمة، تشبه أكثر الفرق السيمفونية في العالم.

وحالياً لدينا مرحلة جديدة، فبعد "8/12/2024" هناك مرحلة لها علاقة بأن نعود ونأخذ مكاننا في الحياة الثقافية السورية، لأننا كسوريين بحاجة أن نحكي باللغة الثقافية ذاتها وبهوية ثقافية سورية، وهذه الأمور تحققها الموسيقا، بأن نخلق حواراً وانسجاماً رغم اختلافاتنا، لأن الأوركسترا هي حالة من الانسجام عبر آلات مختلفة بين بعضها البعض، كحال المجتمع، فلنتحاور ونحكي بلغة منسجمة ومشتركة لنستطيع بناء سوريا الجديدة. وبالتالي لدينا دور مهم، ومن الضروري أن نكون موجودين لنجمع المجتمع بمحبة وإنسانية وثقافة.

معايير عالمية

- إلى أي مدى النظام المُتّبع في "الفرق السيمفونية" العالمية معمول به في "الفرقة السمفونية الوطنية السورية"؟

بدأنا عام 2012 جلسات واختبارات لانتقاء العازفين الرئيسيين في الفرقة، ضمن معايير عالمية "قدر الإمكان" مع الأخذ بعين الاعتبار للواقع السوري، وحالياً نفتخر أن عازفينا كلهم سوريون، ولكن هذا لا يعني أنهم جميعاً على مستوى عالٍ، فلدينا أفضل الموجود في سوريا، والأمر بحاجة إلى شغل لنصل إلى مستوى أفضل، لأن "الأوركسترات" في العالم باتت تشبه نوادي "كرة القدم" التي تستقطب أفضل اللاعبين بغض النظر عن جنسيتهم، والأمر نفسه مع الفرق العالمية اليوم، بما فيها "أوركسترا فيينا" و"أوركسترا برلين" و"لندن سيمفوني أوركسترا"، فلديهم عازفون من جنسيات مختلفة ويهمهم النوعية، ونحن حالياً لا نستطع أن نكون بهذا المستوى لأن العرض المادي المُقدم لعازفي الفرقة لا يحتمل أن نأتي بعازفين من الخارج بمن فيهم السوريون الذين يعيشون في أوروبا، فنحن بحاجة إلى تحسين الوضع المادي المخصص لأعضاء الفرقة السيمفونية، لنستطيع أيضاً استقطاب موسيقيين جيدين وتحقيق مستوى، ولكن الموجود يعمل بأحسن مستوى ممكن أن نصل إليه، وبأكثر جهد مبذول لنثبت وجودنا على المسرح.

المستوى الأفضل الذي نطمح إليه هو المستوى العالمي الذي يشبه الفرق الموجودة في المنطقة، بما فيها "أوركسترا قطر الفيلهارمونية" التي تضم عازفين من مختلف أنحاء العالم، وكذلك الأمر في "الأوركسترا الوطنية للإمارات"، أما في لبنان فتستضيف الأوركسترا عازفين من أوروبا وروسيا.

وبالتالي نحن بحاجة إلى دعم مادي، وإلى بناء جسور تواصل واحتكاك مع موسيقيين من العالم لنستطيع الوصول إلى المستوى العالمي الحالي، فقد بقينا خمس عشرة سنة بعيدين عن العالم، وقبل ذلك كان لدينا أساتذة جيدين وموسيقيين أثبتوا أنفسهم في كل مكان، ومنهم "كنان العظمة" خريج المعهد العالي للموسيقا في سوريا، فلدينا موسيقيون يستطيعون أن يقوموا بذلك.

الخطط والرؤى

- على أي أساس توضع الرؤى والمنهجية في العمل ضمن الفرقة؟

بشكل عام ترتبط الرؤية والخطة بالفترة التي نعيش فيها، ففي فترة كان لدينا عازفون جيدون وامتلكنا القدرة على الخوض في برامج صعبة ودسمة، وفي فترات أخرى عانينا من مشكلة بوجود العازفين فاضطررنا لأن نخفف من عيار الأعمال التي نقدمها لتكون مناسبة لهم، فكان الهدف أن نكون موجودين "فقط"، وقد حدثت عدة مراحل هجرة للموسيقيين السوريين. وحتى عندما حدث الزلزال في شمال غرب "سوريا" اختلفت برامجنا، وبالتالي كل مرحلة مررنا بها فرضت علينا خطة وبرنامج عمل.

وفي الحفل الأخير اضطررنا لإقامة البروفات من الساعة الثانية إلى الخامسة مساء، علماً أن بروفاتنا عادة ما تكون صباحية، ولكن هناك عازفين لديهم التزامات مع "وزارة التربية" فلم نستطع إقامة البروفات في الفترة الصباحية، لأن الكوادر قليلة وهي نفسها تدرّس في "معهد العالي للموسيقا" وفي "معهد صلحي الوادي للموسيقا" وفي المعاهد الأخرى، فعلينا التأقلم مع الواقع وأن نتشارك مع بعضنا خطة عمل يمكن من خلالها أن تستمر هذه المؤسسات كلها.

- ماذا عن إقامة الحفلات الموسيقية داخل وخارج سورية؟

أقمنا بين عامي "2003 – 2011" حفلات في "إيطاليا وتركيا والإمارات" وعزفنا في مهرجان "البحرين" وفي "عُمان"، فكانت الفرقة موجودة على الساحة في المنطقة وقدمنا مشاريع هامة، وفي عام 2010 قدمنا أوبرا "زواج فيغارو" من إنتاج دار أوبرا دمشق، كما أقمنا الكثير من الحفلات داخل وخارج سورية، وآخرها في "ايطاليا" بشهر نيسان من عام 2011 عندما دعتنا "أوبرا روما" لتقديم الحفل. وبعدها أصبح من الصعب أن نسافر بسبب الحصار المفروض على السورية، والتمويل للسفر الذي كان ولايزال غير متوفر.

أما في المحافظات فحاولنا خلال سنوات الثورة التواجد فيها، ومنها "حمص وحلب واللاذقية وطرطوس"، ونأمل اليوم أن نستطيع تغطية الجغرافيا السورية وإقامة حفلات في المدن كلها، ليبقى الناس على احتكاك مع الموسيقا.

- هل هناك خطة سنوية أو نصف سنوية للفرقة؟

لدينا خطة سنوية مبدئية، لكن خلال السير إما تُعدّل أو تتغير، وللأسف في السنوات الأخيرة الخطة التي نضعها بداية العام لا تُطبق في آخره، وهناك العديد من العوامل التي تلعب دورها، كالظروف الطبيعية بما فيها "الزلزال" وإيقافنا للأنشطة فترة "كورونا"، وعندما حدثت حرب "غزة" توقفنا عن إقامة الحفلات الموسيقية. أما في الفترة الحالية فنضع خطة لشهر أو شهرين لأننا نعمل وفق الموازنة الاثنا عشرية.

عازفو الفرقة

ممن تتألف فرقة "السيمفونية الوطنية السورية"، هل هناك عازفون ثابتون وآخرون ضيوف؟

عندما تم احتضان الفرقة في "دار الأوبرا" عام 2012 حدثت اختبارات فنية من لجنة خبراء بريطانيين، وبات هناك نواة للفرقة "السيمفونية الوطنية" في "الأوبرا"، وعازفون أساسيون مرتبطون بعقود مع الوزارة والأوبرا، وعيّنوا في أماكنهم وفقاً للاختيارات، لأن هناك تحديد للأماكن في "الفرقة السيمفونية"، فعلى سبيل المثال ضمن "النفخيات" هناك عازف "فلوت أول" وعازف "فلوت ثاني"، فوفق التصنيفات تجد عازفاً أول وعازفاً ثاني ومساعد عازف رئيسي ..، وهو نظام موجود في كل "الأوركسترات" بالعالم.

وبالتالي أصبح لدينا عازفون أساسيون، وبتنا نغطي بقية الشواغر المطلوبة للحفلة من عازفين ضيوف، هم خريجون من المعهد العالي للموسيقا أو طلاب فيه، ومع الوقت سافر عازفون وتركوا الفرقة في حين أتى إليها عازفون جدد، وحدثت الكثير من التغييرات.

وحالياً لدينا 33 عازفاً أساسياً، وكان عدد العازفين في الحفل الأخير 62 عازفاً، وبالتالي بلغ عدد العازفين الضيوف فيه حوالي 30 عازفاً، في حين أنه ضمن برامج أخرى قد نحتاج إلى خمسين عازفاً، حيث يختلف عدد العازفين بين عمل وآخر، وبين مؤلف موسيقي وآخر، فالأعداد تتناسب مع طبيعة ونوع الموسيقا والعصر والمؤلف ومع الكمية الصوتية المطلوبة للحفل.

- هل يعتمد توزيع العازفين في الأوركسترا "صوتياً" على أساس علمي؟

توزيعهم يعتمد على أساس علمي وعلى التقليد، فهناك أوركسترات تفضل أن يكون الكمان الأول على يسار قائد الفرقة والكمان الثاني على يمينه، وكأنهما جناحان، وهذا له علاقة بتقليد الأوركسترا وبالمكان الذي يعزفون فيه، وتفضل أوركسترات أن يكون "التشيلو" في المنتصف، بينما نضعه نحن على اليمين، فمنذ عام 1993 والفرقة السيمفونية الوطنية السورية تعزف بهذا التوزيع. وهذا كله له علاقة بالتقليد وبالصوت وطبيعة القاعة وكيف يسمع الموسيقيين بعضهم البعض.

- هل يحق لقائد الفرقة أن يغير بالمقطوعة المعزوفة أو بتوزيعها؟

لا نستطيع التدخل بالنوتات التي وضعها المؤلف الموسيقي، لأن هناك أمانة تجاهها ونحن مؤدون لها، ولكن علامة "دو" الذي كتبها هل نؤديها بصوت قاسٍ أم طري؟، هل تظهر بلون برّاق أم داكن؟، هذه التفاصيل يقدمها المخرج مع العازفين، فهي حالة درامية على قائد الفرقة أن يتخيلها كما كتبها المؤلف، ليقنع الجمهور بها.

فإن عزفت "القداس الجنائزي" لـ "موزارت" فمن المؤكد أن الموسيقا لن تخرج لامعة، في حين لو قدمت عملاً احتفالياً فلن يكون برتم بطيء وثقيل لأنه لن يكون حقيقياً.

مشروع موسيقي

- هل يقتصر مشروع الفرقة على تقديم الإرث الموسيقي العالمي إلى الجمهور؟

للفرقة السيمفونية الوطنية عدة مهام، أولها تعريف الجمهور بالألوان المختلفة لتأليف الأعمال الموسيقية التي كتبها المؤلفون العالميون، وثانيها تقديم أعمال لمؤلفين سوريين وتشجيع الجمهور لسماع أعمالهم، ثالثها ترويج هذه الأعمال في حفلاتنا الخارجية، فعندما نسافر نفضل أداء أعمال المؤلفين السوريين لنعرّف الجمهور الأجنبي عليها.

وأرى أن لدينا دوراً بتعريف الجمهور في سورية على الثقافة العالمية، لأنها لكل البلاد وليست لأوروبا أو اميركا فقط، فهي ثقافة عالمية ونحن جزء منها، كما علينا أن نعرّف بالمؤلفين السوريين في الداخل والخارج.

- هل جمهور الفرقة هو نفسه في الحفلات دائماً، أم أنه متجدد؟

كثيرون يسألوني عن البرامج بين حفل وآخر، فأجد أن هناك متابعة، كما أحس أن هناك دائماً جمهوراً جديداً وخاصة من الجيل الشاب، وهو أمر مهم لأن شبابنا لديهم حب الاستكشاف، والأجمل أنه في الحفلات تجد من الاطياف السورية كلها، ومن مختلف الأعمار.

يسمون جمهور الحفلات الكلاسيكية في أوروبا جمهور الشعر الأبيض، في دلالة إلى العمر، ولكن تجد عندنا أن الأهالي يأتون مع أطفالهم ليحضروا الحفلات ليعتادوا على تذوق الموسيقا من عمر صغير.

- بما تفكر عند إعداد برنامج الحفل، بالجمهور أم بالمختلف الذي سيُقدم؟

أفكر في كل شيء، فهناك الكثير من الأسئلة التي نثيرها، ما المناسب للمرحلة التي نمر بها؟ ومن المتوفر من العازفين؟ وهل نستطيع إنجاز هذا العمل؟ وهل الجمهور سيحبه؟ وما الجديد الذي سننجزه من خلاله؟.

لا يضع قائد الفرقة البرنامج منفرداً، وإنما هي حالة من التشاور مع العازفين الأوائل والموسيقيين ومجلس الفرقة، ليكون البرنامج مناسباً للموسيقيين الموجودين وللظرف الذي نمر به وللجمهور. ونوعاً ما هناك بيع البطاقات لأننا بحاجة لأن يكون هناك إيرادات للأوبرا، علماً أن سعر البطاقة رمزي ومن الضروري أن يبقى رمزياً لإتاحة الفرصة أمام الناس لحضور الحفلات، خاصة أن هناك عدة حفلات في الشهر الواحد.

ومن المهم أن هناك دعماً من الدولة لهذا القطاع من الناحية المالية، لأن أسعار البطاقات لا تغطي تكلفة الحفلة، وبالتالي هو أمر مهم لنستطيع الاستمرار.

التدريبات

- ما النواظم التي تحكم آلية التدريبات، وهل هي دائمة أم تُقام قبل الحفلات فقط؟

بما أن الموسيقيين في الفرقة السيمفونية مرتبطون بعقود، فالتدريبات دائمة عبر أيام ومواعيد ثابتة، كما تُعطى لهم برامج ليتدربوا عليها في المنزل، لأن هناك أدوار "سولو" تحتاج إلى تمرين دائم ولا يكفي التدريب مع الفرقة، ولكن نأخذ أحياناً استراحة بعد تقديم برنامج صعب.

نحن دائماً مستمرون وبحالة تدريب وتحضير، إذ ينبغي أن يكون لدينا كل شهر أو شهر ونصف حفل لـ "الأوركسترا السيمفوني"، وأحياناً يكون هناك برنامج مطلوبة لاحتفالية معينة أو لعرض خاص مرتبط بتيمة معينة مما يقتضي إجراء بروفات مكثفة، وبشكل عام قبل الحفلات تُجرى عدة تمارين مكثفة.

- إلى أي مدى تُعتبر صارماً في التدريبات؟

بشكل عام أنا شديد، خاصة بموضوع الالتزام بالوقت والتمرين، وفيما سبق كنت أشد بشكل أكبر لأن العازفين كانوا بمستوى أفضل فأعرف أنهم يستطيعون تحقيق ما أريد، ولكن اليوم أعرف أن هناك عازفين يبذلون جهدهم الأقصى، فلا أستطيع الضغط أكثر، خاصة أن الأمر يحتاج إلى وقت وخبرة، ففي الحفل الأخير كان هناك عازفون شباب يعزفون منفردين لأول مرة ويأخذون أدوار أولى، وبالتالي لا بد من المراعاة والتشجيع، لنحضّر للمستقبل.

من المهم احترام العمل كنص موسيقي، فلدينا رسالة وأمانة من المؤلف وعلينا أن نكون الوسيط بينه وبين الجمهور، وينبغي أن نقدمها بأفضل شكل ممكن احتراماً لنا كموسيقيين وللمؤلف وللجمهور، لذلك تجدني حتى اللحظة الأخيرة وأنا أطلب تفاصيل من الموسيقيين.

- ما الهدف وراء استضافة موسيقيين وقادة فرقة سمفونية، وهل سيتكرر الأمر في القادم من الأيام؟

الهدف الأول تطوير الفكر الموسيقي للموسيقيين، فكل "قائد أوركسترا" يرى العمل من زاوية غير التي يرى بها "قائد أوركسترا" آخر، فقد يُقدم العمل نفسه بطريقة مختلفة، الأمر الذي يوسع الأفق الموسيقي في كيفية تأدية العمل. كما أن هناك "قادة أوركسترا" متخصصين بلون معين فيدخلون في الاختصاص بشكل أكبر مما يطور مهارات العازفين.

ووجود موسيقيين منفردين يأتون ضيوفاً إلينا يعزز الاحتكاك مع موسيقيين من العالم، فترى التقنيات من حيث الصوت واللون المختلف مما يمنح أعضاء الفرقة خبرة في المرونة والرؤية الموسيقية للعمل.

وعندما نسافر مع جمهور مختلف، تتغير المسؤولية، لأنه سيحضر الحفل كناقد سبق وتابع الكثير من الفرق الهامة، فتحدث المقارنة مما يحمّلك مسؤولية أكبر وتحمّسك لتستطيع المنافسة.

- ماذا عن الحضور خارج دمشق، بما في ذلك المهرجان الدولي العاشر للموسيقا في الجزائر؟

اطلقوا عام 2009 في الجزائر مهرجاناً دولياً للموسيقا السيمفونية، وكان الموسيقيون السوريون معهم منذ البداية، حتى أنهم يعتبروننا من مؤسسي المهرجان، وخلال هذه السنوات كان لسوريا وجود دائم، إما بشكل رسمي أو شخصي، لأنه في الكثير من السنوات اعتذرت سوريا عن مشاركة "فرقة الاوركسترا السيمفونية الوطنية" لعدم وجود تمويل، فتم توجيه الدعوة لي ليكون هناك تشكيلة أصغر من الموسيقيين تلبّي ما يريدونه، ففي العام الماضي كان طلبهم أن يكون هناك مغنو أوبرا، وفي سنة أخرى طلبوا كورال، وشاركنا في إحدى المرات بفرقة نحاسيات، فنحن محكومون بعدد معين من العازفين، وبما هم بحاجة إليه ليغّنوا تيمة المهرجان لديهم، وهم مصرون دائماً على وجود السوريين.

أتمنى أن يتوفر التمويل لدينا لنسافر في النسخة القادمة للمهرجان كـ "فرقة سيمفونية" كاملة ونقدم برنامجنا كما تفعل الفرق العالمية الأخرى "الإيطالية والفرنسية والصينية والمكسيكية والفينزويلية" وغيرها.