تحتفظ مدينة "حمص" بتاريخ موسيقي غني يشكل جزءاً أصيلاً من هويتها الثقافية، ولا تزال أغانيها التراثية القديمة تتردد في المناسبات الاجتماعية والأعراس والأناشيد الدينية، حاملة بين نغماتها قصص الأجيال وحكايات المدينة، وساهم مطربون وملحنون من أبناء "حمص" في ترسيخ هذا الإرث الفني، تاركين بصماتهم في وجدان المجتمع من خلال ألحان لاتزال تتناقلها الأجيال.

التراث الموسيقي الحمصي

يمتاز التراث الموسيقي "الحمصي" بتنوعه بين المواويل الشعبية والمقامات التقليدية، التي تنقل مشاعر الفرح والحزن والأمل بطريقة فنية عميقة، مما يجعل من المدينة مرجعاً بارزاً في حفظ التراث الموسيقي "السوري"، وفي الوقت الراهن يواصل الفنانون المحليون الحفاظ على هذا الإرث، لتبقى أنغام حمص حيّة، تتنفس روح المدينة وتروي تاريخها العريق.

ومن الأصوات التي رحلت وخلّفت بصماتها في الحركة الغنائية الحمصية، نذكر: "محمد الشاويش، عبد الواحد الشاويش، نجيب زين الدين، عبد الرحمن الزيات، عبد الكافي أحمد، أديب الطش"، وآخرون ساهموا في تشكيل الحركة الغنائية في مدينة حمص خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتمثّل أغانيهم اليوم شاهداً حياً على تاريخ المدينة الفني، وتذكيراً بروحها الثقافية العميقة التي تلهم الأجيال الجديدة وتربطهم بماضيهم الغني بالأصالة والإبداع.

عبد الواحد الشاويش (العود) فهد الجنيات (كمان) محمد الخالد (بزق)

عبد الواحد الشاويش

عبد الرحمن الزيات

لتسليط الضوء على عدد عن أبرز المطربين الذين عرفتهم حمص خلال النصف الأول من القرن العشرين، التقت "مدونة الموسيقا" مع الفنان والباحث الموسيقي "أمين رومية" رئيس فرع حمص لنقابة الفنانين، الذي تحدث عن المطرب "عبد الواحد الشاويش"، قائلاً: «وُلِد الشاويش في مدينة "حمص" عام 1904، وظهر ميله إلى الغناء منذ طفولته، عندما كان يستمع إلى الأسطوانات المنتشرة في تلك الأيام ويحفظ ما استطاع من الأغاني والأدوار والقصائد الوافدة من مصر، وكان يشارك مع فرق "الإنشاد الديني" التي تحيي الأفراح والمناسبات الدينية، برفقة عمه المطرب المعروف آنذاك "محمد الشاويش" المتوفى سنة 1944، حيث درس عنه أصول الغناء "الإيقاعات والمقامات"، كما غنى "الموشحات والأدوار" القديمة، ومن بينها الدور الذي غنته "أم كلثوم" بعنوان "البعد علّمني السهر"، بالإضافة إلى "القدود" التي كتبها الشيخ "أمين الجندي" بشكل خاص، وقد التقى بالمطرب المصري المعروف "سيد الصفتي"، الذي دعاه لزيارة "مصر" بعد أن سمعه وأُعجب بغنائه، لكن "الشاويش" فضّل البقاء في مدينة "حمص"».

وعن مشاركاته الفنية يقول "رومية": «انتسب "الشاويش" إلى نادي "دوحة الميماس" العريق الذي تأسس سنة 1933، وشارك في الكثير من حفلاته، ومن أهمها المهرجان الذي أقيم عام 1960 في مدينة "حلب" إحياءً لذكرى وفاة "سيد درويش"، وغنى فيها "دور" بعنوان "أنا هويت" بالإضافة إلى أغنية "حرّج علي بابا"، ومنح جائزة وزارة الثقافة ضمن هذا المهرجان».

الباحث الموسيقي أمين رومية رئيس فرع حمص لنقابة الفنانين

ويتابع: «ساهم "الشاويش" في إحياء العديد من الموشحات والقصائد والأغنيات الشعبية المنسية، مثل "ثغر حبي كالدرر"، التي كان يغنيها في الحفلات التي يشارك فيها، وأبدع أيضاً في غناء القصائد والمواويل، مثل قصيدة "سبحان من خلق العيون"، و"شكتني ثريا إلى والديا"، ومن القصائد التي تميز في غنائها قصيدة "أنا في سكرين من خمر وعين"، التي كتب كلماتها الشاعر "بدر الدين الحامد" ولحنها "نعسان الحريري"».

ويتحدث عن إبداعه في الارتجال والتلحين أثناء غنائه قائلاً: «برع في الارتجال عند غنائه القصائد بشكل مرسل بدون إيقاع، إذ كان يمتلك موهبة خاصة في الارتجال والتلحين اللحظي، وفي القصائد الملحَّنة، كان يتوقف عند بعض المقاطع ويرتجل على اللحن الأساسي بأسلوب قل نظيره، مستغلاً المساحة الصوتية التي يتمتع بها والتي تقارب أربع عشرة درجة موسيقية، إلى جانب معرفته بأصول الغناء وتمكّنه من علم المقامات الموسيقية، التي يتنقل بينها بكل سلاسة وتفنن».

الدكتور عبد الرحمن البيطار رئيس الجمعية التاريخية بحمص

ويشير "رومية" إلى أن "الشاويش" كان يتمتع بصوت استثنائي وطابع فريد، لا يشبهه أحد ولا يقلد أحداً، على عكس أقرانه من المطربين الحمصيين الذين برعوا في تقليد أسلوب المطربين المصريين، كما لقت إلى أن الفرقة الموسيقية التي كانت ترافقه في معظم حفلاته، تتألف من عازف الكمان "فهد الجنيات" وعازف البزق "محمد الخالد".

عبد الرحمن الزيّات

كما تحدّث "أمين روميّة" عن المطرب "عبد الرحمن الزيّات"، البلبل الغريد الذي بكته "حمص"، قائلاً: «وُلد في حيّ "باب السباع" في "حمص" عام 1902، لأسرةٍ تعمل في البناء وتكسب قوتها من كدّ يمينها، وكان حبّ الغناء فطرةً عُرفت بها العائلة، إذ يتمتّع أبناؤها بأصواتٍ جميلةٍ تُحيي "الموالد" في المدينة، وهكذا تفتحت موهبته بالغناء منذ الصغر ضمن هذا الجو العابق بالنغم والجمال».

عبد الواحد الشاويش يعزف على العود في المنتصف

وعن أنواع الألوان الغنائية التي تعلّمها "الزيّات" في بداياته، ومن هم أبرز الملحنين والمطربين الذين تأثّر بأعمالهم يقول "رومية": «بعد أن اتّضحت موهبته في الغناء واشتدّ عوده، بدأ يحفظ ويتقن ما تيسّر له من ألوان الغناء "المصري" الذي كان يَغزو معظم أرجاء "الوطن العربي"، مثل "الموشحات والأدوار والقصائد" التي أبدعها كبار الملحنين أمثال "محمد عثمان، عبده الحامولي، سيد درويش، داوود حسني"، وكان يؤدي هذه الأعمال بدقة وإبداع يدهشان الحاضرين، مصاحباً غناءه بالعزف على آلة "العود"، كما تأثّر بأسلوب الأداء لدى المطربين المصريين الذين ينتمون إلى المدرسة القديمة، مثل "سيد الصفتِي وسلامة حجازي"، ولا سيّما في اهتزاز الصوت ارتفاعاً وانخفاضاً حول بعض الدرجات الموسيقية، وذلك بالوقوف على أحد الأحرف التلحينية مثل الألف والياء والواو».

ويُشير إلى أهمية اللقاءات الفنية التي خاضها "الزيّات" في صقل موهبته الغنائية قائلاً: «في إحدى الزيارات التي قام بها المطرب المصري المعروف "سيد الصفتي" إلى المنطقة بين عامي 1920 و1944، التقى به "عبد الرحمن الزيّات"، فطلب منه "الصفتي" أن يغني، عندها انطلق "الزيّات" يؤدي موشح "راعي اليواقيت العذاب"، فأُعجب "الصفتي" بقوة صوته وعذوبته، وبإتقانه للألحان وحسن أدائه، وتكررت اللقاءات بعد ذلك بينهما، فنهل "الزيّات" من "الصفتي" الكثير من "الموشحات والأدوار"، وكان يتمتع بذاكرة قوية مكّنته من حفظ أعمال غنائية متنوعة، منها أعمال "محيي الدين بعيون ونخلة القطريب" اللبنانيين، بالإضافة إلى القصائد التي كان يُلحّنها بنفسه ويؤديها ارتجالاً، ومن أبرزها قصيدة ابن الفارض "قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي، روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ"».

وفيما يتعلق بصفاته الفنية والشخصية التي تميّز بها يقول: «يُعدّ "الزيّات" من أبرز مطربي "حمص" في الثلث الأول من القرن العشرين، إذ يقع صوته بين طبقتي "الباريتون والتينور"، وتبلغ مساحتُه الصوتية نحو أربع عشرة درجة بين القرار والجواب، وهو يتمتّع بدماثة الخلق، ولطافة المعشر، ووجهٍ مشرقٍ يوحي بالطيبة والتواضع».

ويلفت "رومية" إلى أنّ "الزيّات" وثّق صوته من خلال تسجيل ثلاث أسطوانات لصالح شركة "بيضا فون" في بيروت، وهي تُشكّل الإرث الصوتي الوحيد الذي وصلنا عنه، وتُعد من أهم الوثائق التي تكشف ملامح الغناء في "حمص" خلال الثلث الأول من القرن العشرين.

الهوية الثقافية

تحدث لـ "مدونة الموسيقا" الدكتور "عبد الرحمن البيطار" رئيس الجمعية التاريخية في "حمص" عن دور التراث في حفظ الهوية الثقافية، والعوامل التي أسهمت في تميّز مدينة "حمص" بفنّها الموسيقي قائلاً: «التراث هو ما خلّفه الأقدمون في مختلف مجالات الحياة من عادات وتقاليد وفنون وموسيقا، وهو صورة حيّة تعبّر عن ملامح المجتمعات في الماضي، وتُعدّ الموسيقا الموروثة مثالاُ بارزاً لذلك، إذ تعكس أنماط الحياة والممارسات التي تناقلتها الأجيال، حتى أصبحت جزءاً من الهوية الثقافية، ويتميّز التراث الموسيقي في مدينة "حمص" بحبّ الموسيقا، فقد ألهم موقعها على ضفاف العاصي الإنسان للإبداع، فكان الفن وسيلته للتعبير والجمال، ومع مرور الزمن تطوّر الفن الموسيقي والديني، فتحوّل الغناء إلى إنشادٍ روحيٍّ يعتمد المقامات الموسيقية نفسها، محافظاً بذلك على روح الفن».

ويرى أنّ الطرب الأصيل أنغام استخلصها الإنسان من الطبيعة وضبطها ليصل بها إلى إيقاعات، والفن الغنائي يشبه الشعر، فالكلام العادي لا يقبل الحفظ، بينما الشعر يرتكز على الوزن والإيقاع، وهذه الإيقاعات تتناغم مع روح الإنسان، وهكذا نشأت إيقاعات عديدة انسجم معها الناس، وتوارثت عبر التاريخ ضمن الفنون بمختلف أشكالها، بما فيها الموسيقا والغناء والطرب.

وفي معرض حديثه عن العلاقة بين الأصالة والتجديد في الموسيقا والفنون، يقول الدكتور "عبد الرحمن": «كلمة الأصالة تعني الشيء الذي بُني عبر الزمن، وليس وليد لحظته، ففي الستينات والسبعينات ومع التطورات العصرية، انجرفت الأصالة في كثير من المجالات، ومنها الموسيقا والغناء، ومع ذلك حين نذكر "أم كلثوم" أمام الشباب نجدهم يستمعون إليها بإعجاب، وهذا دليل على أن هذا الفن الأصيل إذا منحته أذنك وجد طريقه إلى قلبك، فالموسيقا إرثٌ متوارث يتكيّف مع أذواق الناس في كل زمن، ومن الخطأ أن نأتي بالجديد لنلغي القديم، والأصح أن نُقدِّم الجديد ونطوره مع الحفاظ على أصالة الطرب، لأن الموسيقا ليست علماً حديثاً، بل تمتد جذورها إلى العصور القديمة، والدليل وجود الآلات الموسيقية في النقوش التاريخية، ويمكننا الحفاظ على الفنون التراثية بأسلوب حديث يقرّبها من الأجيال الجديدة ويجعلها جزءاً من حاضرهم».

ويوجه "البيطار" نصيحته للمهتمين بالموسيقا، حاثّاً إياهم على التحلي بالصبر والصمود أمام التحديات للحفاظ على التراث الموسيقي، وألّا تثنيهم الصعوبات عن أداء واجبهم تجاه إرث أجدادهم، فالموسيقا جزء لا يتجزأ من التراث العام، تعكس تاريخنا وثقافتنا، وتعبر عن روح الإنسان ومشاعره، والحرص عليها وحمايتها مسؤولية تجاه الأجيال القادمة، وفرصة للحفاظ على إرثنا الإنساني وهويتنا الوطنية، لضمان بقاء هذه القيم حيّة ومتجددة في حاضرنا ومستقبلنا.