ولد المطرب الشيخ "محمد أديب الدايخ" في عام ١٩٣٨ بمدينة "حلب"، ومنذ نعومة أظفاره حرص والده الشيخ القارئ "محمد الدايخ" على تعليم واصطحاب ابنه "أديب" إلى مجالس تعليم القرآن الكريم والموالد نظراً لامتلاكه خامة صوتية نقية ومرتفعة ساعدته على أداء أصعب القصائد والمدائح النبوبة، أمضى فترة حياته في نشر التراث العربي في بلده والوطن العربي والعالم، ونال عدة أوسمة وتسميات وألقاب منها "مطرب الملوك" و" زرياب العرب" و" مطرب العشاق" و"سفير الغزل والطرب".
بدَايَاتٌ مُبَشِّرَةٌ مُنذُ الصِّغَرِ
أمتلك "أديب" حنجرة جميلة وقوية أعطت لصوته سحراً وجمالاً، حيث بدأ حياته الفنية مبكراً باللون الصوفي الذي تعلمه واقتبسه من والده في علم أصول الكلام والتلاوة والحفظ للقراءات السبع للقرآن الكريم، وبعد فترة من صقله وتعلمه أدرك والده مالدى ابنه الشاب الصغير من قوة صوت وأحساس وعذوبة وجمال بالكلمة والغناء، فوجهه في البداية نحو حفظ الكثير من القصائد والتي كانت ملائمة جداً لمهاراته في طريقة غنائها وعلى الطريقة الصوفية التي اكتسبها من تمرسه في التلاوة والإنشاد والطرب.
وفي حديث "للشيخ أديب" يقول عن ذاته: "في صغري تعمقت كثيراً في غناء القصائد الصوفية والغزلية حيث كنت أدعى إلى إحياء حفلات القرآن الكريم والموالد الرمضانية وليلة القدر والنصف من شعبان والأعياد، وكانوا يجلسوني على وسادتين فوق الكرسي حتى أصل إلى مايكروفون الغناء".
مقابل ذلك وضع والده مشوار ابنه الفني تحت الرقابة الشديدة خشية الانزلاق في طريق فن مختلف وبعيد عن ما رسمه له، وهو الغناء الصوفي والقصائد، وقبل وفاته بفترة قصيرة تزوج "أديب" بناء على طلب والده وهو بعمر ١٨ عاماً، وهنا بقي الابن وحيداً من دون رعاية، وسنده الوحيد كان العلوم التي حفظها وتعلمها على يد والده.
ويتابع "الدايخ": وأنا في سن الخامسة عشر حتى وصولي للثامنة عشر، كنت قد جمعت وحفظت أكثر من عشرة آلاف من أبيات الشعر العربي في مجموعة خاصة بي سميتها "الكنز الكبير"، حيث ضمت شعراء من العصر الجاهلي والأموي والعباسي والشعر الحديث معاً، كل ذلك شكل لي ذخيرة وأرضية صلبة للوقوف عليها.
استطاع "أديب" إبراز نفسه بكل جدارة وبراعة في ساحة الغناء رغم وجود كبار عمالقة الفن بتلك الفترة الذهبية أوج عصر مدينة "حلب"، ما جعل منه واحداً من أبرز شيوخ الطرب في المنطقة العربية وهذا ما كان يلاحظ من خلال ردات وتفاعل الجمهور بطريقة غنائه في المقاطع التي كان ينشدها وبطلب الجماهير الحاضرة بتكرار مقاطعها أكثر من مرة، حتى تم إطلاق لقب "راهب العشاق" عليه، ولعل الذي جعله ينال مثل تلك الألقاب هو طريقة اختياره وغنائه للقصائد بإحساس سلس وجميل يخرج من ذاته وكيانه وروحه.
وهو الذي برز في غناء القصيدة ذات المعاني، وتعلق كثيراً بنغمة الحجاز، ويقال إنه يمتلك مساحة صوتية تعطي ثلاثة "اوكتافات" وكان يستطيع الانتقال من النغمة المرتفعة إلى المنخفضة ومن مقام لآخر بسلاسة وبراعة، كل ذلك جعل جمهوره والمستمعين لفنه يطربون وينتشون بهذا النوع من الغناء العذب الذي لم يسمعوا مثله من قبل.
الغِنَاءُ بِلَا مُوسِيقَا
ومما اشتهر به المطرب "أديب الدايخ" قوة وعذوبة صوته، حيث يمكن القول إن صوته أعطى اللون الذي يرافقه قيمة وعذوبة، فقد كان في كثير من الأحيان يطلب من العازفين المرافقين لفرقته التوقف عن العزف ويستمر بالغناء من دون موسيقا، ليظهر جمال والمقدرة الفنية التي كان يتمع بها مع تصفيق ودهشة الجمهور الحاضر على أداء الصوت والكلمة لهذه الطريقة الجديدة بالغناء.
وانتشرت الكثير من أغانيه في وسائل الاعلام وذاع صيته بهذا الأسلوب الجديد في الوطن العربي وكافة أنحاء العالم (الغناء بلا موسيقا).
رِحلَةُ "فَرَنسا"
أثناء زيارته "لفرنسا" تعرف على الموسيقار "جوليان فايس" وترافقا مدة طويلة في حفلاتهما، والتقته إذاعة "مونتي كارلو" على الهواء في بث مباشر، ووصفه الشاعر اللبناني "جورج جرداق" بالصوت القادم من أعماق الصحراء العربية، ويستحضر في قوة وأداء صوته "زرياب" و"الفارابي" وكل سلاطين الطرب، واشتهر كثيراً بعدة أغاني منها: بيضاء لاكدر يشوب جمالها كالياسمين نقاوة وعبير، عشقتك ياليلى وانتي صغيرة ، لولا غرامي لما ذرفت الأدمعا ، أغار عليك .
والأشهر: أنا ياسعاد ، لاتحسبو كل من شرب الهوى ، قالوا تسلى عن المحبوب.
وحسب رأي "الدايخ" أن تطوير الغناء يكون بالأداء الجيد والكلمة ذات المعنى واللحن العربي الأصيل.
شهَادَاتُ أَبنَائِهِ
ابنه "ضياء" الذي أكمل مسيرة والده الفنية، وهو الذي رافقه كثيراً في حفلاته وتعلم منه، قال: "كان والدي يغني القصائد الغزلية العفيفة الصوفية ذات المعنى الجميل ولجميع طبقات المجتمع للغني والفقير ولمحبي الإنشاد والمدائح". ألَّف فرقة إنشاد ديني مع "فؤاد خانطوماني" و"حسن الحفار". وتشارك مع المطرب "محمد خيري" وصبري المدلل" في جامع "الروضة" بتقديم حفلات. كان الراحل ودوداً بسيطاً في تعامله مع الآخرين، كان يجب الفقراء ويقدم لهم حفلات الزواج بأسعار رمزية.
فيما قال ابنه الأصغر "مهند": "ولد أبي في حي "باب النيرب" الشعبي وبدأ حياته مؤذناً في مسجدي "العبارة" ثم "الروضة" كان صوته يصدح في الآفاق فتخشع له القلوب، قضى معظم حياته بالغناء والحفظ وتأليف وكتابة الشعر، كان يتلاعب ويغير ببعض المعاني والقوافي وبما ينسجم مع اللحن وطريقة الغناء، كانت لديه دعوة سنوية دائمة من مهرجان "قرطاج" في "تونس" والتقى هناك المطرب "لطفي بوشناق"، وتم تكريمه من إدارة المهرجان بعد وفاته، كان يحب الاستماع للأنغام التركية الحزينة ويتأثر بها، جمعنا أرشيفه ضمن ألبوم خاص موسع ومصور عن مسيرة حياته الفنية في معظم دول العالم، تخرج على يديه عدة مطربين منشدين أصبح لهم شأن وحضور أمثال "نور مهنا" و"أحمد علاء الدين" و" أحمد جبارة" و"عمر سرميني" وغيرهم كثر، زار لبنان واجتمع مع الفنان الكبير "وديع الصافي"، وتحتوي مكتبته على أكثر من ألف كاسيت".
آخر حفلاته كانت في معرض "دمشق" الدولي، توفي في عام ٢٠٠١ عن عمر ناهز الـ ٦٣ عاماً.