كان لانتقال الموسيقا من العصر القوطي إلى عصرِ النهضة حسنات ومحاسن عدة، منها: تحررِ الموسيقا من قيدِ الكلمة الشعرية، فالموسيقا فن جمعي عالمي، لا يحده حدّ جغرافي، تعبر البلاد من دون تأشيرةِ دخول، ويمكن اعتماد رأي إيتيان سوريو[1] "الموسيقا فن من فنونِ الدرجةِ الأولى"[2]، أما الشعر فهو فن نبيل جميل، إلا إنه خاص غير جمعي غير شامل، أدواته الحرف والكلمة والصورة.

ويمكن القول إن الكلمة هي ذاكَ الرمز اللغوي المعقد، الذي تطلقه جماعة ديموغرافية ما لتسمية الأشياء ولدلالاتها، حتى يحصل التفاهم في المجتمع؛ لأن أدواتِ الشعر حدّت من إمكانية عالميته، وجعلت منه فناً محلياً خاصاً، لأنه خاص باللغة التي كُتِبَ بها، وخاص بطبيعة المجتمع والبيئة الذي نتج عنهما أيضاً، فاللغة تظُهر وجودها الحقيقي حينما ينطقها ناطقوها مفصحينَ عن أسلوبهم الخاص في التفكير والفهم والشعور، فاللغة عندما تسمي الأشياء فهي توجدها وتضفي عليها المعنى، لولا اللغة لما كانت لدينا معرفة أعمق بالعالم، اللغة مكونة الشِعر هي المكون الأساسي للحفاظِ على الهوية الثقافية، والصلة بين الهوية واللغة جوهرية؛ إذ إن اللغة تحدد هوية الناس وتجعلهم على وعي بأنفسهم، فهي ائتلاف أرواح الناس كما عبرّ عنها الفيلسوف هردر[3]، ومع ذلك، فاللغة الشعرية لا تتجلى حقيقها عندما تتجه من الداخل إلى الخارج، بل عندما تجلب الخارج إلى الداخل، أي عندما تجلب الوجود ذاته إلى باطنها، على الرأي البليغِ لـ"هايدغر[4] "اللغة مسكن الوجود، فكلِ لغةٍ لا تجلب الخارج إلى الداخل هي ليست لغة بل هي مجرد كلماتٍ للتعبيرِ عن المعنى الذي يوجد خارجها لا الذي يسكن صوتياتها، وحروفها، وموسيقاها، لهذا، كلما استعصت الترجمة كانت اللغة أكثر إفصاحاً عن هويتها وأكثر حضوراً، فالترجمة حدّت من عِمق الأفكار، والصورِ الشعرية، وجعلته باهتاً هزيلاً، فمن أبياتٍ مقفاةٍ إلى جمل نثريةٍ بسيطة، ولن أعمم هذه الفكرة؛ إذ يوجد بعض الأشعار العربية التي ترجمت إلى لغاتٍ أخرى، كالألمانية مثلاً، كانت الترجمة مبدعة لكنها لم تكن بغنى الصورة العربية، فالعربي يفهم الشِعرَ العربي الأصيل، وتطربه العاطفة الشعرية في القصيدة، والألماني يفهم العاطفة الشعرية في لغته، إلا أن العربي لن يشعر بالعاطفة الألمانية مهما بلغت الترجمة من إبداع، وكذا هو الحال بالنسبةِ لغير العربي، فلن يشعر بالعاطفة الشعرية كما هي في شِعر المتبني، فخذ على سبيلِ المثال شعر المتنبي:

أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثلْي يأَرَق.... وَجَوىً يزَيد وَعَبْرَةٌ تتَرَقْرَقُ

1- لوحة الأوركسترا للفنان سعد يكن

مهما حاول سادةُ الترجمةِ ترجمتها، لن نشعر بمعاناةِ المتبني، وستضيع الصورة الشعرية المرجوة من هذا البيت، كذلك هو الأمر بالنسبة لشعر شيكسبير، يفقد الشِعر معناه ومقصده لو أردنا ترجمته:

Music to hear, why hear'st thou music sadly?

2- الباحث والموسيقي مصطفى مليس

Sweets with sweets war not, joy delights in joy.

وعليه، نجد أن لغة العلوم الطبيعية أبسط من ترجمة لغة العلوم الإنسانية، وترجمة العلوم الإنسانية أبسط من ترجمةِ الفلسفة، وترجمة الفلسفة أبسط من ترجمةِ الأدب، وترجمة الأدب أبسط من ترجمةِ شاعرية اللغة التي تتجلى في الِشعر، إذ إن كلمات الشِعر مضمرة في صوتياتها، وإيقاعها وصورها الحسية المشبعة بعالم الإنسان ناطق اللغة، أما الأحرف السبعة للموسيقا جعلتها عالمية، فيمكننا فهم الأنماط الموسيقية في جميع حضاراتِ الأرض، ويمكننا فهم الخطوط العريضة للصور التعبيرية والعاطفة الموسيقية عند معظم المؤلفين الموسيقيين في عصور الباروك والكلاسيكي والرومانسي والرومانسي المتأخر، لأنهم واضحين في مطلبهم بالنسبةِ للمستمع المبتدئ، ويمكن للمستمع المخضرم فهم الصور والتعابير الموسيقية عند أكثر المؤلفين الموسيقيين معاصرةً وحداثة.

3- مارتن هايدغر

ارتبطت الفنون منذ نشأتها وعبرَ العصور بالحالِ الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية للديموغرافية البشرية، بقي هذا حال الفنون حتى منتصف عصر الباروك، إذ كان لكلِ عصرٍ ما يميزه من الجوانب الفكرية والسياسية والاجتماعية والفنية، إلا أن الفِكر الديني قد ساد وتفشى في العصر القوطي، منذ سقوط امبراطورية شارلمان[5]، استفاد الكهنة من فترة الاضطراب السياسي والاجتماعي لفرض نظامهم الفكري والفلسفي والموسيقي على أوربا، لكونهم السلطة الوحيدة التي لا تزال متماسكة فكرياً ومنظمة اجتماعياً بفضل وجود مرجعية دينية كالبابا غريغور، وحينها سيطرت الثيوقراطية نسبياً على مفاصل حياتية مهمة في أوروبا، كانت جميع المنافذ الثقافية لا تؤدي إلا إلى المسالك الدينية وتنتهي عند أبوابِ الكنائس القوطية الشاهقة، كانت سياسة الكنيسة آنذاك في مقاربتها للفنون بسيطة وفعّالة، تحرّم وتحلل، تمنع وتسمح، تدين وترحب، تشدّ وترخي بما يخدم مصلحتها ويعزز موقفها، إذ كانت تدين الموسيقا بسبب ما تنقله وتولده في نفس المستمع من متعة، يمكن لها أن تجرف المتعبد نحو الدنيوية الديونيسوسية[6]؛ ترحيب في حال وظفت الموسيقا لتثبيت ودعم العقيدة وتوضيع النص الشعائري الديني وتزينه وتصعيده، وإدانة شرسة لموسيقا الآلات، ثم توظيف لها يسمح بتداول الموسيقا في حال كانت خادمة للكنيسة ومقيدة بكتاب أناشيد الأنيتفونير[7]، لاحقاً، وبسبب المصادفة، تم اكتشاف نمط التروب[8]، إذ لم تعد الأناشيد الغريغوريّة تلبي متطلبات المجتمع، لأنها فقدت من جهة التناغم بين ما تعبّر عنه الموسيقا من معنى روحي أخلاقي، ومنجهةٍ أخرى متطلبات أشخاص أصبحت بالنسبة لهم هذه الموسيقا فارغة من أي مضمون؛ حينها وبسبب تطور نمط الحياة الاجتماعية والفكر السياسي بعد شارلمان، وبسبب الحاجة الماسّة إلى التعبير عن مواضيع أخرى غير المواضيع الدينية، كان لا بد للموسيقا من التمرد على الكلمة وتتطور؛ لأنها مرتبطة منذ نشأتها بالمجتمع، وكان أول عرّاب لهذه الحركة "كلاوديو مونتيفيردي"[9](في عمله سوناتا سانتا ماريا لآلات عدة، كانت حينها الكلمة خادمة للموسيقا، ففي أحدِ حركاتها نجد قسم كانتوس فيرموس، إلا إن العمل موسيقي آليّ بامتياز، كان هناك بعض الأسباب الفردية، التي عبرّت عن الحرية والتفرد جعلت الموسيقا تتحرر من القيد الديني الكنسي، كالشعراء الجوالين "تروبادور والتروفير"، إذ إنه وكما سبق الذكر، منعت الكنيسة أية موسيقا يمكنها أن تثير العواطف، وكان لا بد للشخص من التعبير عن عواطفه

وتلبية دوافعه، فالتروبادور هو العاشق الذي يتجول بشوارع فرنسا الجنوبية الغربية ويغني أغانيه عن الحب.

4- تمثال للموسيقي كلاوديو مونتيفيردي

وقد لعب تطور الآلات الموسيقية دوره في جعل المؤلفين الموسيقيين يعتنون بكينونة الآلة الموسيقية ويكتبون أعمالاً خاصة لها، بقوالب جديدة كلياً، لأن تطور الآلة الموسيقية أصبح يجعل صوتها أكثر وضوحاً وصدوحاً الأمر الذي زاد مرونة الموسيقا وصارت أكثر تعقيداً وتعبيراً، وكان تحرر الموسيقا من الشعر مهماً لأنه أتاح للموسيقيين والملحنين إمكانية التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بشكل أكثر حرية وإبداعية، فقبل ذلك، كانت الموسيقا مرتبطة بالشعر والغناء، وكان يتعين على الموسيقيين الالتزام بقواعد وقوالب محددة لإنشاء الأغاني، ولكن بعد تحرر الموسيقا من الشعر، أصبح بإمكان الموسيقيين استخدام مجموعة متنوعة من الآلات الموسيقية وتجارب صوتية جديدة لإنشاء موسيقا أكثر تعبيراً وابتكاراً، وهذا أدى إلى ظهور تيارات موسيقية جديدة وتطورات في الفن الموسيقي، أيضاً كان هناك حاجة لبعض التسلية الموسيقية والترفيه والاسترخاء والتأمل، وكانت هناك حاجة ملحّة لابتكار موسيقا الاستقبالات، الأمرالذي حوّل الموسيقا مع الوقت إلى فن رفيع يحظى بتقدير كبير، وأصبحت جزءاً أساساً من الثقافة العالمية.

مراجع:

[1] فيلسوف فرنسي اشتهر بعمله في علم الجمال.

[2] كتاب تقابل الفنون للمؤلف "إيتيان سوريو".

[3] يوهان جوتفريد هردر، هو كاتب وشاعر وفيلسوف وناقد ولاهوتي ألماني. ولد عام 1744 في موراغ، ومات في عام 1803 في فايمار.

[4] مارتن هايدغر فيلسُوف أَلَماني. ولد جنوب ألمانيا، وجه اهتمامه الفلسفي إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة.

[5] شارلمان أو كارل الكبير أو قارلة، هو ملك الفرنجة وحاكم إمبراطوريتهم بين الأعوام 768 و800 للميلاد. وهو إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة بين الأعوام 800 و814 ميلادية، والابن الأكبر للملك بيبين الثالث من سلالة الكارولنجية.

[6] نسبةً إلى الإله الإغريقي ديونيسيوس الذي يعتبر هو إله الخمر عند الإغريق القدماء وملهم طقوس الابتهاج والنشوة.

[7] Antiphonary إن الأنتيفونات هي أحد الكتب الطقسية المعدة للاستخدام في الكورو، والتي تتميز في الأصل، كما يوحي اسمها، بتخصيصها بشكل أساسي للأنتيفونات المستخدمة في أجزاء مختلفة من الطقوس الليتورجية اللاتينية.

[8] أصل الكلمة يوناني ويعني لحن، جاء من فعل tropus، وهو تطوير أو توسيع موسيقي أو أدبي لجزء من قطعة موسيقية مستمدة من كتاب الأنتيفونير.

[9] كلاوديو مونتيفيردي 1567 - 1643 هو مؤلف إيطالي، كان من بين الذين ساهموا في وضع قواعد فن الأوبرا في إيطاليا.