يعتمد فن المونولوج على الأداء الفردي التمثيلي مع أو بدون موسيقا، وتعددت أشكاله بين مونولوج سياسي واجتماعي وفكاهي ناقد..، ويُعد "المونولوج الغنائي" قالباً حديثاً من قوالب الغناء العربي، وكان السباق إليه "سيد درويش" في "مصر" عام 1920، من خلال مونولوج "والله تستاهل يا قلبي". وكان "المونولوج" يؤدى على المسرح ويتم تسجيله على أسطوانات في البداية، ثم بات انتشاره يتم عبر الإذاعة فالتلفزيون، ليصل اليوم إلى قنوات اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي.
انطلاقة الـ "مونولوج"
لدى الحديث عن "المونولوج" السوري، فنحن أمام تاريخ جدير بالاهتمام لرائد "المونولوج" في سورية "سلامة الأغواني"، الذي عرّف عن نفسه في أحد مونولوجاته قائلاً «رئيس نقابة الطفرانين وأمين سر الكادحين».
ظهر "سلامة الأغواني" في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ابن "دمشق" حي "القيمرية"، وابن مسؤول الإنارة في المسجد الأموي. وكان أول مونولوج بعنوان "نحنا الشوفيرية"، حيث كان يعمل سائقاً على طريق دمشق بيروت.
تتالت بعدها "المونولوجات" وكان هو المؤلف والمؤدي لمونولوجاته، التي كان لها تأثيرا كبيراً، وخاصة السياسية منها، لأنه عاش فترة الاحتلال الفرنسي لسورية. وحملت كلمات مونولوجاته حالة وطنية وغيرة على البلاد، وعلى الوحدة الوطنية، وأشهرها مونولوج "لعند هون وبس" الذي تسبب في منعه من بيع أسطواناته "الأسطوانة 177" التي تحوي معظم مونولوجاته السياسية، وجاء ذلك بموجب قرار من المفوض الفرنسي "دي مارتل" عام 1934. وقدم بعدها المونولوجات الانتقادية للاحتلال فسجن، ثم نفي إلى "أفغانستان" وصدر حكم بإعدامه، وشمله العفو فعاد ولكنه لم يكف عن انتقاد الاحتلال، فلا يزال حلم الاستقلال يراوده، وكان تعبيراً شعبياً عن الوضع الداخلي.
مونولوجات ناقدة
اشتهرت مونولوجاته السياسية الناقدة، مثل "هونها يا مهون" و "الأرض لأبونا وجايين ينهبونا"، حتى أنه انتقد أعوان الفرنسيين عبر مونولوج "أنتو جماعة منظومين"، وكان يدعو في مونولوجاته إلى توحيد الصفوف، وبقي ينتقد الاحتلال الفرنسي إلى أن تحقق الاستقلال.
من تلك المونولوجات "إن دامت حالتنا" عام 1933، ويقول فيه:
إن دامت حالتنا أو زادت بلوتنا
يا ناس عيفونا منهم
يا ناس افترقو عنهم
يا ناس مهما صار فينا
يا ناس الحق علينا يا ناس ليش غيرنا صارو ناس
قول فلسنا قول خسرنا قول عدمنا
كما يقول في مونولوج ا"لأرض لأبونا وجايين ينهبونا ":
بعلمي الضيف بيبقى ظريف
بيعرف حدودو وبيكون خفيف
لكن جماعتك يا لطيف يا لطيف
أكلوا العجنة ما خلو رغيف
وبعد شوي رايحين ياكلونا
مئتا "مونولوج"
نصف قرن من الزمان قدم خلالها الأغواني ما يقارب المائتي مونولوج وقد ساهم في انتشارها البث عبر أثير إذاعة دمشق ، من المونولوجات التي قدمها:
"والله زهقنا من هالحياة، يا لطيف كيف عايشين وماشيين، شغل مافي رزقة متفي، هاتو ططر هاتو نور، بدي افهم هالسر هالستات بعز البرد مزلطين، ياماناس بتنظلم، الباب جاب لي يويو، نيالي شو عبالي لو كنت موظف حكومة، فيه غلطة بالحياة، يا ريتني خلقان برغوت وين ما بدي كنت بفوت، أوعا يا شريك ما يغرك كتر التزويق أغلبهم عايشين عالريق، أهلا برجال سورية، نحنا الشوفيرية، لعند هون وبس، كيف ما بدنا نطفر، على مين ومين يا مستمعين، عندك قرش بتسوى تنين، الأرض لأبونا وجايين ينهبونا، أهلا بالأحباب زمان هالوج الحلو ما بان، بتريد تعيش بأمان روح اسكن بالوديان".
وبعد الاستقلال غنى للجلاء والوحدة مع مصر، كما انتقد غلاء الأسعار والفقر والغنى، ولم يكن مجرد "مونولوجست" بل كانت كلماته مرآة عكست الواقع في سورية.
انتقاد الظواهر الاجتماعية
كان للنساء نصيب من مونولوجاته، حيث انتقد الملابس المكشوفة في مونولوج "بدي افهم هالسر هالستات بعز البرد مزلطين"، يقول فيه:
بدي تم احكي وكر حتى افهم شو هالسر
كل سر صار مفهوم بهالحياة بس شوه هالسر بهالستات
يا لطيف ما بعرف كيف الست حلوة كتير تعا تفرج كيف بصير إجريي بتصير تهز
وأدنيي بتصير توز
بحسلك قلبي بينط وريقي بيشف وبضيع من الدنيا وبشت
بس مشان الله قولولي شو الطريقة لهالحلوين
كذلك الأمر في مونولوجه الطريف" في غلطة بهالحياة " والذي أداه على المسرح ضمن برنامج "آدم وحواء"، ويقول فيه :
في غلطة بهالحياة وطعنة بحق الستات
ليش الست بنص عقل والعقل الكامل للخواجات
فتش بالمستشفيات فتش بالعصفوريات
فتش وشوف ضحايا هالستات
كم مجروح وكم قتيل
وكم محنون وكم هبيل
راحو ضحايا الستات
كما انتقد النكران بين الأصدقاء بعد تغير الأحوال في مونولوجه الشهير "كل الحق عالداية "، ويقول فيه:
من زمان صاحبت إنسان متلي ومتلو بالميزان
بس ساعدو شوي الزمان وبس جيبو صار مليان
الله وكيل إن شافني صار يبعد عني
وبس بدو يهرب مني قلت أكيد زعلان مني
يوم شوفت مارق بالسوق
ندهتلو يا صاحب ليش زعلان
ندهتلو تذكر يا صاحب نحنا إخوان
تذكر شو كيف كنا من زمان
بين الخبز والملح يلي أكلناه وبين العهد والوفا يلي حلفناه
تذكر يا صديق كنتلك أحسن رفيق وياما نشلتك من هالديق
سر الحكاية بس الحق ما عليك وما عليي كل الحق عالداية
تجارب متعددة
اعتزل الأغواني الغناء عام 1970، وتفرغ للإنتاج والذي لم يكن جديداً عليه، لأنه كان المنتج للكثير من أعماله الغنائية، في تجربة حاول فيها منافسة شركات إنتاج الأسطوانات واستقطاب المغنيين السوريين.
بعد "سلامة الأغواني" استمر هذا النمط من الغناء النقدي الساخر بتجربة فنية غنية للفنان الراحل "رفيق سبيعي"، والتي استخدم فيها شخصية الفنان الشعبي "أبو صياح" بمونولوجات نقدية، عبر تجربة غنائية مميزة حافظ فيها على القالب الغنائي للمنولوج. وهناك أيضاً المونولوج الشهير للراحل عبد اللطيف فتحي "راح يجننوني"، لكنه لم يعقبها بتجارب أخرى رغم نجاحها.
وظهر المونولوجست "محمد خير الكيلاني" في السبعينيات، وقدم حوالي تسع "مونولوجات" بألحان وكلمات خاصة به، منها مونولوج:" قال الدنيا بتتطور" ومونولوج "مصيبة كبيرة "والذي تحدث فيه عن الزواج وعواقبه.
ومع بداية هذا القرن ظهرت تجارب فردية متفرقة للمونولوج، يمكن اعتبارها تطوير لهاذا الفن من ناحية التوزيع الموسيقي والمواضيع كتجربة الفنان "رياض مرعلشي"، ومن مونولوجاته "حبايبنا" والذي تحدث فيه عن نكران العلاقات، كذلك غنى ضمن مشاركته في مهرجان "كاريكاتور لإحياء الاغنية الناقدة" عام 2016 في دار الأوبرا مونولوج "عم نفكر" ومونولوج "لا تسأل كيف لماذا".
"فشة خلق"
وتأتي تجربة الفنان "محمد خير الجراح" كلفتة مميزة لإحياء هذا الفن، فهي كما سماها في إحدى مقابلاته "فشة خلق"، ويقوم الفنان الجراح بإنتاج مونولوجاته ضمن قالب تمثيلي غنائي بمشاركة فرقة استعراضية، طارحاً موضوعات متجددة، منها مونولوجات "الجو العام، غربلنا، وعد رجل".
أما في مونولوج "بلوك" فقدم فيه مزاوجة لطيفة استخدم فيها أسماء وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة بقالب "مونولوج فكاهي ساخر"، يقول فيه: "عبروفايلك عملو بلوك، كانو يقولو بيحبوك، تركوك لوحدك خلوك، ولا كتبولك على مسنجر ولا على تويتر ولا فيسبوك".
يتحدث الفنان محمد خير الجراح لـ "مدونة الموسيقا" عن رؤيته لمستقبل وواقع المونولوج السوري، مشيراً إلى أن المُستمع يتعرض اليوم إلى كم هائل من الأغاني، التي تعتبر خارج السوية اللائقة، موضحاً أنه في السابق لم يكن يُسمح لأحد بالغناء قبل أن يمر بعدة مراحل، تعتبر فلترة للصوت، والأمثلة عن ذلك كثيرة. وينجر الأمر للـ "مونولوجات" التي كانت تُقدم سابقاً، فكانت تمر عبر مجموعة من الفلاتر.
ويتابع قائلاً: «بسبب ضغط السوشل ميديا أصبح اليوم بإمكان أي أحد ودون أن يسمعه أحد من الموسيقيين أو المعنيين بالرقابة على الكلام ونوعية الجملة الموسيقية واللحن، أن يقوم بإنشاء قناة على "اليوتيوب" وحساب على "التيك توك" و"الانستغرام"، ليتم تسويق الأغاني، ثم يُعتمد مبدأ التكريس المستمر، حتى أن هناك إذاعات خاصة تتقاضى مالاً مقابل تسويق هذه الأغاني، بمعزل عن السوية الفنية، ورغم ذلك يبقى هناك استثناءات، لكنها قليلة».
المونولوج والحياة اليومية
عن امكانية أن يلعب "مونولوج" دوراً حقيقاً كحاله في الماضي، خاصة بعد غياب رواده الأوائل، يقول الفنان "محمد خير الجراح" لـ "مدونة الموسيقا": «أعتقد أنه بات ضرورة حقيقية، فنحن نطرح عبر "المونولوج" قضايا لها علاقة بالحياة اليومية، خاصة عبر الأغاني التي أنتجتها شخصياً أو مع مجموعة من الموسيقيين وكتاب الأغنية المهمين، داخل سورية أو خارجها. ومما لا شك فيه أن أي "مونولوج" ينبع من أشكال الحياة اليومية، كلها "مونولوجات" مهمة ولا أستطيع التمايز فيما بينها، وربما كان هنالك كثافة أكبر في "مصر"، بسبب المساحة الواسعة التي تتمتع بها سواء من حيث حجم الإنتاج أو عدد المتلقين».
ويتابع: «بالنسبة لي هناك أكثر من نموذج أعتبره مثالاً في عالم "المونولوج"، من حيث الموضوعات والشكل الفني المرحوم "إسماعيل ياسين" والراحلة "ثريا حلمي". وفي لبنان لم ينقطع "المونولوج"، وأطلق على شكل أغنية اجتماعية ذات موضوع طريف ساخر، وذلك لفترة قريبة جداً، وحتى بعد رحيل "فلمون وهبي" و "فريال كريم"، فكان هناك "زياد الرحباني" مع الراحل "جوزيف صقر"، حيث تم تقديم مجموعة هامة جداً من الأغاني. وفي سورية للـ "مونولوجات" طريقتها في تناول الموضوعات وشكلها المحلي، ولا أستطيع القول هذا أفضل أو ذاك، فكل منتج فني يحمل خصوصيته، فكلما كان أصيلاً كلما كان بإمكانه تجاوز الحدود والوصول إلى الآخر».
النقد اللاذع الفكاهي
حول المونولوج السوري وآفاقه يقول الموسيقي "كمال سكيكر" في حديثه لـ "مدونة الموسيقا": «طغت الفكرة النقدية اللاذعة والفكاهية على المونولوج السوري بشكل عام، ونستطيع القول أن رائد المونولوج السوري "السياسي والنقدي" هو الراحل الكبير "سلامة الأغواني"، الذي تمكّن من التأثير على الجماهير الذي حفظ كل ما قدمه من أعمال غنائية ناقدة وساخرة، لأنه عبّر عن مشاعر الناس وعواطفهم وكرههم للمستعمر الفرنسي، فغنى مونولوجه الشهير "يا جراد" ثم مونولوج "الجلاء" في أفراح وأعياد الجلاء».
ويشير إلى أن "الأغواني" تابع رسالته الفنية من خلال مونولوجاته الانتقادية والسياسية للعهد الوطني، فغنى مونولوج "شو سبب غلا هالأسعار" منتقداً الوضع الاقتصادي، ومما قدمه أيضاً "كيف ما مشيت، المال، كذابين". كما غنى للعمال في عيدهم "ذكرى أيار"، وللجيش العربي السورية مونولوج "أخي الجندي"، وإضافة إلى الكثير من المونولوجات في عدة مناسبات.
ويضيف "سكيكر": «المونولوج السوري مرآة الواقع بعين وقلب المؤلف، فقد ابتعد المؤلف السوري عن "المونولوج" الغنائي ومواضيعه في الحب والوصف، واختار النمط النقدي والفكاهي لتأثيره على المجتمع، مما يدل على انصهار المؤلف بمجتمعه، ومحاولته حل المشكلات المجتمعية بطريقة فنية ساخرة».