ذاتَ مساء كتبَ عبقري الكلمة جبران خليل جبران "الشعرُ تنظيمٌ موسيقيٌّ للكلام، فإذا سمعَتْه الأذنُ شعرتْ بالطرب الذي تشعر به حينَ تسمع الموسيقا"، ومن عادتنا أنْ نتحدَّث عن موسيقا الشعر، وليس شعر الموسيقا، على أن الموسيقا بقوانينها وقواعدها تكون هي المتحكِّمة في اللغة الشعرية. وعلى ذلك فإنَّ الشاعر لا يكون مُبدعاً إلا إذا كان مُلمًّا بأسرارِ اللحن الشعري والنغم الموسيقي. وإذا غُنيّ الشعر دُعي بالزجل.
علاقة الموسيقا بالزجل
عن علاقة الموسيقا بالشعر الزجلي أو الشعر المحكي المُغنى، وما هي "العتابا" كونها من أشهر أنواع الغناء، وهل تعدُّ نوعاً من أنواع الشعر المحكي أو الزجلي؟ وهل الموشَّح هو حالة متقدِّمة من هذا الشعر المحكي أو الزجلي؟ أسئلةٌ طرحناها على الشاعر "عبد الله خبازة"؛ مؤسِّس "أول فرقةٍ" للشّعر الزجلي في سوريّة عام "1964"، والتي مارستْ نشاطَها تلفزيونياً وإذاعياً حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وشاركتْ في العديد من المهرجانات، داخلَ وخارجَ سورية.
هو عضو في الموسوعة الكبرى للشّعر العربي، ولُقّب بـ "امبراطور الذاكرة"؛ لأنّه يلقي ملاحمه عن ظهر قلب لآلاف الأبيات الشعرية. وله العديدُ من الدواوينِ والمؤلفاتِ النثريّةِ، ومؤلفاتٌ ملحميّةٌ بـ "الفصحى" و"المحكيّة" و"اللغة الحيّة".
بداية الحديث كانتْ من تعريف "الشعر الزجلي"، يقول: «تسمية هذا النوع من الأدب "الشعر الزجلي" غير صحيحة، وتسميتُه الصحيحة "الشعر المحكي"، فكلمةُ "زجل" تعني "غناء الشعر ورفع الصوت والتطريب به"، ولا علاقة لها بكينونةِ هذا النوع من الشعر، علماً أنَّه موزون موسيقياً وله أبحر عددها "13" وزناً تُحدد أوزانه والحجم الموسيقي لعباراته. وعن تسمية "الشعر الزجلي" فقد أتت من خلال الجوقات الزجلية اللبنانية التي يغني شعراؤها هذا النوع من الأدب».
حاضنةٌ للموروث الشعبي
وعن أهميِّة الشعر الزجلي كحاضنةٍ للموروثِ الشعبيِّ، يقول: «مما لا شكَّ فيه أنَّ الشعر بالمحصِّلة هو فكر، والفكر يتناول قضايا الحياة الواقعية والخيالية. وبالتالي، عبارةُ "الموروث الشعبيّ" تأتي في هذا السياق، فالشعرُ بكل أنواعه يمثِّل فكر المجتمع وتطلعاته، وهكذا يكون هذا النوع من الأدب المحكي متفاعلاً مع الموروث الشعبي وينقله بشكل طبيعي؛ لأنَّه ينهل من مَعِين ذلك الموروث».
ويطرح الشاعر "عبد الله خبازة" عن ذلك مثالاً، حيثُ سُئِل أحد شعراء المحكية حينما كان مقيماً في كوخ بسيط يدلُّ على ضعف إمكانياته المادية، كيف تقيم بهذا الكوخ وأنت شاعرٌ مشهور وتستحقُّ كلَّ رفاهية؟ فأجاب بردّة على وزن "القرّادي"، هي:
قالولي مستأجر كوخ؟؟ قلتلن صحّ ورسمي!!
لولا فيّي مسّح جوخ سجّلت الكوخ باسمي!!
ويشير إلى أنَّ المثال يوضح أنَّ شعراء الزجل يعكسون بشعرهم ما يعيشونه في تفاصيل الحياة اليوميّة، «وما الموروث الشعبي إلا تراكمٌ لتلك التفاصيل». كما يؤكد ارتباط "الشعر المحكي" مع البيئة المحيطة به، وكما قيل "الشعر ديوان العرب"، وهو بذلك مرآةٌ تعكس واقع الحياة بكل مندرجاتها وتفاصيلها.
"العتابا" والإيقاع الموسيقي
حول سؤال إن كانتْ "العتابا" تُعدُّ نوعاً من أنواع الشعر "المحكي" أو "الزجلي"؟ يجيب في حديثه لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «"العتابا" نوعٌ من أنواع الشعر المحكي، وهي على "البحر البسيط" من أبحر الشعر المحكي، وعلى "البحر الوافر" من أبحر الشعر الفصيح. وتعتمد "العتابا" على الجِناس اللفظي حيث تُلفظ الكلمة نفسها مراتٍ ثلاثاً، وبكلِّ مرة تحمل معنى مختلفاً، وهنا جوهر الإيقاع الموسيقي. وفي سياق الشعر المحكي تعتمد على اللفظ الصوتي للكلمات». ويطرح عن ذلك أمثلة:
فيما يلي بيتُ من أبيات "العتابا" بالفصحى:
ثريّا بالحمى حطت وحلّت أنارت بالسّنا الدّنيا وحلّت
إزار الوجه لوْ زاحت وحلّت ترى بدر الدجى خلف الحجاب!!
وفيما يلي بيت "عتابا" من تأليفه باللغة المحكية، يوضّح أهميَّة اللفظ الصوتي:
بعد ما في هواها شربكتني رشقني الجفن نبلة شر بكَتني
ارتميت ودم جرحي شرّ بكتني إجت دمعة ع شق الجرح طاب!!
ومثال آخر عن "العتابا":
ببلاد الحب بكاني وداعك وكنت فيك الهوى عارك وداعك
يا ولفي شوف محسوبك وداعيك صبور على المآسي والصعاب!!
"الموشح" بين المحكي والزجل
وفيما يتعلَّق بـ "الموشَّح" وإن كان يُعدُّ حالة متقدِّمة من الشعر "المحكي" أو الزجلي"، يقول: «وصلنا الموشح من "الأندلس"، فقد تفنّن الأندلسيون في العزف والغناء، وأَحدثتْ مدرسة "إبراهيم الموصلي" وولده "إسحاق الموصلي" و"إبراهيم بن المهدي" ثورةً حقيقيةً في مجال الغناء والموسيقا. ونقل "زرياب" إلى "الأندلس" فنون الموسيقا وضروب الغناء، وامتاز بتفرّده فيهما زمن الخليفة "عبد الرحمن الثاني". واشتهرتِ "الأندلس" بفن "الموشحات" الذي ظهر بسبب انتشار الغناء، وتطوّر الآلات الموسيقية، وخاصَّة على يد "زرياب". ثمَّ عَرفتِ "الأندلس" فن "الزجل" باللغة العامية. و"الموشح" هو أحد الأوزان المحددة بأبحر الشعر الزجلي المحكي، ويستعمل بالحفلات الزجلية الغنائية لتحريك الجمهور». وفيما يلي نموذجٌ عنه:
يمكنْ إتناسى حبّي وبعهودك خون
لمّا بتشفق عالحبّة حجار الطاحون!!
الزجل والمقامات الموسيقية
يؤكد الشاعر "عبد الله خبازة" أنَّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين المقامات الموسيقية والشعر الزجلي، موضحاً أنَّ الموسيقا عنصرٌ جوهريٌّ في الشعر "لا قوامَ له بدونها وهي أقوى العناصر الإيحائية فيه" حتى قيلَ إنَّ الشعر موسيقا ذات أفكارٍ، ويُكمل قائلاً:
«موسيقا الشعر ترجع أساساً إلى الوزن والقافية، إذ ينشأ عنهما وحدةُ النغم والإيقاع، "المراد بالنغم الوزن الذي تسير عليه القصيدة" و"المراد بالإيقاع وحدة هذا النغم أي التفعيلة". فالوزنُ "البحر" الذي تسير عليه القصيدة يوفر لها توازناً في جميع العناصر الموسيقيّة عن طريق نظام مُحكَم في التفاعيل والحركات والسكنات، فتكونُ تموجّات النغم منتظمةً متسلسلةً ليس فيها اضطرابٌ ولا نشاز، وتمضي محتفظة بالرنين نفسه إلى نهاية القصيدة، فكأنَّنا نستمع إلى موسيقا منتظمة في اهتزازاتها وموجاتها الصوتية، يضاف إلى ذلك أنَّ انسجام الألفاظ بعضها مع بعض، ودقّة اجتماعها بعضها إلى بعض، يمنحها قوَّةً ذاتيةً ويجعل لها من الإيحاء والتأثير ما لا يكون لها في الكلام غير الموزون».
ويتابع: «إنَّنا نتأثر بالموسيقا ونستجيب لها، فالشعرُ تنظيم موسيقي للكلام، وإذا سمعته الأذن شعرت بالطرب الذي تشعر به حين تسمع الموسيقا، أمَّا القافيةُ فهي توضيح للإيقاع، وتكرارُها يزيد وحدة النغم ظهوراً في الأذن، فهي تثبيتٌ للوزن بضرباتها المنتظمة، والقافية هي اتحاد أواخر الأبيات في الحروف والحركات. لكن لا بدَّ من الإشارة إلى نقطة في غاية الأهميّة، وهي أن المقامات الموسيقيّة كالألحان لها علاقة بغناء الشعر الزجلي وليس بكينونة الشعر، وذلك حسب موهبة وإحساس الشاعر موسيقياً وصوتاً وأداءً!!
جمال الصوت في غناء الشعر
عن القيمة المضافة التي يعطيها أداءُ وجمالُ صوت الشاعر والموسيقا المرافقة له بمعرض غناء هذا الشعر، يبيّن الشاعر "عبد الله خبازة" أنَّ القيمة المُضافة عالية، وتزيد من جمالية هذا النوع من الشعر وتأثيره بالجمهور إلى حدٍّ كبير، وتعتمد على جمال الصوت وجودة الإلقاء والإيقاع الموسيقي للقصيدة، ويستشهد بما قاله "الجاحظ" في القرن الثامن الميلادي بكتابه "البيان والتبيين": "كثيراً ما يكون الصرف والنحو هو السبب في تثقيل المعنى وفقدان المتعة في النصوص" وفي مكان آخر يقول: "بأيّة لغة بلغت الإفهام فهذا هو البيان"، وأيضاً قال "معايير قوة وجودة الشعر تنحصر بمدى تأثيره بالمتلقي".
ويشير إلى أنَّ هذا الرأي هو رأي عبقري الشرق "جبران خليل جبران" أيضاً، حين تحدَّث في نيويورك عام "1922" وكان رئيساً للرابطة القلمية، وأكد أهمية الصوت والنغم في الشعر حين قال: "إن اللغة هي أصوات، وهي رهن خيال وصوت ولسان الشاعر".
الآلات الموسيقية والزجل
حول الآلات الموسيقيّة التي يُفضّل أنْ ترافق الشاعر الزجلي بغناء الشعر لتعمّق من أثر الصوت، يقول: «الآلات الموسيقية المفضَّلة هي الشرقية وخاصة "العود" و"القانون"، وآلات الإيقاع وخاصة "الرقّ، الدفّ، الدربكة"؛ لأنَّها تمثّل روح وطرب الشرق بكل أبعادها وإيقاعاتها، ونشير إلى أنّه دخلت حالياً الآلات الموسيقية الغربية على الحفلات فشوّهت السمات الشرقية الأصيلة غير المنسجمة بصفاء مع هوية الشرق».
ولفت في ختام حديثه لـ "مدونة الموسيقا" إلى أن المشهد الشعري يكتمل نجاحُه في هذا المجال، بتوفر "اللغة الشعرية المناسبة" و"الانتظام الفكري الدقيق" و"الصوت والأداء المنبري المتميّز"، ولا بدَّ من اجتماع الموهبة والثقافة الفكريّة والتجربة المنبريّة اللازمة.