رغم تنوّع الثقافات وتسارع التغيّرات الفنية، يبقى إحياء الطرب الأصيل والمقامات العربية ضرورةً لصون الهوية الثقافية والموروث الموسيقي، وإعادة تقديمه وتوريثه للأجيال القادمة بأسلوب يحفظ أصالته ويبرز قيمته الفنية. ومن الأصوات البارزة والحاضرة اليوم على الساحة الفنية المطرب "وجيه الحافظ"، الذي حمل عبق الموشحات والمقامات الشرقية إلى الجمهور، موقظاً فينا شغف الطرب الأصيل، لامتلاكه خامة صوتية دافئة قادرة على أداء الفن الجميل بدقة وإحساس.

مسيرة البدايات

"وجيه الحافظ" مطرب من مدينة حمص مواليد عام "1971"، تم تعيينه مؤخراً رئيساً لنادي "دوحة الميماس" بحمص، هذا النادي الذي شكّل على مدى سنوات طويلة بيئةً حاضنة للطرب الأصيل ومنبراً لصون المقامات العربية بفضل نخبةٍ من الفنانين والأعضاء المنتسبين إليه، ليبقى منارةً للتراث الموسيقي الأصيل.

يتحدث عن انطلاقته الفنية الأولى لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «البداية كانت من المرحلة الابتدائية في المدرسة الغسانية الخاصة، كنتُ أعزف على آلة "الأكورديون" أثناء دروس الموسيقا وأغنّي مع الأطفال، ثمّ انتقلت إلى الإعدادية والثانوية وتابعت العزف والغناء وكان الطلاب ومدرّسة الموسيقا معجبون بصوتي، مما شجّعني على الانتساب إلى نادي "دوحة الميماس" عام 1992، ولازلت أعمل فيه حتى الآن للحفاظ على رسالته النبيلة والأصيلةً».

المطرب وجيه الحافظ

وحول دور الأساتذة الكبار في نادي "دوحة الميماس" وما قدموه له من خبرة، يقول: «تعلّمتُ على يد الراحل "برهان الصباغ" أصول الغناء الشرقي والإيقاعات الشرقية والغربية، كما علّمني العزف على العود وقراءة النوتة الموسيقية، وحفظتُ على يديه الكثير من الموشحات والأغاني الطربية على مدى ثلاثين عاماً، أخذتُ منه الكثير، وكان أستاذي وملاذي في كلّ شيء في الفن والموسيقا والحياة».

ويشير إلى أنه تتلمذ أيضاً على يد الراحل "بري العواني"، الذي كان له الفضل الكبير في تعليمه الموسيقا وكيفية التعامل مع الفرقة الموسيقية والعازفين والميكروفون والوقوف على المسرح.

المطرب وجيه الحافظ

دوحة الميماس

المطرب وجيه الحافظ

فيما يتعلق بأهداف نادي "دوحة الميماس" وما يقدمه من تراث وطرب عربي أصيل قال: «هدف النادي إحياء "التراث العربي" الموسيقي الكلاسيكي والموشحات والأدوار والأغاني الطربية الأصيلة الجميلة لـ "عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد المطلب وكارم محمود" وغيرهم من الفنانين الكبار، إضافة إلى "التراث السوري" والموشحات السورية لكتّاب وملحنين سوريين، وقد استلمتُ حالياً رئاسة نادي دوحة الميماس بالخبرة والتراكم والإخلاص، ولا أزال أقدّم خدماتي للنادي بعد أن رحل عنه كبار الفنانين وتركوه أمانةً على عاتقنا للحفاظ على التراث بعيداً عن الإيقاعات الحديثة التي ساعدت على تشويه الذائقة السورية لدى الجيل الجديد».

وتمنّى أن ينضم إلى نادي "دوحة الميماس" شباب جدد ليتم تعليمهم أصول قواعد الموسيقا ويكملوا المسيرة ويحافظوا على التراث الأصيل، فهناك العديد منهم يهتمون باللون الطربي ويدرسون الموسيقا ضمن معاهد أكاديمية منذ الطفولة، ويرى أنه من الضروري تعليم الصولفيج وقراءة النوتة الموسيقية والعزف على الآلات الشرقية ليتمكن الفنان من التحكم بأدواته في المستقبل، فالموسيقا مشوارها طويل وتحتاج طول بالٍ واهتماماً كبيراً.

وجيه الحافظ في حفل لنادي دوحة الميماس

يؤكد "الحافظ" أنه شارك في جميع حفلات فرقة نادي "دوحة الميماس"، وكان من المؤثرين في الفرقة بالغناء الفردي والجماعي، ويتابع: «شاركت أيضاً في العديد من حفلات مديرية ثقافة حمص، إضافةً إلى أسبوع ثقافي أُقيم في مديرية ثقافة إدلب وكنت ممثِلاً عن مدينتي فيها، ولاقت الحفلة إعجاب الجميع، وأتى منهم ممثلون عن مدينتهم وأقاموا حفلة في مديرية ثقافة حمص، وكان هذا الحدث جميلاً جداً بيننا».

الاجتهاد والنجاح

يلفت "وجيه الحافظ" إلى أهمية الاجتهاد، مشدداً على أن نجاحه كان بفضل ثقافته الموسيقية واحترامه للجمهور وللذائقة الفنية، فعندما يحترم الفنان الناس يكسب احترامهم ومحبّتهم، ويهتم بفنّه ويكون قادراً على التحكم بكافة أدواته الفنية.

وجيه الحافظ في حفل لنادي دوحة الميماس

وعن أدائه وإتقانه للمقامات الموسيقية، يقول: «أغنّي جميع المقامات وأعزفها أيضاً، إضافةً إلى إتقاني الإيقاعات لأنني تعلمتُ عزف العود وقراءة النوتة الموسيقية ولدي خبرة في ذلك، والأهم أن نؤدي الأغنية بشكل يليق بنا ونوصلها إلى الناس ضمن مقاييس الجمال بعيداً عن والمشكلات الفنية».

وحول أعماله الفنية الجديدة أوضح أنّه يحضّر لحفلات جديدة مع النادي، أمّا أعماله الخاصة فأصبحت قليلة خاصةً أن أغلب العازفين معه تركوا النادي إما بوفاة أو سفر خارج البلد، ورغم أنّه يستطيع أن يغنّي مع عازفين جدد، إلا أن التعامل معهم يختلف عن العازفين القدامى الذين يفهمون فنه، ويوجد بينهم تاريخ حافل بالثقافة الفنية، مما يجعلهم يقدمون عملاً جميلاً يليق بالجمهور الذوّاق.

جهاد الشرفلي قائد فرقة دوحة الميماس

ويشير إلى ان لديه أغنية خاصة سجّلها بصوته وكان سيقدّمها في مهرجان الأغنية السورية، ولكن أُلغي المهرجان حينها، وبقيت الأغنية دون تسجيل، وهي من كلمات الراحل عبد العزيز رسلان، وألحان الفنان والملحن راشد العواني، يقول: «لحّن "العواني" لنا الكثير من الأغاني التي كتبها كبار الشعراء على مستوى سوريا والوطن العربي، وأحاول الآن إعادة تقديم الأغاني الخاصة بي على المسرح إحياءً لذكراه».

ويتحدث "الحافظ" عن الصعوبات التي يعاني منها المطرب، موضحاً أنها تتعلّق بتكلفة الكلمة واللحن والاستديو، وكلّها تحتاج إلى وقت، ويتابع: «كما أنّ الذين سنتعاون معهم ينبغي أن يمتلكوا حرفية ومهنية عالية كي لا يتشوّه اللحن والكلمة، ونعاني في حمص من قلّة عدد الكتّاب والملحنين، أما الاستديوهات فليست بمستوى الاستديوهات في "الشام"، ومن جهتي أتمنى أن تكون الكلمات جميلة وألحنها بنفسي، ولكن حتى الآن لم أجد الفرصة المناسبة».

رائد العواني نائب رئيس نادي دوحة الميماس وعازف إيقاع

الغناء الطربي

حول اللون الغنائي الرائج على الساحة الفنية قال: «كلّ يوم يظهر لون جديد يسمعه الشباب، ولكن للأسف هناك تراجعٌ فنّي في الكلمة واللحن، وهذا الفن لا يستمر ولا يتماثل مع الفن الأصيل الذي نحييه ونذكّر الناس به، ويبقى على مدى سنوات بسبب رقيّ الكلمة والإيقاع واللحن الجميل، وفي النهاية لا يصحّ إلّا الصحيح".

ويرى "الحافظ" أن هناك الكثير من الأصوات الجميلة في حمص ولكن للأسف أكثرها لا يهتم بدراسة الموسيقا، وتمنى أن يكون الفنان مثقفاً موسيقياً، ليتمكّن من الصعود والهبوط بصوته، فالمطرب الذي يتقن العزف "خاصة على الآلات الشرقية" يكون بعيداً عن النشاز ويؤدي الموال والموشحات والقدود بشكل احترافي.

وعن حال الطرب الأصيل الآن، وإن كان لا يزال حاضراً، يقول: «لا يزال الطرب يحافظ على رونقه، ولكنّه يختلف عمّا قبل بسبب قلّة عدد الفنانين الذين يحافظون في حفلاتهم على غناء الطرب الأصيل والكلمة الجميلة». وحول كيفية الحفاظ على اللون الطربي، يقول: «نأخذ النوتة الأصلية للّحن وننفّذها بحذافيرها، وبالنسبة للموشح ينبغي ألا يتلاعب فيه الفنان، وأن يحافظ على اللحن الأساسي دون إضافات، مع إمكانية الارتجال في المواويل ضمن حدود اللحن الأساسي، وبحسب مساحة الصوت والعُرَب والإحساس».

الحضور المميز

قائد فرقة دوحة الميماس "جهاد الشرفلي" أشاد بالفنان "وجيه الحافظ"، وتحدث عنه قائلاً: «يتمتع بصوت جميل وحضور مميز على المسرح، تعرّفتُ عليه من خلال نادي "دوحة الميماس" منذ نحو ثلاثين عاماً، وعزفتُ معه في معظم الحفلات الخاصة التي كان يحييها، وهو مطرب "صولو" في الفرقة التراثية للنادي، التي تُعنى بإحياء التراث العربي، وشارك في فرقة النواة للأغنية البديلة التي كان يلحن لها الفنان راشد العواني».

وأوضح "الشرفلي" أن "الحافظ" يمتلك ثقافة موسيقية واسعة، ويجيد قراءة النوتة وغناء الدور والموشحات والأغاني الطربية، ويعزف على آلة العود، فضلاً عن إلمامه بالإيقاعات البسيطة والمركبة، مشيراً إلى أنه شخص محبوب ومخلص لفنه.

أما "رائد العواني" نائب رئيس نادي "دوحة الميماس" وعازف "إيقاع" على آلة "الرق" فتحدث قائلاً: «يُعدّ "الحافظ" من أبرز الأصوات في مدينة حمص، ولعب دوراً مهماً في إحياء التراث الموسيقي العربي الكلاسيكي من خلال نشاطه في نادي "دوحة الميماس" أحد أعرق النوادي الثقافية في سوريا منذ تأسيسه عام 1933، حيث انتسب إليه في تسعينيات القرن الماضي، وعمل مطرباً ضمن الكورال والفرقة الغنائية، ويقود جهوداً كبيرة للحفاظ على الموشحات والأدوار والأغاني الطربية الأصيلة».

وأضاف "العواني": «خلال مسيرته في النادي، عاصر عدداً من الفنانين البارزين في حمص مثل "محمد بري العواني، تمام العواني، برهان الصباغ، هشام الصوفي، سعيد السراج"، فاكتسب منهم خبرات واسعة في مجال الغناء، وهو لا يكتفي بالأداء، بل يحمل رؤية ثقافية تعتبر الفن رسالة إنسانية تُقدَّم بأسلوب يحترم الجذور ويُلامس وجدان الجمهور، مع اهتمام خاص بالكلمة واللحن».