مدينة "حلب" كمدينة للطرب ومركز ثقل رجال الغِناء و"السمّيعة" واعتبرت واحدة من أشهر مراكز الغناء العربي الأصيل
أخذت مدينة "حلب" صفتها ببراعة وجدارة كمدينة للطرب ومركز ثقل رجال الغِناء و"السمّيعة" واعتبرت واحدة من أشهر مراكز الغناء العربي الأصيل. أعطاها وساعدها موقعُها الجغرافي الهام منذ القدم ميزةً لتكون نقطة التقاء الحضارات ومركز اتصال بين الشرق والغرب، ومحط رِحال التجار والسياح من الدول المجاورة والشعوب المتنوعة.
"مدونة موسيقا" بحثت في أصالة وتراث الفن الحلبي ومكانة "السمعية" الحلبيين في السابق والزمن الحالي.
يقول التاريخ إن أهالي مدينة حلب اشتهروا بغناء وإحياء الموشحات والقدود والتواشيح الدينية والمولوية، وبرعوا فيها وقدموها للفن العربي كأحسن تقديم، واجتهدوا في الحفاظ على هذا الموروث الفني بقالب وطابع فني نظيف، ويعتبر الموشح من أهم التراث الفني الذين حافظوا عليه ومن أرقى المؤلفات الغنائية.
يقول عنه الدكتور "فؤاد رجائي آغا القلعة" في كتاب "كنوزنا": «انتقلت موسيقا الأندلس إلى المشرق عبر الموشحات لكنهم لم يغنّوها بطريقة نظْمها، بل اكتفوا بطريقة غنائها فقطعوا الإيقاع الموسيقي على الشعر والأزجال فجعلوا البيت الأول بمثابة قفل الموشح واسموه "دوراً" والثاني "خانة" وأطلقوا على البيت الأخير غطاءً».
ومنذ القرن التاسع عشر أصبحت حلب مركزاً للموسيقا وفنونها وموطن رجالها الذين نالوا شهرة كبيرة في سائر البلدان العربية، وكان المطربون العرب يشعرون برهبة الغناء فوق مسارحها وامام جمهورها خشية وقوعهم بزلّة فنية سريعة تُحسَبُ عليهم ولا يمكن غفرانها، ومن أهم أعلام الغناء في الأربعينيات برز اسم المطرب "محمد خيري" و"أحمد عقيل" الذي أشتهر بالغناء والموسيقا إلى جانب "توفيق صالح" و"كميل شمبير" و" بكري الكردي" و"فؤاد حسون" و"مجدي العقيلي" وعازف الكمان "سامي الشوا" وغيرهم كثر.
كما حضَرَ فنانوا "مِصر" إلى "حلب" للغناء ولاكتشاف طبيعة كنوزها الفنية، ومنهم "سيد درويش" و"صالح عبد الحي" و"محمد عبد الوهاب" و"سلامة حجازي".
وفي كتاب "حلبيّات" يقول الأستاذ الباحث "عبدالله يوركي حلاق" عن أهمية الطرب الحلبي وعراقته مقتبساً رأي المطربة الكبيرة "أم كلثوم": «أهل حلب لهم آذان موسيقية سليمة تميز النغمة الصحيحة من النشاز فهم فنيون بالفطرة يصغون إصغاءً تامّاً للصوت الرخيم واللحن الجميل والأداء المتقن».
أهل "حلب" سمعية بالفطرة!
منذ أربعينيات القرن الماضي كان الحاج "صبحي زين العابدين" يجمع نجوم الطرب الحلبي في منزله واستمر بذلك حتى وفاته في عام ألف وتسعمئة وواحد وسبعون، واشتهرت تلك السهرات -التي كانت تقام كل يوم سبت- باسم "السبتية"، وكانت عامرة بحضور كبار أهل الفن والطرب الحلبي أمثال "عمر البطش" و"بكري الكردي" الذي لحن أغنية "ابعتلي جواب وطمّني"، ثم استمرت هذه السهرات بمحتواها وقيمتها الفنية حتى أوائل الثمانينيات، لتابع ابنه "يحيى زين الدين" إقامة هذه "السبتيّات" حتى بعد وفاة والده، حيث كانت تقام صيفاً وشتاءاً، وتبدأ من الساعة التاسعة مساءاً وتمتد حتى موعد آذان الفجر، أما شتاءاً فتكون في غرف البيت العربي المغلق، وكان يصل الحضور أحياناً لحوالي الخمسين شخصاً، والضيافة الرسمية عادة ما تقتصر على كاسات الشاي، وكان يحضر تلك السهرات أعلام الطرب الحلبي مثل "صباح فخري" و"صبري مدلل" و"حمام خيري" و"حسن الحفار" و"نهاد نجار"و"أبو سلمو" و"أديب الدايخ" الذي برع بغناء القصائد... يرافقهم العازفون أمثال "محمد قدري دلال"، وعلى القانون الراحل "حسان تناري".
يجتمع المطربون والموسيقيون ليغنوا ويعزفوا بحضور "السمعية"، وكان لـ"السمّيع" الحلبي مواصفات محدودة: هي أن يمتلك أذناً موسيقية وفهماً للمقامات وأقسام المَغْنى الحلبي السبعة كلّها (القدّ، الطقوطة، الموشح، الدور، القصيدة، والأغنية، والارتجال)، ثم إنّ السميع ذو إحساس ومزاج عاليين، وكان يحضر تلك السهرات رجال الدين؛ مسلمون ومسيحيون وكبار تجار سوق المدنية وعدد من الأطباء والمهندسين والشعراء.
ومن أهم من كان يحضرها الطبيبُ الراحل الباحث الموسيقي "إحسان الشيط" وكذلك الطبيب "سمير أنطاكي" و"عامر شيخوني" و"رضوان حوكان، والدكتور"سعد الله أغا القلعة" و"منيب صائم الدهر" والأديب الراحل "عبد الله يوركي حلاق"، ومن السيدات "ندى بارزرباشي" و"أمية الزعيم"، ومن "دمشق" يحضر المحامي والباحث "نجاة قصاب حسن"، ومن "الرقة" الطبيب الأديب "عبد السلام العجيلي"... وكانت تسجل هذه السهرات على أشرطة كاسيت...فيما كان من أهم "السمعية" وذاع صيتهم: "فاتح أبو زيد" و"مهند علوان" والأخير كان أحد كبار التجار في "سوق المدينة" بحلب!.
شهادات وأقوال باحثين عن "السميعة"
"عبد الخالق قلعةجي" باحث موسيقي ومدير إذاعة حلب قال لـ"مدونة موسيقا": «لم تحظى مدينة في العالم على ما حظيت به "حلب" من اهتمام أدبي وموسيقي وتجاري وفكري... فهي منذ آلاف السنين كانت حاضنة للغناء والموسيقا من خلال مدرستها الفنيّة المتفردة والتي اشتهرت بها أنماطاً وابداعاً. فأنتَ عندما تكون في "حلب" يعني أنك مع فنان أو بحضرة روح فنان يجعلك تطربُ وتستمتع. ومع هذه الخصوصية أصحبت المدينة قبلة لكبار الفنانين المحلين والعرب ومحطة وجواز عبور إلى قبول الجمهور بهم، بعد أن تمنحهم شهادتها وقبولها ورضاها! ولا تزال الذاكرة حاضرة تسترجع قصة زيارة الموسيقار "محمد عبد الوهاب" لمدينة "حلب" وغناءه أمام ثلة من أعلام "حلب" وسمّيعة لا يتجاوز عددهم الخمسة، وقد أبدى عبد الوهاب استغرابه من ذلك متسائلاً "إن كان هذا هو جمهور حلب الذي سمِعَ عنه العجب"، ليأتيه الرد والحضور الحقيقي في اليوم الثاني حيث امتلأ المسرح عن بكرة أبيه بعد أن أجازَ "سمّعيةُ حلب" للضيف بالغناء!
ومن التفاصيل الطريفة عن "السمّيع"، بالإضافة إلى ما يجب أن يمتاز به من الاصغاء العميق، والدقة، والحكم القاسي، والتركيز على ما يقدم، وعدم قبول إلا السوية الفنية العالية...، هي كيف يبدأ بعدها بالتجارب مع الغناء ممسكاً للإيقاعات ومستمتعاً بالنغمات وتنقلاتها وقفلاتها لتنطلق بعدها الحناجر (زيد- عِيد- ما سمعنا- هلق جينا) مع حالة من السلطنة تأخذ السمّيع إلى أجواء بعيدة من النشوة والاستمتاع».
ويتابع الباحث "قلعةجي" عن سمعية حلب بـ"إنك تجدهم في صالة المسارح والأماكن التي تقام فيها الحفلات والبيوت الحلبية العتيقة والتي كانت تحيي السهرات التراثية على مدار الأسبوع وتسمى "الزوايا" و"التكايا". يذكر منهم "الحفار" و"الصيادي" وبيت "مشمشان" والهلالية المولوية في أحياء "حلب" القديمة التي جاءها الغيث فسقى العطاش خمرةً للروح ومالَ القلبُ فيها للجمال!"
أما الباحث الموسيقي "ماهر موقع" فصرّح لـ"مدونة موسيقا":«إن مفهوم "السميعة" بمدينة "حلب" مفهوم تاريخي قديم حيث كانت تهتم بالتراث الموسيقي من موشحات وقدود كانت في غالبيتها ذات طابع ديني نتيجة الزوايا والتكايا والتي كان يتردد عليها أغلب المواطنين، لينشأ جيل من المتعلمين لهذه القدود والتواشيح الدينية، تعلموا المقامات والأوزان والتمييز بين الصوت الجيد والرديء، ومن هنا نشأ تاريخياً في "حلب" ما يُعرَفُ بأن أهلها "سمّعية طرب مُرّين" وهم مَنْ اختصَّ وبرعَ بالقدود والموشحات وطوّرها من المعاني الدينية إلى العاطفيّة عندما "وضعوها على القدِّ تماماً" ووفق أنماطها الموسيقية القديمة لكن بمعاني جديدة».
ولأن "حلب" مركز تلاقي شعوب المنطقة وجسر تجاري يربط آسيا مع أوروبا، والشرق مع الغرب... اجتمعَ فيها التجار والشعراء والمطربون والموسيقيّون، وخُلق فيها أجيال من أهلها تستطيع التمييز بين الأدوار والمقامات والموشحات وبالتالي كان الحلبي "سمّيعاً" بالفطرة. يتابعُ الباحث "موقع": "فحتى بائع الخضار في حلب يُروّج لبضاعته بأنغامٍ ومقاماتٍ تُطرِبُ السامعين، بل يُرفَعُ الآذان بعدة مقامات لا يختل فيها الوزن الموسيقي أبداً، وهناك بفي حلب جلساتٌ طربيّة تسمى "صبحية" و"عَصريّة" و"مَسْويّة" بالبساتين والمقاهي أيضاً".