كيف بدأ تأليف شارات المسلسلات الدرامية وكيف تحولت من جزء لصيق بالمسلسل إلى أغاني منفردة يرددها الجمهور بعيداً عن العمل الدرامي

قرأتُ تعليقاً على موقع "فيس بوك" من قبل أحد المتابعين في شهر رمضان الفائت يفيد بأن صاحبه لا يتابع مسلسلاً بعينه، هو فقط يستمع إلى شارته الموسيقية ثم يقلب القناة. كيف لا والشارة تشكل المفتاح البصري والموسيقي للعمل، وكثير من الشارات ترك بصمةً خاصةً عند الجمهور المحلي والعربي منذ بدايات صناعة الأعمال الدرامية.

تطور أم تغير!

وضع الملحن السوري الراحل "عبد الفتاح سكر" في شارة مسلسل "صحّ النوم" بصمة إبداعية موسيقية بتقديمه فكرة رئيسية واحدة مؤلفة من كلمتين وصاغ منهما جملة موسيقية كاملة ما زالت تعيش بيننا وستخلد في الذاكرة، كذلك الملحن الراحل "إبراهيم جودت" في "أسعد الوراق"، و"حارة القصر" عام 1970 هكذا يبدأ المخرج الإبداعي "محمد الجزائري" حديثه لـ"مدونة موسيقا" عن الشارات الموسيقية مبيناً أن الأغنية أتت بعد مقدمة قصيرة تُلقى فيها أبيات من الشعر، بينما كانت باقي الدول العربية تعتمد في الغالب الموسيقى العالمية باستثناء ما قدمه الرحابنة من فن خالد في المسلسلات اللبنانية القديمة، فقد كانت تلك الفترة من القرن الماضي شاهدة على تألق الدراما السورية وانتشار الموسيقى التصويرية والشارات عربياً.

رضوان نصري

تراجع إنتاجي

محمد جزائري

ويوضح "الجزائري" أن الشارات الموسيقية تطورت بخطى إبداعية متميزة مع ازدياد ضخامة الحركة الإنتاجية للدراما السورية في العقود الماضية وتراجع الحيز الموسيقي والغنائي المنفرد، فأصبحت منفذاً للملحّنين والمغنّين لتسويق أعمالهم، كما حازت الفئة الشبابية على الحصة الأكبر فانتقلت إلى مستوى جماهيري آخر بدايتها كانت مع شارة مسلسل "شوفوا الناس" و"مرايا"، ولعل أحد أبرز الشارات الغنائية السورية هي شارة مسلسلات "نهاية رجل شجاع"، "بقعة ضوء"، "الندم"، "أهل الغرام"، "ضيعة ضايعة"، "عيلة خمس نجوم"، "أحلام أبو الهنا" وغيرها، أما اليوم -بحسب اعتقاده- باتت إلى تراجع وتخبط إنتاجي واضح يعود إلى غياب كوادر كانت قادرة على رفع السقف الإبداعي أكثر بالإضافة إلى ضعف التسويق أو تقليص الميزانية الخاصة بـ"التيتر".

وفي قراءة لما يتم عرضه عبر الفضائيات يمكن لنا أن نلاحظ حرص المخرجين على جذب مطرب معين أو موزع للشارة الموسيقية وذلك حسب "الجزائري" لا يكون من قبل المخرجين فقط بل هو إصرار مشترك بين المنتج والمخرج ونجوم العمل لتقديم مستوى جديد للمسلسل التلفزيوني وتسويقه لتحقيق جماهيرية فيتنافسون على حيازة أفضل كلمات ومقطوعات موسيقية تعبّر عن مضمون العمل حتى بات البعض يقدمها على شكل أغنية منفردة تُصوَّر على طريقة "كليب" يضم عدداً من مشاهد المسلسل كأسلوب ترويجي للأغنية والعمل في آن واحد.

وعند سؤالنا له حول الشارة التي لفتته في الموسم الرمضاني الفائت قال: «بصراحة لم تلفتني أي شارة هذا العام مع كامل احترامي للجهود المبذولة في وقتنا الحالي الصعب، بالرغم من وجود محاولات لضخ درامي في الجسد الفني السوري، فما زالت خجولة غير مواكبه للـ"تريند" العربي والعالمي، إلا باستثناءات قليلة جداً».

مؤكداً أننا بحاجة لدراسة جدية حول أسباب حقيقة نجاح أو إخفاق الترويج الموسيقي والبصري للمسلسل التلفزيوني السوري خصوصاً في ظل التطور والاهتمام العربي بالمقدمة الخاصة بالمسلسل على الصعيد الموسيقي والبصري.

الشارة جزء من "هوية العمل"

وكأحد أفراد فريق العمل في مسلسل "الهيبة" يرد "الجزائري" عند سؤالنا له عن شارة المسلسل ودورها في تحقيق جماهيرته قائلاً: «لاشك أن الفنان "ناصيف زيتون" يتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة وأغانيه تحتل الصدارة وفي موقع منافسة قوي ومواكب للحالة الفنية الجديدة لذلك كانت أغنيتُه "مجبور" تأليف "علي المولى" تلحين "فضل سليمان" وغناؤه عنصراً من عناصر نجاح التسويق للعمل إضافة إلى عناصر أخرى تكاملت بدءاً من الكلمات، الألحان، الممثلين والأجواء البصرية التي وظفت بشكل متناسق مع بعضها، حيث حصدت الأغنية مليون مشاهدة فور طرحها على وسائل التواصل الاجتماعي لتتجاوز اليوم ال 84 مليون مشاهدة فأصبحت، مع الجهود الفنية الإبداعية البصرية المبذولة في الاستديو، هوية العمل الخاصة بمسلسل "الهيبة" والتي تتطور في كل جزء تبعاً لتطور الأحداث الدرامية».

دراما مشتركة وقدرة تسويقية

كان السبق بحسب اعتقاد "الجزائري" للمنتج الراحل "أديب خير" في صناعة النوع الجديد من الدراما المشتركة وخوض غمار النمط الجديد من الشارات الموسيقية تتمثل في تقديم صوت وألحان الفنان "مروان خوري" في مسلسل "لعبة الموت" كأول إنتاج عربي مشترك رفيع الصنعة.

ويقول: «توالت الشارات بين العديد من الأسماء اللامعة، وبدا تركيزها على صناعة الأفضل لصالح المسلسل، ولا ننسى القدرة التسويقية العريقة وصناعة النجوم في "لبنان" فكان لهذا البلد الشقيق الحصة الأكبر في رفع مستوى الشارات الموسيقية والتيترات الغنائية للمسلسلات بالاعتماد على أبرز نجوم الوطن العربي لتسويق الأعمال المشتركة، ولازلت أذكر أغنية الفنانة "كارول صقر" في مسلسل "كساندرا" وكيف أصبحت كلمات وألحان الشارة جزءاً من الهوية العربية الخاصة بمسلسل مكسيكي مدبلج وصل إلى الغالبية في الوطن العربي» .

لم تتطور ولكن تغيرت تقنياً وزمنياً!

لا يمكننا الحديث عن الشارات الموسيقية دون أن نسأل مؤلفيها وحول ذلك يرى المؤلف الموسيقي "رضوان نصري" في تصريح خاص أن الشارات الموسيقية قد لا تكون تطوّرت بل تغيرت لأن الحالة الدسمة التي كنا نتابعها في الشارات القديمة أصبحت حالياً معدومة فالتقنيات تطورت لكن الثقل الموسيقي الذي كان موجوداً في الماضي أكثر والدليل على ذلك أن الشارات الموسيقية تحولت إلى شارات غنائية توهّمَ المشاهدُ بأنها جيدة لكنها تعلقُ بالذهن لفترة قصيرة بينما كانت الشارات الموسيقية في الماضي تعلق لسنين في الذهن وهناك العديد من الأمثلة العربية والأجنبية على ذلك.

وسبب التغيير حسب "نصري" يعود إلى حالة الدراما القديمة التي تختلف عن ضآلة الدراما الحديثة ويقول: «قبل خمسة عشر عاماً كنا نصنع الدراما من خلال رواية أو مسرحية عالمية أو فكر غني يعود لكاتبه أما الشارة الموسيقية حالياً تتبع الدراما، وأبرز الشارات العالقة بذاكرتي منها موسيقا شارة "المال والبنون"، "رأفت الهجان"، "ليالي الحلمية"، والعالمية منها "قلب شجاع"».

ويكمل "نصري" الذي لحن وألف العديد من الشارات الموسيقية قائلاً: «الشارة الناجحة هي التي تلبس العمل وتقترب منه والتي عندما نسمعها نشعر بأنها تروي حكاية العمل دون لفظ أي حرف لكن الشارات الحالية غالباً بعيدة عن العمل منفردة بنفسها لا تشبه المضمون، وكلما كان المؤلف الموسيقي قريباً من الشارع كلما استطاع أن يقترب من الحالة البصرية فعندما يعرف ما يحبه الناس وما يكرهونه يصبح قادراً على التعبير عن هؤلاء بالموسيقا فتكون الحالة البصرية بالنسبة له بسيطة وعندها يستطيع التعبير عنها وعن روحانيتها بالموسيقا والآلات الموسيقية».

الشارة الأغنية "هرمونات تزول بسرعة"

والأغنية بحسب "نصري" ليست مثالاً أعلى لنجاح المسلسل، بل «غالباً هي خطأ، يجب أن تكون الشارة موسيقا فقط تعبر عما يدور من أحداث داخل هذا العمل، وعندما تكون غنائية لا يشترط أن تكون الشيء التقني المهم، لكن المنتجين يتسابقون لجعلها أغنية وذلك له علاقة بثقافة المنتج أو الشركة المنتجة، وهي هرمونات لا تلبث أن تضمحل بسرعة. بالمقابل هناك شارات غنائية ناجحة ويعود ذلك أيضاً لقيمة وثقافة المؤلف الموسيقي والمخرج والشركة المنتجة والرسالة المطلوب إيصالها للمشاهد. كمؤلف موسيقي عندما أريد أن أصنع شارة موسيقية يجب أن تكون الموسيقا وجودتها أولاً قبل المطرب الذي يكون مُكمّلاً لها».

الشارة مرتبطة مع الحالة البصرية

من جهته يشير الموسيقي "فراس هزيم" الذي شارك في العديد من الأعمال الدرامية والسينمائية مع المخرج "نجدت آنزور" إلى أن الحالة البصرية ترتبط بشكل أساسي مع الشارة الموسيقية وأن الشارة الناجحة هي التي توصل الإحساس للمشاهد وتؤثر به، وذلك يعود لجودة اللحن والكلمات، ويبين أن صناعة الشارة كصناعة الأغنية عندما تحقق معايير الذوق عند المتلقي يحفظها الكبار والصغار والأهم أن تكون بسيطة، فبعض الشارات تعتمد على الموسيقا فقط دون الغناء لكن يفضل بعض المنتجين اللجوء للأغاني كونها تجذب الجمهور أكثر.

معايير الشارة الناجحة

الشارة الموسيقية في العمل الدرامي كما ترى الإعلامية "منار مراد" المتابعة للدراما السورية لها معايير كي تحقق الهدف من تنفيذها، من أبرزها أن تتناسب الشارة كلاماً ولحناً وإيقاعاً مع الصورة والمشهد، أي أن تنسجم مع فحوى العمل، كلماتها سهلة الحفظ، بسيطة، ومسبوكة بمهارة، فسهولة حفظ الشارة لدى المتلقي يقربه لاشعورياً من العمل الدرامي ويحفز فضوله للمتابعة، بالإضافة إلى جودة الصوت المؤدي ومقدرته الفنية على أداء الشارة بطريقة درامية تضيف لها تألقاً وخصوصية، ومن الشارات التي لفتتها في رمضان شارة مسلسل "الكندوش"، كلمة ولحناً وأداءً، والمزج بين العامية والفصحى والانتقال المميز بينهما.

حالة إبداعية

وترى "مراد" أن الشارة حالة إبداعية بحد ذاتها، وربما تحقق نجاحاً أكبر من نجاح المسلسل نفسه، كمثال على ذلك الشارات التي نفذها المبدع "إياد الريماوي" والتي يشاركها الناس بينهم اليوم ويحتفظون بها في ملفاتهم الموسيقية، كما تذكر شارة مسلسل مازلت تستمع إليها حتى اليوم لأحد أجمل شعراء "سورية":

"كان يا ما كان، يا دهب رنان..

عامر قلب الناس وطيب..

ولو داق الحرمان"

بقيت هذه الكلمات بصوت شاعرها الذي أدمج ضمن الشارة في ذهني حتى اليوم ولما يزيد عن عقدين، بينما نسيت مضمون المسلسل وتفاصيله!