عن الألحان التي قدّمها "السريان" المسيحيون مستخدمين الأوزان الشعرية مع الآلات القديمة وكيف نشأت منها الموشحات الدينية "التراتيل السريانية"

صناعة الألحان الموسيقية قدّمها "السريان" المسيحيون متأثرين بشكل تام بأجدادهم القدامى مستخدمين فيها الأوزان الشعرية مع الآلات الطربية القديمة، ومنها نشأت الموشحات الدينية العظيمة "التراتيل السريانية" التي أيضاً نظمت بدورها الأشعار الأدبية التاريخية موضوعةً ضمن أوزان وقياسات مضبوطة ومتجددة على أيدي ناظمين مؤسسين وأساتذة منشدين لتأديتها في الكنائس لتنتشر بهدف حفظها وتعليمها بكل مكان في أرجاء العالم.

و"السريان" هم المكون الأساسي الأقدم من مكونات الحضارة السورية بمفهومها الجغرافي الواسع، خاصة قبل تواجدهم في بقاع مختلفة من العالم بعد حملة الإبادة التي استهدفتهم مع أخوتهم الأرمن والكلدان والآشوريين من قبل السلطنة العثمانية.

المايسترو شادي سروة

وعن خصائص الموسيقى السريانية بالعموم تحدّث الموسيقي والملحن "شادي سروة" في لقاء مع "مدونة موسيقا" أن الموسيقى السريانية هي ذاتها الموسيقى السورية وبالمبدأ تُقسّمُ الموسيقى السريانية إلى محورين أساسين هما: الأول من حيث النشأة والتاريخ، والثاني من حيث الغاية إن صح التعبير! ويتابع: نجد أن الموسيقى الدينية هي مجموعة الترانيم والألحان الموسيقية التي وضعت على الصلوات وتستخدم في الطقوس الدينية و"الليتورجيّة"، بينما الموسيقى الشعبية السريانية هي كمثيلاتها من موسيقى الشعوب وتعد مِن مقومات حياتهم وحضارتهم وهي غارقة في القدم وابنة هذه المنطقة من العالم، فالسريان هم الآراميون الذين سكنوا "سورية" الطبيعية وبلاد ما بين النهرين منذ آلاف السنين والذين اعتنقوا الديانة المسيحية فسُمّوا "سرياناً".

مقومات الألحان السريانية

أصبحت الترانيم والصلوات الملحنة من أساسيات الطقوس الكنيسة السريانية الأنطاكية يتابع "شادي سروة" حديثه وأفاد: «أن الآباء الأوائل وجدوا الألحان والتسابيح الروحية تؤدي إلى زيادة تفهم المعاني الكاملة وعذوبة الموسيقى تخفف أيضاً من وطأة التعب الروحي ومن الأسماء الهامة في مجال ادخال الألحان والأشعار إلى الطقوس الكنسية هو "مار أفارم" السرياني و"مار اسحاق" و"مار بالاي" و"مارسويريوس" الأنطاكي والعالم الدمشقي "قوريني بن منصور". فالقديس أفرام السرياني أسّس أولَ جوقة للترانيم لتصبح جزءاً هاماً من العناصر الليتورجية وليصبح لها دور عظيم في مواجهة الهرطقات الدينية في ذلك العصر عبر استخدامها للألحان الشعبية السريانية ووضع كلمات روحية صحيحة ليسهل تداولها ونقلها، ومن أهم خصائص الموسيقى السريانية ارتباط شِقّيها الديني والروحي مع الشق الشعبي، والتأثر الكبير بين الموسيقى الشعبية التي حملت روح المنطقة التي وجد فيها السريان وبين الموسيقا الدينية التي حملت روح المسيحيين الأوائل».

جوقة مار أفرام السرياني بقيادة المايسترو شادي سروة

ويضيف سروة: «يوجد الاختلافات في بعض التفاصيل اللحنية والمقامية بين الموسيقى السريانية غرب الفرات وبين شرقه، واعتمد السريان في موسيقى كنيستهم على نظام الألحان الثمانية كما فعل اليونانيون في كنيسة أنطاكيا "أوكتا ايكوس" يتم استخدام هذا النظام تحديداً في كامل السنة الطقسية أي من حيث المناسبات والاحتفالات الروحية ويتم تخصيص ألحان لهذا الأمر، واعتمد آباء الكنيسة السريانية الأوائل في اختيارهم للمقامات على أربع أركان هي: الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة. لكن الموروث السرياني الموسيقي لم ينظم دفعة واحدة بل هو تراكمي ومتوارث ومنقولٌ بالتواتر سمعاً ثم حفظاً. وللأسف هو موروث غير مدون موسيقياً إلا لبعض تجارب من الموسيقيين الهامين منهم الموسيقي السرياني السوري نوري اسكندر».

الموسيقى العربية والموسيقى السريانية

جميع الحضارات تأثرت وأثرت ببعضها البعض، يتابع المايسترو شادي سروة ويقول:«إن الكل أخذ من الكل وأعطى، والبعض اندثر بينما البعض ما زال حيّاً، والنعمة الحقيقية أن نكون شاهدين كأبناء هذا الشرق على الغنى والتنوع الكبير للحضارة والقيم الإنسانية ومنها الموسيقى، هنالك تشابه بين الموسيقتين في بعض الأحيان من جهة بعض المقامات والتركيب والأوزان اللحنية في حين تتفرد الموسيقى السريانية ببعض المقامات حيث اعتمد المؤدون السريان على "الكوما" وهو جزء أصغر من ربع العدّ الصوتي، وجعلهم ذلك يتميزون في بعض المقامات والأوزان اللحنية عن الموسيقى العربية، وانحصرت الموسيقى السريانية بالترانيم المرتلة والأغاني الشعبية البسيطة والأناشيد، بينما تنوعت الموسيقى العربية لتشمل قوالب منها "اللونغا" و"الكونشيرتو" كما تنوعت فيها القوالب الغنائية أيضاً لتشمل الموشحات والزجل والقصائد والمونولوج وغيرها من القوالب الأخرى».

تطور بطيء

المسار يتقدم ببطء في مجال تطور الموسيقى السريانية قياساً بالأنماط الموسيقية الأخرى حسب تعبير سروة «لأن السبب يعود لقلة أعداد الموسيقيين المحترفين المهتمين بالموسيقى السريانية من الناحية العلمية والأكاديمية إنْ كان من جهة البحث أو التدوين أو من جهة التأليف الموسيقي الجديد، وهنالك بعض التجارب في العقود السبع الأخيرة سواء من خلال انتاج بعض الألبومات لأغاني وأناشيد سريانية جديدة أو على مستوى الأبحاث فيها، وعلى هذا المستوى رعت البطريركية السريانية أعمال هامة في سورية، حيث كُلّفتُ شخصياً بتوزيع بعض الترانيم والصلوات السريانية أوركسترالياً بالتعاون مع موسيقيين سوريين، وقامت الفرقة السيمفونية الوطنية بمرافقة الجوقة مع مغنية السولو اللبنانية "عبير نعمة" بأدائها في حفل كبير بعنوان "سريانيات"، ويمكن القول إن سريانيات كانت التجربة الأولى في العالم لتوزيع الموسيقى السريانية أوركسترالياً وأدائها مع جوقة من ثمانين مرنّم. كما رعت البطريركية أيضاً حفل أقامته الجوقة في دار الأسد للثقافة والفنون بالتعاون مع الفرقة السيمفونية الوطنية والمؤلف السرياني "توماس" المقيم في النمسا الذي كتب ولأول مرة عملاً سيمفونياً كاملاً بعنوان "سيفو" تناول فيه أحداث الإبادة السريانية عام 1915 على يد العثمانيين. ومن الجهود الشخصية في هذا السياق هو ما أعملُ عليه حالياً هو تدوين وتوزيع الموسيقى وتسجيل "القداس الإلهي" بحسب الطقس السرياني الأنطاكي الأرثوذكسي الذي سيتم انجازه مع المهتمين بشأن الموروث السرياني اللامادي».

التراتيل السريانية اليوم

تستمر التراتيل السريانية كحالة حضارية ومتأثرة بالحضارة الحالية بل وأصبحت تنتشر بشكل أوسع وأفضل عما سبق كما قال المطران "موريس" من مدينة "الحسكة" وأفاد "أن الأجداد القدماء لم يمتلكوا تلك الوسائل ولم يحتاجوا من التقنيات التي ينعم بها الآن الجيل الحالي ورغم ذلك نظمت الألحان ونقلت جيلاً بعد جيل رغم كل التحديات التي مرت عبر العصور لأن التراتيل الدينية هي عالم روحي بحد ذاته، وهي الرابط بين السماء والأرض، وتربط الأرض بالسماء، والكنيسة السريانية هي الكنيسة السورية التي لا زلنا، بكل فخر، محافظين عليها هي واللغة الآرامية لغة السد المسيح عليه السلام".

أثرها العميق

التراتيل لها منافع عميقة وجديرة بالاهتمام وبالأخص عندما انصرفت الكنيسة بالصلاة في الأناشيد والتراتيل المتنوعة وأصبحت لها مدارس رائعة في الألحان السريانية لاحقاً، وبالأساس إن الموسيقى هي لغة الروح ومنبثقة من الطبيعة كما يفيد الفنان "اسكندر عزيز" في حديثه عن الوظيفة الروحية للترانيم السريانية ويضيف: «كل حركة بالكون له لحن متميز باختصاصه إنْ كان للفرح أو للحزن أو غير ذلك بما يتناسب بين اللحن والمعنى، وكذلك أيضاً بالنسبة الموسيقى الدينية لها مقام متميز مختلف عن كل أنواع الموسيقى الأخرى لأنها لغة تخاطب القلب الذي يخاطب الله ولا تعتمد على فلسفة أو طريقة استعمال اللحن، لأن كل لحن عاطفته خاصة الفطرية وبموجب هذا العاطفة تصدر الألحان التي توقظ العقل من السبات أو توقظ الانسان إذ لها مبادئ وتطلعات روحانية خالصة، والسريان شأنهم شأن سائر الشعوب الذين استعملوا الموسيقى، ولعلها المدرسة الأولى في تعليم الناس الترتيل وتقديم الآراء والأفكار، ولا غنى للصلاة بدون ترتيل، فهنالك قولٌ روحاني بما معناه "أن الذي يصلي؛ يصلي مرة، أما الذي يرتل فيصلّي مرتين" وكلما كانت أداء الموسيقى الدينية شجية كلما كان مقام الصلاة أرفع في الفكر السرياني المسيحي».