أعجب الإنسان منذ عهوده الأولى بالكثير من الأصوات التي كانت تصدر من الطبيعة أو حركة الأشياء التي تصل إلى أذنيه، فأراد الاحتفاظ بها والاستماع إليها لاحقاً في الوقت الذي يريده، لذا عمَدَ إلى اختراع الآلات التي تمنحه صوتاً يشبه إلى حدٍّ ما تلك الأصوات المحبّبة، من هنا كانت بداية اختراع الآلات الموسيقية.

تاريخُ الموسيقا

يقول البروفيسور فؤاد طوبال- الباحث في مجال الفنون وله اهتمامات بتاريخ الآلات الموسيقية، عن بدايات الموسيقا: "تعدّ الموسيقا إحدى أبرز الظواهر الثقافية للإنسان في مسيرته عبر التاريخ، وجسدت أقدم الآثار التاريخية في منطقتنا ملامحَ الموسيقا والرقص والغناء في تماثيل وجداريات ملونة، ويأتي الشرق العربي القديم كمناطق فنية مبكرة في العالم، ظهرت فيها الآلات الموسيقية بأنواعها المختلفة، وتأتي بلاد الشام -والتي تعد سورية مركزاً لها- في مقدمة الدول التي منحت الموسيقا أهمية ثقافية وفنية وحضارية، إذ جسدت المنحوتات والتصاوير المغنيات وآلات الموسيقا، ومنها (المزمار، الناي المزدوج، الطبلة الصغيرة.. إلخ)، وقد اهتم السوريون القدماء بالغناء والموسيقا، واستخدموهما في طقوس اجتماعية وثقافية ودينية".

ويتابع البروفيسور "طوبال" الحديث عن تاريخ الآلات الموسيقية: "اكتُشِفَ في إيبلا السورية نصبٌ تذكاريٌّ يعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، يتضمن الطبلة الكبيرة مع قارعين عليها، كأول تجسيد تاريخي للآلات الموسيقية، وبدأت نهضة موسيقية حاسمة مع الحضارة الفينيقية التي شاركت فيها كل من سورية كوطن أم، وإسبانيا مع دول أخرى من المتوسط كمنطقة انتشار ثقافي، ودُونت في أوغاريت أول نوتة موسيقية بالتاريخ، حسب الرُقيّم الذي تم اكتشافه فيها والذي يعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ويتضمن أنشودة العبادة، ونوتة موسيقية مرافقة مخصصة للابتهالات الدينية، كما انتشرت تصاوير الموسيقا في أعمال الفن السوري بشكل واسع ومتنوع في القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد في دورا أوروبوس، جسدت فيها نماذج عديدة من الآلات الموسيقية".

2

أما عن الفترة التي انتشر فيها الإسلام، فإن الموسيقا لم تقلَّ أهميتها عما سبقها من الأزمنة، يتابع البروفيسور "طوبال": "وعند مجيء الإسلام، أُعطيت الفنون السماعية مجالاً رحباً، ولاسيما في التأليف وتطوير الآلات الموسيقية وتعميمها وضمت القصور الأموية مشاهد الغناء والعزف على الآلات الموسيقية، ولم يقتصر التفاعل الفني بين سورية وإسبانيا على الفترة الفينيقية- البونية (البونية: مصطلح يشير إلى فترة الحروب بين روما وقرطاج) بل تجاوزها إلى الفترتين الرومانية والبيزنطية، ولكن التفاعل الأهم كان أيام الدولة العربية الأموية، التي شملت إسبانيا نفسها، ثم أصبحت الأندلس بوابة أوروبا ومنها انتقلت الآلات الموسيقية إلى أوروبا؛ وقد جسَّد الاستشراقُ جزءاً مهماً في كيفية الاستفادة من تلك الآلات ولاسيما ما جسدته لوحات الفنانين الإسبانيين".

أوّلُ نوتةٍ موسيقيّةٍ

وكان قد حدثنا الباحث الدكتور بسام جاموس- مدير الآثار السورية الأسبق، فقال: أول نوتة موسيقية في العالم هذا الرقيم واحد من 36 رقيماً مكتوباً بالحرف المسماري، وجدتها البعثة الفرنسية خلال التنقيبات الأثرية في "أوغاريت" أثناء موسم التنقيب لعام 1948، مؤرخة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد استناداً إلى الطبقة الأثرية التي وجدت فيها، وهذا الرقيم كان وحده سليماً تقريباً من بين كامل المجموعة، وأمكن قراءة الجزء الأكبر مما عليه، وهو اليوم محفوظ في متحف "دمشق" الوطني وتم ترقيمه "H6" أو "ح6" حيث الحرف"H ح" هو الحرف الأول من كلمة "حوري" وهي اللغة التي كتبت بها هذه الرُّقم، ونرى كيف تم تقسيم الرقيم إلى جزأين بواسطة خطين عرضيين محفورين فيه، يحوي الجزء الأعلى منهما عبارات شعرية تشكل نشيداً باللغة الحورية، تستمر كتابة كل خط منها على قفا الرقيم، وفي الجزء الأسفل ستة أسطر مدرج عليها كتابات مقطعية باللغة الأكّادية، وقد استغرق فك شيفرتها وقتاً طويلاً، وبدت هذه الشيفرة الجزء الأصعب في المهمة بسبب الغموض الذي اكتنف هذه الرموز؛ فهي عبارة عن أرقام وإشارات وفق متتالية على شكل عددٍ يتلوه رقم، تبين أنها تنويط موسيقي".

الدكتور فؤاد طوبال

وأول تفسير قام به العالم الأثري الفرنسي "عمانوئيل لاروش Laroush"، ونشره بالفرنسية في مجلة "أوغاريتكا"، وقد جاء في هذا التفسير أن الرقيم يحمل أنشودةً موجهة إلى الآلهة "نيكال" زوجة إله القمر، وأحد الآلهة المحليين في أوغاريت، وتقول كلماتها (الترجمة خُصصت لـ"مدونة وطن" حصرياً، وتنشر لأول مرة وتترجم عن الأصل الإنكليزي- من ترجمة الصحفي كمال شاهين):

"سأرمي عند قدمي الحق (أو قدمي عرشك المقدس) خاتم رصاص

سوف (أتطهر) وأتغير من (الخطيئة)

لم تعد الخطايا تغطيها، ولا حاجة أكثر إلى تغييرها

قلبي مطمئن بعد أن أوفيتُ نذري

سوف تعزني (مولاتي)

ستجعلني عزيزاً على قلبها، فنذري سيغطي ذنوبي

وسيحل "زيت السمسم" بدلاً مني

في حضرتك اسمحي لي

إنك تجعلين العاقر خصيبة

والحبوب تعلو صعوداً

إنها، الزوجة، التي ستحمل الأطفال إلى أبيهم

هي التي إلى حد الآن لم تُعط أطفالاً تحملهم.."

واكتشف الباحث السوري "راؤول فيتالي" السرَّ الذي استعصى على العالم اكتشافُه لعزف الترنيمة بطريقة صحيحة، فكانت كلمة "نيد قبلي" المكتوبة على الرقيم اسماً لمقام موسيقي "بابلي" يشبه مقام الكرد حالياً، إضافة إلى فهم روح كتابة الترنيمة نفسها على الرقيم، فبما أن هناك أرقاماً وأبعاداً مذكورة في الرقيم، وبما أن "اللغة الأكادية" لغة مقطعية لا تعرف الحرف المفرد، فقد استنتج الباحث "فيتالي" أنه يجب عزف جميع النوتات الواردة على الرقيم حسب الأبعاد الموجودة على الرقيم كل بُعدٍ بعدَ الآخر، وهذا يفسر سبب وجود الأرقام على الرقيم، وتوصل إلى أن كل مقطع صوتي هو عبارة عن وحدة إيقاعية وحدها، وكل ثلاث وحدات تشكل قياساً موسيقياً "بُعد" والزمن في لوحة التدوين مثل زمن موسيقا الفالس: (صول- لا- سي)، ويصبح لدينا بذلك موسيقا على السلم الثلاثي وهو أساس التنويط الذي وجد في "بابل" العراق (وليس السباعي) يتوافق فيها الكلام واللحن ولها مقدمة موسيقية وخاتمة.

وتكون خلاصة قراءة "فيتالي" كما يقول ابنه الأصغر "رامي فيتالي" هي التالية: "السطر الأول من النوتة هو مقدمة موسيقية من دون كلام، والأسطر الثاني والثالث والرابع والخامس من النوتة هي لحن للبيت الأول والثاني والثالث والرابع بالتسلسل للأنشودة، أما السطر السادس والأخير من النوتة فهو عبارة عن خاتمة موسيقية من دون كلام".

...................................