للموسيقى وقعُها الخاص في تغيير الإنسان من حال إلى حال، فهي تعدُّ علماً شاسعاً لا يستهان به في ظل مجموعة من العلوم والمعارف التي تحيط بالبشرية جمعاء، وتأتي مهمتها في تأهيل كل من يحتاج إلى تحقيق توازن وبناء شخصيته منذ الصغر إلى ما لا نهاية، كذلك لها مناحي علاجية تدعم الناس بمحاكاة الوعي واللاوعي عندهم بغية لتخفيف الآلام الجسدية والنفسية والاجتماعية.

الروحانية بالموسيقى

الموسيقى حياة وعلاج لأي مرض كما قال المؤرخون العرب في الحضارة الإسلامي –بحسب الباحث سامي أحمد موصلي في كتابه الموسيقى والعلاج الطبي-(1) والذين ساهموا في إدخال الموسيقى مثلما أدخلوا "الحِمية" في علاج الأمراض، ولو شئنا أن نعد الأطباء الموسيقيين والفلاسفة لاستغرقنا ذلك طويلاً، فالفارابي معروف في كتابه "الموسيقي الكبير" وابن سينا له تحليلات دقيقة في الموسيقى، و"إخوان الصفا" لهم اسهامات كبيرة في ذلك حيث كانوا يعتبرون أن الانفعال بالموسيقى يخضع للطبيعة الروحية للتأثير الصوتي للموسيقي، وهم يعتقدون بأنها صناعة تعمل باليدين فإن الهيولى الموضوعة فيها كلها روحية وهي نفوس المستمعين، فمن تلك النفحات والأصوات ما يحرك النفوس ومن الألحان والنغمات ما يُسكّنُ الغضب ويحل الأحقاد ويوقع الصلح ويكسب الرأفة والمحبة.

الموسيقى كمنهاج وتطبيق

مسؤولة مركز التوحد في منظمة آمال "باسمة شاهين" تقول: "منظمة آمال تستخدم منهاج الموسيقى كجزء من عملية تأهيل الطفل، والأنشطة الفنية بشكل عام هي خدمات مساندة في المنظمة، إذ لا يمكن أن تقدم إلا بشكل تتكيف به هذه الخدمات مع خصوصية كل طفل، فحصص الموسيقى هنا في المنظمة تكون من خلال الاستفادة من تقنيات الموسيقى بكافة جوانبها لتقوية نقاط القوة وتعزيزها عند الأطفال من خلال زيادة التركيز وتعزيز التواصل وتنمية حركات الأصابع، وتساعدهم أيضاً على الاسترخاء. وهذا لا يمنع أن هذه الأنشطة الفنية الموجودة في المنظمة بما فيها الموسيقى أن تلتقط جوانب الإبداع وتنمي المواهب عند البعض منهم كالعزف والغناء، ومنظمة آمال بدورها تقدم هذه الأنشطة لأنه من حق الطفل أن يتعلمها، وإنْ كان عنده موهبة فنية يمكن رصدها، ومن ثم تنميتها تدريجياً، وبالتالي قدمنا مناهج للخدمات المساندة عبر استخدام تقنيات الموسيقى بتأهيل الطفل في آمال إلى جانب تقديم الخدمات العلاجية الأساسية".

باسمة شاهين مديرة مركز التوحد في منظمة آمال لذوي الحاجات الخاصة ...

تأهيل الأطفال بالموسيقى

من اجواء التدريبات العلاجية (1)

تم العمل على تأهيل الأطفال عبر منظمة آمال عام 2015 بشكل كامل، ومنذ ذلك التاريخ حتى اللحظة كان الاهتمام حول تطوير العمل بالتدريج بحيث أصبح حالياً بشكل ومضمون مختلف تماماً عما سبق.

الأخصائيُّ والباحث من منظمة آمال "جمال عواد" يتابع حديثه لـ"مدونة موسيقا" ويقول: «إن الموسيقى تساهم عملياً في تخفيف الاضطراب والآلام عموماً عند كل البشر، لكن مهمة التعامل مع الأطفال في المنظمة تتطلب مسؤولية ودراية عميقة، لذلك يجب الانتباه إلى سلوكيات الطفل، والعمل على تنميته فكرياً، وأن يكون هنالك لغة مشتركة بين المعلم والطفل كالموسيقى التي هي بالأصل لغة جذب فعلية، فنجد أغلبية الأطفال هنا بالمنظمة يتفاعلون ضمن الجلسات الموسيقية ولديهم حافز قوي، وكل طفل له جانب خاص به في تفاعله الإيجابي خلال الحصة، وهذا أمر جيد. عموماً تحسَّنَ أداءُ معظم الأطفال تعليمياً، وحققوا ذلك بسهولة أهداف الخطة التربوية العامة، وبعضهم اتّجه بشكل مباشر للموسيقى وبدأ بتطوير مستواه في العزف على آلة البيانو، وهنالك أطفال تحفزت عندهم آليات إنتاج الكلام، وتحسن لديهم التواصل مع أقرانهم ومع المعلمين ومع الأهل، ومنهم أيضاً انخفضت عندهم الحركات النمطية المميزة لأطفال اضطراب طيف التوحد».

وأضاف عوّاد: «لكن العلاج بالموسيقى هو تخصص قائم بحد ذاته نجده عند الغرب وله تخصص علمي ويدرس بالجامعات لاسيما أنه مجال يختلف عن مجال التأهيل المتبع حالياً في منظمة آمال، وبموضوع العلاج بالتحديد نشأتْ عدة استراتيجيات أو مدارس يمكن الاستفادة منها في مجال المعالجة بالموسيقى منها (العلاج التحليلي بالموسيقى، طريقة بينبنزون في العلاج، العلاج السلوكي المعرفي بالموسيقى، العلاج المجتمعي بالموسيقى، مدرسة نوردوف وروبنس، الخيال الموجه والموسيقى، العلاج الصوتي النفسي) كما يستفيد العلاج بالموسيقى الأشخاص الذين يعانون من أمراض واضطرابات كثيرة منها: الزهايمر، القلق، الضغط النفسي، اضطراب طيف التوحّد، الألم المزمن، الاكتئاب، السكري، اضطرابات التواصل اللفظي وغير اللفظي، الاضطراب العاطفي وغيرها الكثير، تجدر الإشارة إلى أن العلاج بالموسيقى قد يكون في بعض الحالات علاج أساسياً، أو قد يكون علاجاً مساعداً، وهذا التنويع يكون في شدة درجة التدخل وذلك من حيث كثافة الجلسات ومدتها تبعاً لاحتياجات المستفيد أو المريض، لابد من الاشارة إلى فكرة في موضوع الموسيقى عموماً أنها نعمة في هذه الحياة، وقد تكون مضرة اذا استخدمناها في غير زمانها أو مكانها لأن ذلك يفتح المجال لاستخدامات ضارة وخبيثة تؤثر على أجيال كثيرة من البشر».

عملية التلقي والإبداع

الفنان والعازف "جوان قره جولي" تحدث من خلال تجربته في مجال تنمية الأطفال بالموسيقى عن الأساليب التي طبقها في هذا المجال، ومنها عندما يعمل المعالج المختص ضمن برنامج يناسب احتياجات الانسان من خلال التعاون على تحقيق عدة جلسات معينة تتراوح مدتها بين 30 و60 دقيقة، ومن الممكن أن تستمر الفترة من أسابيع إلى أشهر، ويضيف: «يبدأ المُعالِجُ بعزف بعض النوطات الموسيقية على آلته، ثم يطلب منك الانضمام أو الاستجابة بأي وسيلة مريحة، كانت ثم يقيس المعالج مدى الصحة النفسية والجسدية والعاطفية والعقلية عن طريق هذه الاستجابة، ومن خلالها ينطلق لخطة علاج، وممكن أن يعالج بواسطة عملية التلقي والإبداع إذ يعتمد مجال التلقي على الاستمتاع ليساعد الفرد على إزالة التوتر، والتعبير عما يشعر به، وعن تفاعلك من خلال الألحان، وفي مجال الابداع يمكن المشاركة من خلال الغناء أو بإصدار إيقاعات مختلفة أو حتى من خلال كتابة أغنية أو التعديل عليها، والعلاج بالموسيقى بصورة عامة آمِنٌ لكن قد تولّدُ الموسيقى الصاخبةُ انزعاجاً واضحاً في بعض الحالات، كذلك يمكن أن تترك موسيقى معينة ردَّ فعلٍ قويٍّ سواء كان سلبياً أم إيجابياً، حزيناً أم سعيداً...ويجب أن كون المُعالِجُ الموسيقي مُدرباً بشكل جيد للتعامل مع هذه الظروف».

اليوم أصبح العلاج بالموسيقى موجوداً كعلاج في الطب البديل، وأخذ الخبراء –كما يذكر الباحث الموصلي- يراجعون كل ممارسات استخدام الموسيقى، ومن ثم تأكدوا عبر الأبحاث بوجود التأثير الفيزيائي للموسيقى على الإنسان صحة ومرضاً، فالضوضاء الصوتية وأمراضها صارت معروفة في المجتمعات الصناعية نتيجة التقدم التكنولوجي، وهكذا أعيدت دراسة تأثير الموسيقى وإبداعات الموسيقيين في العلاج فإذا كان الإنسان القديم قد استخدم الموسيقى لطرد الأرواح الممرضة واستعان بالموسيقى في السحر وفي المعابد وفي المناسبات الحزينة والمفرحة، فلا بد أن يكون هناك حقيقة ما وراء هذا الصوت المنظم الغامض الذي لم تُعرف أسراره الكبيرة بعد، واليوم تعود لهذه الموسيقى قدرتها في العلاج الطبي فدخلت الى الطب حتى في العمليات الجراحية والتخدير ولعلاج الكثير من الأمراض النفسية والجسدية على السواء.