من الأهمية بمكان نفض الغبار عمّا هو منسي وغير معروف من تراثنا الموسيقي والغنائي، والسعي إلى الذهاب أبعد من ذلك عبر العمل الحثيث بحثاً عن كنوزه غير المدّونة ونبشها من مكامنها لتظهر إلى النور حفاظاً عليها من الضياع. ولكن كيف ينبغي التعاطي مع التراث الموسيقي الذي طالما تغنينا به؟ هل يُقدم كما هو مع الحفاظ عليه دون أي تغيير أم يُقدم بحلة جديدة معاصرة ضمن إطار التطوير والتحديث؟.

نواظم النهل من التراث

مما لا شك فيه أن التراث نبع لا ينضب من الإبداع ومنهل ثر للكثيرين، لكنه يحتاج لمن يعرف كيف يغرف من معينه محافظاً عليه ومطوراً ضمن الأصول الموسيقية. هناك من يشدد على أهمية تقديمه بأصالته كما هو دون أي تحريف أو اجتهاد، في حين يحاول آخرون تحقيق بعض الإضافات التي يرون أنها تحافظ عليه ولكنها تقدمه بصيغة تحمل نوعاً من الحداثة والاختلاف، إلا أن هناك فئة ثالثة شطحت به بعيداً وغالت في إحداث التغييرات إلى الحد الذي يجده البعض انحرافا ًعن اللحن الأساسي ويصل به حد التشويه، لدرجة تصل إلى المساس ببنيته الأساسية، وتغيير مقامه الموسيقي المحفور في الذاكرة وتقديمه بمقام آخر.

هي آراء متباينة ضمن بيئة متنوعة المشارب، لأن واحدة من أبرز ميّزات التراث الموسيقي في سورية تنوعه لارتباطه بتعدد الحضارات التي مرت على المنطقة، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن خاصة أن عمالقة الفن عملوا على تطوير التراث واستلهموا منه وقدموه بطرق فيها نوع من التجديد يصل أحياناً حد الجرأة، ما النواظم التي تحكم النهل من التراث الموسيقي؟ ومتى يكون تطويره ينحو باتجاه التجديد والتحديث؟ ومتى يتحول إلى تشويه وتحريف؟.

المايسترو عدنان فتح الله

سبق أن تحدث عن هذا الموضوع المايسترو الراحل حسام الدين بريمو في أحد لقاءاته، وهو مؤسس جوقة لونا وشغل منصب معاون مدير دار الأوبرا بدمشق. قال حينها: «تطوير التراث يكون من خلال تعديل التوزيع الآلي للموسيقا المرافقة وتنويع هذه الموسيقا شرط أن يبقى كل من اللحن والمقام والإيقاع كما هو أصلاً لأنها عناصر تشكّل شخصية الأغنية، أي أن تبقى القطعة الموسيقية كما هي واللحن واضح، وإن أحببت أن تقدم توزيعاً كورالياً وتضيف ألحاناً للّحن الأساسي فهذا ممكن على ألا يضيع اللحن».

تياران في الموسيقا

هناك تياران يتعاملان مع الموسيقا التراثية، تيار متمسك بأصالة التراث كما ورثناه، وآخر يدعو إلى التغيير والتطوير فيلجأ إما إلى تغيير بسيط في اللحن أو إلى إعادة توزيع العمل موسيقياً بروح مختلفة، عن ذلك يقول الموسيقار "صفوان بهلوان" لـ "مدونة الموسيقا":

الموسيقار صفوان بهلوان

«كلا التيارين على صواب، فالمتشددون يؤكدون ضرورة المحافظة على التراث كهوية متحفية، ولكن يمكن أن آخذ من هذا المتحف شكل ما وأبني عليه، شرط القول أنه مؤلّف جديد أنا من ألّفه، وهو مبني على تيمة لحنية من العمل التراثي، وهذا الأمر موجود في الغرب. وفي هذه الحالة ليس هناك عبث بالتراث أو تضييع لهويته إنما قدمت عملاً جديداً من تأليفك مبني على عمل تراثي».

ويتابع: «أنا مع الذين يحافظون على تراثية ومنهجية الإرث القديم ليبقى ذاكرة، ومنه ننطلق فآخذ منه وأبني عليه مؤلفاً جديداً مستقلاً. ولكن إن قمت بتوزيعه بنفس الميلودي الخاصة به فهذا اسمه عبث في التراث. فعليك أن تدرس المنهج وليس الإتيان بالمثل، أي أن تستفيد من المنهجية ولكن برؤيا خاصة».

المايسترو نزيه أسعد

انتظام والأكاديمية

الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية بقيادة المايسترو عدنان فتح الله

المايسترو "عدنان فتح الله" عميد المعهد العالي للموسيقا وقائد "الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية"، يقول لـ "مدونة الموسيقا": «لدى العمل في التراث ينبغي مراعاة البيئة التي خرجت منها هذه الأغنية التراثية، لأنها تحكم على موضوع نظمها وكلماتها وحتى المقام المُختار لها، وبرأي أن الدراسة التاريخية تشكّل مرجعية للعمل الذي سيتم تقديمه مع مراعاة البيئة واللهجة والكلام والطقس، إضافة إلى مراعاة مناسبة الأغنية. فالكثير من الأغنيات لدينا مرتبطة بمناسبة أو طقس أو سلوك معين، ربما تكون عن "الحصاد أو الحنة أو العرس.."، وبالتالي كل منطقة لها تراثها، كما أن هناك أغنيات لها علاقة بقصة شعبية متوارثة في هذه المنطقة أو تلك، لذلك ينبغي الحفاظ على المقام والإيقاع واللهجة وطريقة الأداء».

وحول تجديد وتحديث التراث الموسيقي، يقول: «من المفترض أن يقدم التراث بكل هذه الأمانة وفق ما ذكرت. والأمر الآخر أنه يمكن تقديمه وفق آلية التطوير والتجديد على أن يكون هناك انتظام وأكاديمية في طريقة تقديمه، ومعنى الأكاديمية أن نعتني بتفاصيل معينة بالأغنية التراثية بما يتناسب مع تطور علم الموسيقا، أو أن يكون هناك إضافة لونية يمكن إضافتها للتراث، أما أن نأخذه لأنماط مختلفة عنه فعندها سيكون هناك مشكلة».

قابلية التجديد

المايسترو "نزيه أسعد" قائد أوركسترا "الموسيقا الشرقية" في "وزارة الثقافة" مديرية المسارح والموسيقا، وقام بتدريس مادة "نظريات الموسيقا الشرقيّة" في المعهد العالي للموسيقا، يقول في حديثه لـ "مدونة الموسيقا":

«عند الاستفادة من مفردات التراث الأصلية في صياغة مفردات معاصرة وضمن مختلف ألوان التراث عموماً، لابد من التأكد من مصداقية هذه المفردات وانتمائها إلى البيئات المختلفة والرجوع إلى مناسباتها وأسبابها وحكاياتها المتنوعة، ولنحافظ على معانيها وأشكالها لابد من تصديرها بالشكل اللائق».

ويتابع: «وفيما يتعلق بالتراث الموسيقي فهو الأكثر قابلية للتجديد بسبب توفر أدوات معاصرة تساهم في طرح الموسيقا التراثية، ولكن هذا الأمر يتطلب الحذر من تلك الأدوات كي لا تتحول إلى أدوات تغيير سلبي وتشويهي، وأقصد بالأدوات: "التوزيع الموسيقي والآلات الموسيقية المختلفة وطرق التسجيل الصوتي..". فالتعامل مع التراث الموسيقي ينبغي أن يكون محترِماً للمفهوم الأصلي لهذا التراث ومحافظاً عليه كما هو، مع إضافة الجماليات المعاصرة التي تخاطب الوقت الحالي مع كثير من الحذر والحرص على البطولة المطلقة للموسيقا التراثية الأصلية والكلمات التي ترافق الألحان وتظهر من خلال معانيها أنها تنتمي لزمن سابق وليست اجتهاداً لأشخاص معاصرين، كذلك تكون الألحان الواضحة المعالم في انتمائها للماضي».