"التوزيع الموسيقي" أحد الأركان الهامة والأساسية في تنفيذ العمل الموسيقي أو الغنائي، ويتلاقى فيه العلم مع الإبداع الفني، حيث يقوم "الموزع" برسم خارطة محددة المعالم، يتم خلالها اختيار وتوظيف الآلات الموسيقية وتحديد السرعة والإيقاع والجو العام، للوصول بالعمل الموسيقي إلى حالته النهائية التي تُقدم للجمهور.
ماهيّة التوزيع الموسيقي
عن ماهية "التوزيع الموسيقي" يتحدث المايسترو "كمال سكيكر" لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «يُقصد بالتوزيع كتابة العمل الموسيقي لـ "الأوركسترا" ذات الآلات المتنوعة بطبيعة أصواتها واختلافها عن بعضها البعض بالأنواع الصوتية التي تصدرها "نفخ، سحب، نقر"، والموزع هنا يعالج الموالفة بين هذه الآلات والأصوات بما يخدم العمل ككل من وجهة نظره. ففي التأليف الأوروبي عموماً كل المؤلفين يكتبون أعمالهم بخطوط لآلة البيانو وبعد ذلك تُفرغ أصوات "البيانو" على آلات "الأوركسترا" حسب وجهة نظر الموزع، وغالباً المؤلف هو الشخص نفسه الذي يقوم بالتوزيع الموسيقي».
ويتابع: «أما بالنسبة للموسيقا العربية، فهي تتميز باللحن الواحد "غنائي الطابع" الواضح للمستمع بشكل لا يقبل الشك، فهو لحن متكامل له بداية وتفاعل ونهاية بخط لحني واحد، ويأتي دور "التوزيع الموسيقي" هنا كحامل لهذا اللحن، وموضحاً له وليس مغيّراً له إطلاقاً، وكثيراً ما يفهم "التوزيع الموسيقي" بأنه تغيير للّحن وفق رؤية الموزع، والسبب في ذلك عدم معرفة الموزع بماهية اللحن، وكيفية التعامل معه وإظهاره وتعميق معناه».
ضرورة لازمة
حول سؤال "هل "التوزيع الموسيقي" ضرورة لازمة عندما يتم تقديم المقطوعات الموسيقية في الحفلات؟" يجيب المايسترو "سكيكر" قائلاً: «التوزيع هو لازم لأي لحن موسيقي وأية فرقة موسيقية بغض النظر عن عدد الآلات، لكن بشرط فهم الموزع للحن والمزاج الأصلي الذي خرج منه، وتعميق المعنى وليس تغيير اللحن، فعلى سبيل المثال لا نريد أن نوزّع أغنية معروفة للجميع، وعندما نسمعها نشعر ببعدها الكبير عن الأغنية الأصلية».
ولتقريب الفكرة أكثر يقول: «دائماً أشبّه "التوزيع الموسيقي" بتقديم كأس الماء، فأستطيع أن أقدم كأس الماء بكأس بلاستيكي أو حجري أو أي شيء آخر، وأيضاً أستطيع أن أقدم الكأس الحجري نفسه ولكن على صينية جميلة مغطاة بغطاء مذهب أنيق، وفي الحالتين ينبغي أن نشرب الماء وليس مشروباً آخر، فالصينية والغطاء حملا الكأس نفسه والذي يحتوي على الماء، ولكن بطريقة عصرية، وهكذا هو "التوزيع الموسيقي"، حيث يتم تقديم اللحن بأصالته لكن بطريقة فكرية تستغل التطور الصوتي في الآلات الموسيقية وعلم الهارموني واختيار المناسب منهما للحن».
ترجمة المشاعر
وإن كان أي عمل موسيقي يمكن أن يحتمل "الزخم الهارموني" في التوزيع، يقول "سكيكر" في حديثه لـ "مدونة الموسيقا": «التوزيع ترجمة حسية للمشاعر التي يحتوي عليها "اللحن الموسيقي"، فيمكن أن يكون هناك زخم هارموني "أكوردات مقعدة"، ولكن بهدف تعميق فكرة تحتاج لشدة صوت منخفضة، وعلى العكس ربما نحتاج لهارمونية بسيطة لكن مع شدة صوت قوية جداً، ويعود الأمر إلى الطبيعة الحسية للحن الذي يتم توزيعه».
وفيما يتعلق بالمعيار الذي يدفع "الموزع الموسيقي" لإقامة حوارية موسيقية بين الآلات، يقول: «لكل آلة موسيقية صوتها الخاص فمنها الجهوري المنخفض "باص" ومنها الحاد المرتفع "سوبرانو" ومنها المتوسط "آلتو أو تينور"، وتكون الحوارية عادة بين آلتين من صوتين مختلفين، على سبيل المثال "الوالد والفتى الصغير" فإن أردنا إعطاء دور للوالد في الموسيقا فمن الطبيعي أن نختار الآلة ذات الصوت المنخفض كآلة "التشيلو" مثلاً أو "العود"، في حين طبيعة صوت "الكمان" أو "القانون" هي "سوبرانو" فمن الطبيعي أن نختارها للفتى الصغير، وقس على ذلك، وفي النهاية تبقى رؤية "المؤلف" أو "الموزع الموسيقي" هي الصحيحة شرط أن تصل للمستمع بشكل مفهوم».
الهوية والبصمة الخاصة
المؤلف الموسيقي "مهدي المهدي" الذي قام بتوزيع الكثير من الأعمال تحدث لـ "مدونة الموسيقا" عن دخول "التوزيع الموسيقي" إلى جسم "الموسيقا العربية"، يقول: «بدأت تجارب "التوزيع الموسيقي" انطلاقاً من تدوين بعض تراتيل الموسيقا البيزنطية والسريانية القديمة، ثم تطورت لتشمل النمط الكورالي الموزع أو "المُهرمن" في "سوريا ولبنان ومصر والعراق وتونس والجزائر"، وتميزت "مصر" بتأليف أعمال أوركسترالية عربية موزعة كأعمال "أبو بكر خيرت" وابن أخيه "عمر خيرت" بينما برز دور "الأخوين رحباني" بشكل لامع في إضافة "الهارموني" وآلة "البيانو" في "التوزيع الموسيقي"، وتلا ذلك أعمال "الموسيقا التصويرية" التي تميزت "سوريا" بها، فأصبحت هوية موسيقية سورية موزعة و"مُهرمنة" بأساليب حديثة ومتطورة».
وحول كيف تتم عملية التوزيع الموسيقي والتنويط، وما الأساس التي يتم الاتكاء عليها، ودور التوزيع في منح اللحن لون وهوية مختلفة، يقول: «تتم عملية "التوزيع الموسيقي" بتطبيق بعض علوم التعددية الصوتية كـ "الهارموني والكونتربوان" وهنا يبرز دور كل "موزع موسيقي" ببناء هويته وبصمته الخاصة، فمن الفنانين من اعتمد على "موسيقا الجاز والموسيقا اللاتينية" مثل "زياد الرحباني"، وهناك من اعتمد على "الهارموني الكلاسيكي" في بناء التوزيع الشرقي كالراحل "نوري اسكندر"، و"نوري رحيباني" و"ضياء السكري"، وهم يعتبرون من مؤسسي التأليف والتوزيع الموسيقي العربي الحديث في "سوريا"».
ويتابع: «من الأجيال التي لحقتهم، هناك من اعتبر أن الآلات الوترية مرافقة للحن الرئيسي ضمن مفهموم "اللازمة"، ومنهم من اعتبر الوتريات جزءاً من النسيج الهارموني للعمل، ومنهم من اعتمد على تنوع الإيقاعات والأشكال الإيقاعية لإضافة البصمة العربية. وهناك من انطلق من العمل غربي البناء وأضاف عليه لمسات شرقية أو عربية، ومنهم من بنا العمل بشكل معاكس، أي لحن عربي وإيقاع وبناء عربي ومزجه ببعض الأصوات غربية أو كلاسيكية البناء، وهناك من حقق التوازن بين الاثنين، وهنا تبرز هوية وبصمة الموزع أو المؤلف».
وينهي كلامة بالإشارة إلى أن توزيع الأغنية يختلف في الأساليب عن توزيع العمل الآلي، فالأولوية في الأغنية للحن الغنائي الرئيسي الذي يؤديه المغني، ومن ثم يتم بناء التوزيع انطلاقاً من هذا اللحن.
المساحة الصوتية
المؤلف الموسيقي وعازف البيانو "إياد جناوي"، تحدث عن مكمن الصعوبة في "التوزيع الموسيقي"، خاصة أن لكل آلة أدواتها ولغتها الهارمونية، يقول: «تكمن الصعوبة بأن الموزع الموسيقي ينبغي أن يكون دارساً لكل آلة، ومساحتها الصوتية وجمالياتها، فكل آلة يمكنها أن تلعب دورين، دور اللحن أو دور الهارموني. وحتى ضمن المقطوعة الموسيقية الواحدة يمكن أن تلعب الآلة دور اللحن ودور الهارموني من خلال تبادل الألحان بين الآلات، ويضاف إلى ذلك الذوق الشخصي للموزع، وكيف يوزّع الهارموني، لأن الهارموني هو تفكير عمودي واللحن هو تفكير أفقي».
وعن دور البرامج في "التوزيع الموسيقي"، يقول: «دورها مهم جداً في العصر الحديث، فهناك برامج يمكن من خلالها أن تكتب النوطة للآلات التي تريدها في الأوركسترا، وتقوم بسماع ما كتبت، لأن هذه البرامج بمقدورها عزف هذه النوطة كما كتبتها تماماً للآلات. وبالتالي هي برامج متقدمة جداً، وتُبرز لك نتيجة عملك دون أية حاجة للاستعانة بالأوركسترا لتعزف لك ما قمت بتوزيعه. وبذلك يكون المجال أمامك مفتوحاُ لتقوم بانتقاء الأفضل والأجمل».
وفيما يتعلق بدور الذكاء الاصطناعي في "التوزيع الموسيقي" يؤكد بأنه قادر على توزيع أي لحن، وأن يقوم بكتابته للأوركسترا. لكنه يرى أنه يفتقد دائماً للمسة الإبداعية وللإحساس ولفكر الفنان، مشيراً إلى أن تطبيقه سيكون جامداً، وإن جاء أكاديمياً ومُتقناً، لأننا بحاجة دائماً إلى الإحساس ولمسة الفنان الإبداعية.