في كنف عائلةٍ عشقتِ الموسيقا المُلتزمة، ترعرع المؤلّف والموزّع الموسيقيّ "رافي فقس"، وبنى ذائقته السمعيّة وسط أعمال موسيقيّة لطالما كانت تلامس أفئدةَ عائلته قبلَ آذانهم، فمعَ الصباح الباكر كانت السيدة "فيروز" تطرق باب أسماعهم لتضفيَ على يومهم جمالاً روحياً وصفاءً في النفس، ومع فترة الظهيرة كان صوت سلطان الطرب "جورج وسوف" يُرافقهم في أروقة المنزل عبر أسطوانات وأشرطة تُخفي بين طياتها نهجاً موسيقياً معطراً بعبق الكلمة السامية واللحن الفريد المزدان بجُملٍ موسيقيةٍ صعبة، ومع حلول فترة المساء كانتْ جدران منزلهم في حيّ العزيزية بحلب تنتشي طرباً مع صوت كوكب الشرق "أم كلثوم"، وهي تشدو لساعاتٍ وساعاتٍ بأغانٍ خُلّدتْ في روزنامة الشرق، وحفرتْ مكانها بعمق في أعظم سجلات الموسيقا العربيّة.
الألبوم الأول
مع بداية فترات المراهقة تأثر "فقس" بأخيه "جورج" الذي كان يهوى العزف على آلة الأورغ، حيث كان يصطحبه معه إلى السهرات الموسيقيّة، الأمر الذي دفع الطفل "رافي" لخوض بِحار الموسيقا في وقت باكرٍ، منطلقاً من شواطئ آلة الدرامز الإيقاعيّة.
عن تلك البدايات والتجربة الموسيقيّة في حياته، يتحدّث المُلحن والموزّع الموسيقيّ "رافي فقس" لموقع "مدونة الموسيقا" قائلاً: «مع بداية العشرينيات من عمري، كنت أهوى العزف الإيقاعي على آلة "الدرامز"، ثم بدأت الانجذاب لآلة "الغيتار الوترية" بتشجيع من الأهل، وخاصةً أنّ منزلنا كان يحتضن سهرات سمر عائليةً يُحييها خالي المطرب "بشار أحمر"، حينئذٍ قرّرتُ تعلّم العزف على تلك الآلة بإشراف الأستاذ "جلاء درقجي"، ومع بدايات عام ٢٠٠٨ قمتُ بتشكيل فرقة موسيقيّة شابّة عُرفتْ آنذاك باسم "يوفوريا"، حيث استطعنا أن نتركَ بصمةً خاصةً لدى جمهورنا في الأماكن العامة، ولا سيما عندما سجّلنا ألبوماً موسيقياً خاصاً حمل عنوان "صدفة والتقينا" ولقي رواجاً على منصتي "الفيسبوك واليوتيوب"».
الموسيقا الشرقية
حول طريقة توجّهه للموسيقا الشرقية رغم أن آلة "الغيتار" غربيّة، تابع حديثه لـ "مدونة الموسيقا" قائلاً: «بما أنّنا نعيش في مجتمع شرقيٍّ، فقد بدأتْ بذور الموسيقا الشرقيّة تنمو في مُخيّلتي كأنّها طفل صغير اشتاق إلى مهده الأول، وخاصّةً حين كنتُ أرى كبار عازفي الغيتار في حلب، مثل "شارل عبد الله وجلال أحمر" وغيرهما يعزفون "أكوردات" فريدةً ضمن أغانٍ تحمل مقامات شرقيّة "البيات والسيكا والراست"، الأمر الذي دفعني للاستفادة من خبراتهم وسؤالهم عن تلك المقامات التي كانت بعيدة عن سمعي، وعن الطابع الغربي الذي أسمعه».
التأليف والتوزيع الموسيقي
وعن أولى خطواته في عالم التأليف والتوزيع الموسيقي تحدّث الموزع الموسيقي "فقس"، قائلاً: «مع عام ٢٠١٢، توقفَتْ معظم الحفلات الفنيّة التي كانت مصدر رزقي الأساسيّ، فبدأتُ التفكير في مشروع موسيقيٍّ بديل يلتقطني من الفراغ ويملأ وقتي بالأعمال الموسيقيّة التي تلبّي متطلبات شغفي الموسيقيّ المتزايد، فكان خياري شراء معدات استديو بسيطة وتطويرها تباعاً، واستطعتُ من خلالها تسجيل أوّل ألبومٍ موسيقيٍّ من تأليفي الخاص حمل عنوان "حصار"، ومع العام ٢٠١٣ كان أوّل تعاون فنّي لي مع الموزع الموسيقي "هاني طيفور"، حيث قمتُ بتسجيل صولو غيتار لأغنيات عدّة، منها أغنية "آه منك" للفنان "شادي جميل"، لتتالى بعدها الأعمال لتسجيل صولو الغيتار مع فنانين عرب، مثل "راغب علامة ويارا وربيع بارود وجوزيف عطية"».
أغانٍ صوفية
ويكمل حديثه عن تجربته في تلحين الأغاني الصوفية من مقاماتٍ شرقيّةٍ تحوي نصف ""بيمول"، يقول: «في العام ٢٠١٦ كانت لي تجربة مميّزة مع الفنانة "رشا ناجح" من مصر، حيث عرضَت عليّ تلحين بعض الأشعار الصوفية، فقررت الخوض في غِمار تلك التجربة لكونها باتت تشكّل تحدياً حقيقياً لذاتي، ما دفعني أكثر للتقدّم بعزيمة وثِقة وثبات، فقمت بتلحين عدد من الأشعار الصوفية من مقامات موسيقيّة عديدة، غلب على معظمها الطابع الشرقي مثل "البيات والهُزام"، حيث تم بناؤها على إيقاعات فريدة، مثل "جورجينا" وإيقاعات أخرى مبنية على أساس حسابي يعادل ٥/٦ أو ٧/٨ ، كما تمكّنتُ في تلك الفترة من تلحين ثلاثة ألبومات موسيقيّة خاصة بي، من مقامات موسيقيّة متعدّدة».
شارات المسلسلات
وفيما يتعلق ببداياته في التوزيع الموسيقي لشارات الأعمال الدرامية السوريّة، يقول: «لعل الشرارة الأولى لبداياتي في التوزيع الموسيقي كانت بفضل الله أوَّلاً، ثمّ الفنان القدير "سمير كويفاتي" الذي آمن بموهبتي ورشّح اسمي للمؤلف الموسيقي "طاهر ماملي"، الذي كلفني عام ٢٠١٩ بأوّل عمل فنيّ، وهو توزيع شارة مسلسل درامي حملَ عنوان "غريب"، وبعد نجاح العمل تتالتِ العروض، وأعقبه أعمال توزيع موسيقي لشارات مسلسلات عديدة منها "مال القبان وقطع وريد وروز ومع وقف التنفيذ وعندما تشيخ الذئاب وهوا أصفر وورد أسود"، إلّا أنّ العمل الأغلى على قلبي كان "أغمض عينيك"؛ لأن موسيقاه لاقت رواجاً كبيراً على منصات التواصل الاجتماعي، وكان صُناع المحتوى يضعونها على آلاف الفيديوهات التي تُحاكي حالات وجدانية مُتعددة».
أما على صعيد الألحان فيشير إلى أنه قدّم الكثير منها لعدد من المغنين السوريين، منهم "جورج طحان وفارس أحمر وشادي داوود".
وحول سؤاله عن الفرق بين العزف ضمن الحفلات العامّة والعزف ضمن الاستديو لتسجيل شارات أعمال دراميّة، يجيب "رافي فقس" قائلاً: «هناك فرق كبير في الحالة الروحية والرسالة الوجدانيّة التي يجب إيصالها، ففي الحفلات العامة قد تُطلق العنان لأصابعك لتشدو كيفما تشاء، أما في حالات تسجيل أعمال درامية فأنا أرى الأمر مختلفاً قليلاً، كون التحضير للتسجيل يتطلّب مجهوداً مُضاعفاً لفهم الشخصيات الدرامية والبُعد الخفي منها، كوني أقوم لاحقاً بتجسد تلك المشاعر من خلال الوتر، فأرسم به طيفاً يُحاكي المشهد، ويخاطب وجدان المُشاهِدين ليوصل الصورة الصحيحة والبعد الثالث في المعنى الذي أراده المُخرج».
الغيتار الكلاسيكيّ والكهربائيّ
يؤكّد الفنّان "فقس" أنَّ وجه الشبه قد يبدو قريباً بين "الغيتار الكلاسيكي" و"الغيتار الكهربائي"، إلّا أنه يبيّن وجه الفرق بينهما، قائلاً: «العزف على "الغيتار الكهربائي" يكون مختلفاً من حيث المكّونات الفيزيائية والهندسية، فله ذراع أطول، ما يعني أن عدد "الأوكتافات" أكثر، ومساحة العزف أوسع بشكل عرضي، ناهيك عن أن أوتاره تكون أكثر طراوة من "الغيتار الكلاسيكي"». ونصح الطلاب الجدد باختيار "الغيتار" الذي يتناسب مع نمط الموسيقا التي يرغبون بعزفها منذ البداية، فإذا كان الطالب يهوى سمات موسيقا "البوب أو البلوز" فعليه اختيار "غيتار الأكوستيك"، أما إذا رغب بعزف موسيقا "الروك أو الميتال" فأنصحه بـ "الغيتار الكهربائي".
الهندسة الصوتية
وعن سؤال عن نظرته الخاصّة لمفهوم الهندسة الصوتية خارج الاستديو، وما الحالة التي ينبغي أن تكون عليها؟ يجيب: «الهندسة الصوتيّة ينبغي أن تكون مدروسةً أكثر في الحفلات العامة؛ لأن تلك المهنة هي موهبة ذوقيّة وليستْ تجارةً ربحيةً، فمن غير المنطقي أن يعتمدَ بعض التجار الذين يؤجرون الأجهزة الصوتيّة في الحفلات العامة على أشخاص غير موسيقيين في تشغيل تلك الأجهزة؛ لأنّ معظمهم غير مثقف موسيقياً ويعتمد في عمله على زيادة شدة الصوت لا جودته وتوازنه! وهنا "الطامةً الكبرى"؛ لأن ذلك يُسبب ضجيجاً سمعياً في المكان، لدرجة الإزعاج وإلحاق الأذى بطبلات الأذن لدى المستمعين على المدى البعيد».
ويوضح أنّ بعض المُكلفين بالهندسة الصوتية لتلك الأجهزة، يجعلون صوت "الأورغ" و"الإيقاعات" أعلى مِن الآلات الوترية، الأمر الذي أعتبَره تخلّفاً فنياً مُشيناً يُقلل من قيمة التخت الشرقي العربي، ويُظهره بصورة شعبيّة سطحية مقتصرة على الطبل والزمر فقط.
الذاكرة السمعية
ولدى سؤال نقيب الفنانين بحلب، المايسترو "عبد الحليم حريري"، عن رأيه بالفنان "رافي فقس"، قال: «استطاع أن يرسم لنفسه طابعاً خاصاً في التلحين، مُستخدِماً ذاكرته السمعية الغربيّة، وما حفظه منذ الصِغر من أغانٍ ومقطوعات على "الغيتار"، ليبتكرَ جُملاً موسيقيةً جيّدة مُسقطةً على أشعار صوفية وكلمات غزليّة عربية، ما جعله مختلفاً ومميزاً عن الآخرين».
يُذكر أن الملحّن والموزع الموسيقي "رافي فقس" من مواليد مدينة "حلب" عام ١٩٨٧، كُلف بالإعداد الموسيقي لكبرى الاحتفالات الضخمة على مسارح مدينة "حلب"، ومنها حفل على مدرج "قلعة حلب"، وحفل آخر ضمن قاعة العرش فيها حاكى قصة التآخي المسيحي الإسلامي في "سوريا"، إضافةً إلى حفل موسيقي قدم قبل أربعة أشهر داخل المبنى الأثري للشركة العامة لكهرباء المحافظة، حضره أكثر من ٧٠٠ حلبي عاشق للموسيقا ومتيّم بالفن الراقي الأصيل.