كثيرون هم الذين تناولت أقلامهم بالدراسة والبحث ما تركه "إِمامُ المسرح الغنائي" الشيخ "أحمد أبو خليل القباني"، ولكن جلّهم لم يتطرق إلى تراثه الغنائي الذي رافق مسرحياته أو ما لحنه، وبالعودة إلى عدة مراجع، وبعد التواصل مع عدة نقّاد، حاولنا في هذا البحث المخصص لـ"مدونة الموسيقا" تسليط الضوء على رحلة "القباني" كي لا يبقى تراثه الموسيقي -من ألحان وموشحات- طيّ النسيان أو في دائرة الجهل به.

مَن هُو "أحمد أبو خليل القباني"؟

هو أحمد أبو خليل بن محمد آغا بن حسين آغا آقبيق، من أوائل منشئي المسرح التمثيلي العربي في "الشام" و"مصر"، وله اشتغالٌ بالأدب والشعر والموسيقا، فهو ملحن الألحان الخالدة التي ما بليت.

هو دمشقيٌّ من أسرة "آقبيق" وهي كلمة تركية معناها (الشارب الأبيض) كان يلقب بها أحدُ أجداده، تعلم "أبو خليل القباني" في بلده ونظم عدة موشحات ولحنها وأنشأ مسرحاً تمثيلياً عرض فيه بضع روايات غنائية من وضعه وتلحينه، اقتبس حوادثها من "ألف ليلة وليلة" اشتهر منها: "ناكر الجميل"، "هارون الرشيد"، "وأنس الجليس وناكر الجميل" وكلها عِبَرٌ ومواعظ.

1- أبو خليل القباني

تَوثِيقُ الرِّحلَةِ

2- صورة من عمل مسرحي بعنوان تنويعات مسرحية يتطرق إلى شخصية القباني وتجربته بعنوان تنويعات مسرحية إعداد جوان جان إخراج أيمن زيدان 2004

وحسب كتاب د."عزة آقبيق" "دمشق رجال وأحداث وأماكن وصور" هو أول من دعم صناعة التمثيل بروايات عربية، وأدخل فيها رقص السماح على ضروب الموشحات وأوزانها، وأنكر عليه بعض الشيوخ المتشددين إتيانه بهذه البدعة، فشكوه إلى حكومة الأستانة، فمُنع من الاستمرار، فاحترف التجارة أو ما يسمى بمال القبّان فعُرِفَ بـ"القبّاني"، وحينما وُلّي "دمشق" أحدُ رجال الإصلاح المشهورين من الترك "مِدحت باشا"، دعاه إليه وأذِنَ له بالاستمرار فيما كان قد بدأ به، فلما أقصي "مدحت باشا" عن "دمشق" عاد التشدّد كما كان، فرحل إلى مصر ومعه جوقة من الممثلين والمنشدين، وأقام فيها سبعة عشر عاماً، ترك خلالها ثروة فنية من الموشحات والروايات التي قام بتأليفها وتلحين أغانيها، وكانت أول رواية له على مسرح الأوبرا عام 1884 وهي رواية "الحاكم بأمر الله"، وأنشد فيها الموشح الشهير على نغم الحجاز الشجي:

برزت شمس الكمال من سنا ذاتِ الخِمار

3- الناقد جوان جان

وحسب الكتاب اقتبسَ "القباني" من الأدب الغربي قصصاً عن "كورنيه" الفرنسي وغيره، وسافر بفنه إلى "الأستانة" ثم "أميركا" ولقي نجاحاً كبيراً، ثم عاد إلى "دمشق" وقد تقدم به العمر، وكتب مذكراته التي مازالت مخطوطة، وكتب قصة "باب الغرام" وقصة الأمير "محمود نجل شاه العجم"، ومن تلامذته في هذا الباب الشيخ "درويش الحريري"، والموسيقار المصري "كامل الخلعي"، و"سلامة حجازي"، "السيد الصفطي".

الانطِلَاقَةُ المَسرَحِيَّةُ

وحول بداياته المسرحية، يحدثنا "جوان جان" الكاتب والناقد المسرحي ورئيس تحرير مجلة "الحياة المسرحية" قائلاً: قبل ظهور "القباني" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عرفت المدن السورية فنَّ خيال الظل وفن الحكواتي، كشكل من أشكال التواصل مع الجمهور، في هذا الجو المفعم بالنشاط الفني خطا "القباني" خطواته الأولى في مغامرته المسرحية الحضارية التنويرية التي لم تكن مفروشة بالورد، حيث يُعدُّ عام 1870 الانطلاقة الحقيقية للحركة المسرحية في "سورية"، عندما فكر "القباني" بتحويل شخصيات مسرح الخيال التي يؤديها ممثلٌ واحد بأصوات مختلفة إلى شخصياتٍ من لحم ودم يؤديها عدة ممثلين، فعرض الفكرة على أصدقائه المقربين الذين شجعوه وتعهدوا بمساعدته، وكان الخيار كتابة أعمال تستمد موضوعاتها من التاريخ العربي والحكايات التراثية المليئة بالحِكَم والعِبَر، الأمر الذي يعني أنه كان واعياً ومدركاً منذ البداية للدور التوعوي والتنويري والأخلاقي الذي يمكن لفن المسرح أن يلعبه في حياة الناس وتطوير المجتمعات، كما كان مدركاً أن مزج هذه الحكايات المليئة بالمواعظ بشيء من الغناء والرقص كفيلاً بتقريبها من كافة الأذواق.

4- صورة غلاف كتاب دمشق رجال وأحداث وأماكن وصور للدكتور عزة آقبيق

مِن "دِمَشق" إِلَى العَالَمِ

ويعتبر الناقد "جان" أن رحلة "القباني" بدأت في أحياء "دمشق" ومقاهيها عندما راح يتردد على هذه المقاهي، ويتابع عروض خيال الظل فتأثر بها، وفي مرحلة لاحقة شكل تجمّعاً فنياً درامياً موسيقياً مؤلّفاً من أصدقائه، وبعضهم من المنشدين المعروفين، وفي العام 1871 أكمل إنجاز أول عروضه المسرحية "ناكر الجميل"، وكان ذلك بطلب وتشجيع من الوالي "صبحي باشا".

لم تكن الطريق سهلة أمام الرائد الأول للمسرح السوري والعربي، هذا ما يؤكده "سعد القاسم" الإعلامي والناقد بقوله: تعرض "القباني" للكثير من العداء في عصره من رجال الدين المتزمتين، والحكواتية، وحرفيي الحكايات الشعبية التي تقدم بفن (خيال الظل)، ممن أحسّوا بخطره على عملهم، فإن تجربته قد ولدت من ظاهرتي الحكواتي وخيال الظل اللتين كانتا تقدمان في المقاهي.

حيث تتلمذ "القباني" -حسب "القاسم"- على يد أحد أشهر (الكركوزاتيّة) في عصره "علي حبيب"، الذي كان يتقن الموسيقا وفنون الغناء، إلى جانب تحريك خيالات "كراكوز وعيواظ" وباقي شخصيات مسرح الظل، وهذا ما ظهر لاحقاً في مسرح "القباني" الذي أدخل إليه الموسيقا والغناء ورقص السماح، حيث حرص على تقديم عروضه في مكان يحقق التواصل والتفاعل مع الجمهور.

المُوَشَّحَات وَالأَغَانِي

من كتاب "موشحات أبو خليل القباني" نذكر له عدة موشحات منها:

- موشح "اشفعوا لي يا آل ودي" من مقام الهزام وإيقاع جفتة جنبر.

- "رصع اللجين بياقوت في الحناجر" من مقام الرست وإيقاع المصمودي الكبير.

- "يا من لعبت به شمول" من مقام الرست وإيقاع الفالس أو يوروك.

- موشح "شادنٌ صاد قلوب الأمم" من مقام عجم عشيران وإيقاع سماعي دارج وغيرها الكثير.

ومن الأغاني الباقية في الذاكرة: "يا مسعدك صبحية"، "يا طيرة طيري يا حمامة.. ودّيني لدمّر والهامة"، "صيد العصاري"، "يا مال الشام" وهذه كلمات هذه الأغنية الدمشقية الأصيلة:

يا مال الشام يا الله يا مالي.. طال المطال يا حلوة تعالي

طال المطال واجيتي عالبال.. ما يبلى الخال عالخد العالي

طال المطال طال وطول.. الحلوة بتمشي تمشي وتتحول

يا ربي يرجع الزمن الأول.. يوم يا لطيف ما كان على بالي

طال المطال وعيوني بتبكي.. وقلبي ملان ما بقدر يحكي

يا ربي يكون حبيبي ملكي.. يوم يا لطيف ما كان على بالي

طال المطال وما شفناهم.. يوم الأسود يوم الودعناهم

يا ربي تجمعني معاهم.. يوم يا لطيف ما كان على بالي.

المراجع:

[1] دمشق أماكن وأحداث ورجال وصور، الدكتورة عزة آقبيق، دار العرب، 2019

[2] موشحات أبو خليل القباني، علي هيثم المصري، دار طلاس، 1991

[3] دراسات ونصوص كاملة لأبو خليل القباني، محمد يوسف نجم.

[4] سهرة مع أبي خليل القباني، سعد الله ونوس، اتحاد الكتاب العرب، 1973

[5] من دمشق إلى شيكاغو رحلة أبو خليل القباني، الباحث تيسير خلف، صحيفة العرب، 2018