من المحبط أنك لن تسمع صوت مجموعة الكمنجات وهي تعزف نوتة طويلة ومرتجفة وحادة جداً، قبيل قيام أحد المجرمين بالاقتراب منك بهدف إيذائك، أو إيذاء شخص آخر أمامك، وبالتأكيد لن تسمع صوت أوركسترا تعزف موسيقا غاضبة وصاخبة، عندما تكون طرفاً في جدال حاد مع أحد الأشخاص...

وسيكون من المؤسف جداً عدم وجود عازف ناي أو كمان أو بيانو أو تشيللو يتلطّى خلف صخرة أو أريكة أو شجرة ليعبر عن لواعج العواطف المتأججة لديك أثناء لقاء غرامي يجمعك بالحبيبة، ولن تحتاج لأن يصفر الفلوت الإيرلندي بامتداد مؤثر أثناء مشاهدتك الوديان والتلال المنبسطة أمامك بكل بهاء وأنت واقف على قمة عالية، ولن تنوح الناي أو يبكي التشيللو أو تنسكب دموع القانون عند فقدانك عزيز أو قري!.

كل تلك التجارب أو المواقف ستتلقاها عند حدوثها في الواقع كمادة خام، طبيعية جداً، بأصواتها الحقيقية، وروائحها وملامسها وصورها وطعومها، وستترك أعمق الآثار فيك، لأنك منغمسٌ بالحدث عبر كل حواسك وآليات الاستجابة اللاإرادية في "دماغك القديم"، وآليات الاستجابة الواعية كالتفكير والشعور والإدراك والتمييز واللغة في دماغك القشري أو"دماغك الحديث".

1- الباحث الموسيقي جمال عواد

هذا الانغماس المادي الكامل هو ما قد تفتقده أثناء مشاهدتك للأحداث نفسها أو المواقف ذاتها في التلفزيون أو المسرح أو السينما، فهي أحداث بعيدة عنك، واحتمالُ انغماسِك فيها قليل، وإنْ حدثَ فقد يكون انغماساً عاطفياً وعقلياً يعتمد على المشتركات الثقافية واللاشعورية الجمعية بين مجموعة من البشر (بقية المشاهدين) قد تصغر لتكون أسرتك، أو تكبر لتشمل سكان الأرض كلهم.

يضاف إلى عوامل عدم انغماسك الكامل كما يحدث في الواقع، ذلك الإحساس المستمر في كواليس عقلك بأن ما يحدث أمامك هو محض تمثيل للأحداث، وأن ذلك الممثل المقتول سيقوم بعد التصوير وسيحرك رأسه الذي رأيته بأمّ عينيك ينفصل عن جسده في المشهد التمثيلي السابق، وسيكون من دواعي الاطمئنان أن يركن ذلك الدايناصور الهائل على رفوف المستودع كخرقة مرمية لا حراك فيها بعد أن رأيته يسحق جماجم آلاف البشر ويلتهم آلافاً أخرى منهم في الفيلم.

2- المؤلف الموسيقي طاهر مامللي

ومن أجل المزيد من توريط المشاهد في الحدث الدرامي وتقليص الفرق بين الواقع والتمثيل، فقد طور المنتجون فنون التمثيل بكل أنواعه، وأصبح من السهولة بمكان أن يتورط المشاهد في المشهد ويصبح جزءاً منه، بل قد يصل أحياناً إلى العجز عن التخلص من آثاره السلبية أو الإيجابية لفترة طويلة. كل ذلك بسبب المستوى العالي جداً من الإتقان في الأداء الذي وصل إليه الكثير من الممثلين والمخرجين والموسيقيين ومهندسي الديكور وفنيي الماكياج وباقي العمليات الفنية المشتركة في تقديم الفيلم أو المسلسل أو المسرحية.

الموسيقا التصويرية عامل نجاح أم فشل!

ولكننا نلاحظ أن هناك عنصراً يكاد لا يخلو منه عمل سينمائي أو درامي أو مسرحي، بالرغم من أن هذا العنصر غير موجود في الواقع، بمعنى أنه غير مرافق للأحداث في الواقع كما سبق وذكرنا في البداية؛ هذا العنصر هو "الموسيقى التصويرية" أو soundtrack أو "الموسيقى الدرامية" ولذلك، فإن امتلاك الدراما عناصر لا مقابل لها في الواقع، يعيد التوازن إلى العلاقة بين الدراما والواقع وهي علاقة قائمة على التأثير المتبادل فيما بينهما، وهنا بالضبط تكمن كل فرص فشل ونجاح الموسيقا بأداء دورها الدرامي.

3- الملحّن إياد الريماوي

فالدماء والتشوهات والبثور ولون البشرة والماكياج واللباس يمكن تقليدها بدقة متناهية، وكل المؤثرات الصوتية كذلك الأمر، كصليل السيوف وحوافر الخيل وصوت الطعن وإطلاق النار والكلام، كما أننا قادرون على استخدام الطبيعة أو تقليدها في المشاهد، ويمكننا أن نفعل كل شيء كما يحدث في الواقع تماماً، بفارق قد يكون صغيراً أو كبيراً حسب مستوى الإتقان والتكاليف، إلا الموسيقا فهي تقفز فوق التقليد نحو تخليق علاقة جديدة بين الحدث ووعي المشاهد، وهو العنصر الأساسي في نجاح أي عمل فني، لأن دور الفن الحقيقي ليس تقديم نسخة عن الواقع، بل خلق واقع جديد من عناصر الواقع الذي يتناوله العمل الفني.

ولطالما استمتع الجمهور العربي عموماً، والسوري خصوصاً، في هذا النوع من الموسيقا الملازمة للدراما، وخصوصاً في المواسم الدرامية الرمضانية، حيث حظيت تلك الأعمال الموسيقية بتكرار يومي أتاح لها فرصة كافية لتقييمها من قبل المستمع، وملاءمتها لذوقه أو رؤيته للعمل الدرامي. وكثيراً ما أقام المبدعون الموسيقيين السوريين موسيقاهم المرتبطة في الدراما بحفلات خاصة بها، وقد لاقت هذه الحفلات نجاحاً كبيراً واستحساناً من قبل المستمعين والنقاد، وكانت فرصة ممتازة للتخفيف من ضخامة الموسيقا الغنائية بالمقارنة مع الموسيقا الآلية البحتة، بالرغم من وجود الكلمة المغناة في متن ذلك النوع من الموسيقا.

من هذه الأعمال الموسيقية ما علق بذاكرة السوريين لفترة طويلة وصار جزءاً من الإرث الموسيقي السوري بعيداً عن العمل الدرامي المرتبط به، بالرغم من بقائه مرتبطاً بالحالة العاطفية أو الفكرية التي قدمتها الدراما، ومنها ما تم نسيانه تماماً مع نهاية فترة عرض المسلسل.

وحدة المنتج الفنّي!

ومن الجدير بالذكر في معرض الحديث عن الموسيقا الدرامية في سورية، تلك الأغاني التي عرضت في متن الأعمال الدرامية، وشكلت بطريقة أو بأخرى جزءاً من الموسيقا التصويرية لتلك المسلسلات أو الأفلام أو المسرحيات، ولاقت طريقها إلى النجاح بسبب ذلك الانسجام في لحنها وأدائها وتوزيعها مع روح العمل الدرامي الناجح أساساً، وفي أغاني مسلسل "ملح و سكر" و"صح النوم" وبعض الأفلام السورية، مثل أغاني دياب مشهور وموفق بهجت ورفيق سبيعي ودريد لحام وأمل عرفة...إلخ. ومن الملاحظ أيضاً أن كثيراً من الأعمال الموسيقية الدرامية لم تلق ذلك النجاح الذي تستحقه بسبب فشل الفيلم أو المسلسل الذي يشكل الحامل الأساسي له، وهذا ما يؤكّد وحدة المنتج الفني النهائي الدرامي بكامل عناصره ومكوناته، بالرغم من خصوصية الموسيقا فيه.

ع قدّ المحبّة!

وبسبب أهمية الموسيقا في حياة البشر عموماً، وفي أعمال السينما والمسرح والتلفزيون خصوصاً، ولأن من حق مبدعينا علينا أن نقدم لهم الحب أولاً النقد ثانياً، سيكون موضوع هذا الملف البحثي النقدي الموسيقي هو "الموسيقا التصويرية في الدراما السورية: ما لها وما عليها" من وجهة نظر الباحث القابلة للنقاش بطبيعة الحال، من خلال نماذج من الأعمال الموسيقية الدرامية السورية، نتناول فيها أعمالاً موسيقية سورية متعلقة بالدراما، نصل في نهايتها إلى تقديم نظرة شاملة تتوخى الدقة والموضوعية في النقد الفني، بعيداً عن أي حسابات أخرى تحكم مضامين المحاولات النقدية الفنية عموماً، والموسيقية خصوصاً، حيث نجد فيها إما إجحافاً كبيراً لبعض الأعمال ذات القيمة الفنية العالية، أو الرفع من شأن أعمال لا ترقي حتى إلى مستوى الدخول في دائرة اهتمام النقد الحقيقي.

ومن المتعارف عليه أن مؤلف شارة المسلسل غالباً ما يكون هو نفس الموسيقي الذي وضع الموسيقا التصويرية له، لذلك فإن نهج هذا البحث سيبدأ بمناقشة شارة عمل درامي لمؤلف من المؤلفين السوريين، ومدى انسجام هذه الشارة مع مضمون وتوجه وفكرة العمل الدرامي أولاً، ثم الانتقال إلى الموسيقا التصويرية التي تضمنها المسلسل، ودراسة مدى ملاءمتها وتأثيرها على مستوى تلقي المشهد الدرامي، وبهذا نرجو أن نكون موفقين في رسم خارطة شاملة وقريبة من الواقع قدر الإمكان للموسيقا الدرامية السورية.