يعبر الإنسان عن مكنونات نفسه بطرق وأساليب مختلفة، والغناء واحد من الطرق التي عبّر بها منذ زمن قديم عما ينتابه من مشاعر الفرح أو الحزن، البهجة أو الكآبة، واختلفت طريقة تقديمه للأغنية من ناحية اللحن أو الإلقاء، واعتمدت على الحالة التي يعيشها في تلك اللحظة.
لا يمكن حصر الأغاني التراثية بمكان أو إرجاع ملكيتها لشخص واحد معروف بل هي للجميع، يقول الأستاذ "حيدر نعيسة" المهتم بجمع التراث الشعبي والشفوي والمنطوق: «إن الأغاني التراثية جزء من التراث الشفوي المنقول عن الأجداد، هذا التراث يتضمن كل ما هو منقول عن الأجداد من حكايات وقصص وأحداث وأغانٍ وغيرها، وبحكم أن قائلها غير معروف، ولا يوجد ما يدل عن مكان حدوثها المحدد، فقد أصبحت ملكاً للجميع، وصالحة لكل زمان بما فيها من عبرة وموعظة، أما الأغاني الشعبية فقد انتشرت أكثر لكونها لا تزال تستخدم في العديد من القرى الريفية سواء في الأفراح أو الأتراح».
وعن الأغاني التراثية يقول "نعيسة": «تختلف الأغاني الشعبية من مكان إلى آخر، فلكل منطقة خصوصيتها بالكلمات واللحن، فالكلمة كالجسم واللحن كالثوب؛ بينما الأداء هو الزينة التي تعطي الجمالية للكلمة واللحن، فالمعروف أن الأغنية تقوم على ثلاث ركائز "الكلمة، اللحن، الأداء"، والكثير من الأفراد يؤدون الأغاني من دون لحن لأن لبعض الأغاني موسيقاها الداخلية وتعبر عنها حتى لو كانت من دون لحن».
كما تتميز الأغنية الساحلية بالتناغم والسلاسة بالغناء والتعبير عن مكنونات النفس، فيقول "نعيسة": «لا يستطيع الكثير من الأفراد التعبير عن الخواطر التي تخالج نفسهم، لذلك كان يلجأ إلى دندنة الأغاني وترديدها للتعبير عن ما يشعر به، وبما أن الأغنية ملك للجميع ولا يمكن وضع حدود مكانية لها وحصرها بمكان محدد، فهي تتناقل مع الأفراد من مكان إلى آخر، ولكن يمكنك التمييز بين الأغنية الساحلية والأغنية الجبلية وأغاني البادية، ففي الأغنية الساحلية نلاحظ التناغم والارتفاع والانخفاض في نغمة الصوت، عندما يغني "الأوف" ويمكن تشبيهها كتضاريس الساحل، لنشعر بحدّة أغاني البادية الأمر الذي يعود إلى قسوة المكان، وبالتالي فالأغنية تأخذ من تضاريس المكان الذي خرجت منه».
وكمثال على انعدام حدود للأغنية وإمكانية استخدام الكلمات من مناطق مختلفة في الأغنية وبالتالي لا يمكن معرفة الموطن الأصلي لها يقول "نعيسة": «لا توجد حدود صارمة بين البيئات التراثية، حيث ننطق حرف القاف في بعض الأغاني كما ينطقها البدو مع أن الأغنية ساحلية، وكمثال آخر هناك أغنية "مابو بالزرع شميّل" كلمة "بو" يستخدمها البدو ولكن تم استخدامها في أغنية ساحلية، ففي الساحل يستخدم "ما في" أو "أفي" وهذا ما يؤكد تناقل الأغاني بين الناس وانتشارها في جميع المناطق وعدم احتكارها في مكان محدد».
فالأغاني التراثية جسدت حالات الإنسان الثماني التي يمرّ بها وهي: الفرح والحزن، اجتماع وفرقة، يسر وعسر، سقم وعافية.