يعتبر مسلسل العراب (نادي الشرق) من المسلسلات الدرامية السورية الناجحة في مرحلة ما قبل الحرب على سورية والمسلسل عبارة عن نسخة معربة بتصرف عن الفلم العالمي الشهير العراب، والمأخوذ بدوره عن رواية ماريو بوزو التي تحمل نفس الاسم.

نجح كاتب السيناريو رافي وهبة في الإمساك بكل قوة في المفاصل الأساسية للنص الأصلي، وتطويعه وملاءمته مع بيئتنا وأوضاعنا السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، كذلك نجح أيضاً المخرج الفذ الراحل حاتم علي في قيادة هذا العمل والمشاركة فيه تمثيلاً أيضاً، وإبراز الهوية السورية الخالصة للعمل بالرغم من التشابه في الكثير من التفاصيل والعموميات مع الفلم الأصل "العراب".

ولم يتأخر الموسيقي إياد ريماوي عن ركب النجاح هذا بتقديم شارة جميلة ومعبرة ومتقنة جذبت المشاهد (المستمع)، وقد تميزت هذه الشارة بأنها رمّزت بالموسيقا فكرة المسلسل الأساسية التي تجسدت في صراعات الحياة، صراع الأفراد والعائلات والأجيال والقوى والثقافات.

1- المؤلف الموسيقي إياد الريماوي

و قد وُفِّق المؤلف ريماوي في "الترميز الموسيقي" لقصة المسلسل في هذه الشارة، وقام بتوسيع دلالتها لتأخذ بعداً إنسانياً شاملاً يتجاوز المسلسل عبر دخول وختام موفقَيْن.

فالدخول كان بموجة إيقاعية متصاعدة، وكأنها صوت "ماكينة زمن" تنقلنا بسرعة من مكان وزمان بعيدين إلى ساحة الأحداث، فقد أوحت المدة القصيرة جداً لهذا الصوت الهادر، وتصاعد شدته (fade in)، بأن هذه الحكاية قادمة من فجر التاريخ الإنساني (الدقيقة 0.9- 0.10)، أما الختام فسأتحدث عنه في نهاية النص لينسجم مع التسلسل الزمني لمجريات الشارة.

2- أحد بوسترات مسلسل العراب (نادي الشرق) إخراج الراحل حاتم علي

وهذا الاتجاه في التفسير والتحليل يدعمه مؤشر آخر تعبر عنه مجموعة الكمان الأولى بالتمهيد عن طريق ضربات متقطعة منتظمة إيقاعياً، متغيرة النوتة حسب الحالة على مدى مجمل الشارة تقريباً (الدقيقة 0.10 – 0.14)، لتبدأ بعد ذلك "الثيمة" الأساسية التي سنسمعها طيلة حلقات المسلسل. فقد كانت هذه الضربات بمثابة حامل زمني ثابت الضربات (مثل تكات الساعة أو ضربات عجلات القطار على السكة أو صوت سنابك خيول العربات التي توحي بالحركة والانتقال الدائم من وضعية إلى وضعية.

من حيث الإيقاع، اختار الريماوي إيقاعاً مركباً ثلاثياً (فالس) لكل الشارة، وكان ذلك اختياراً جميلاً يتناسب مع طبيعة الأحداث والأشخاص الحزينين والقلقين والخائفين، فالإيقاعات المفردة عموماً، لا توحي للمستمع الشرقي تحديداً بنفس إحساس التوازن والاستقرار والثقة التي توحي بها الإيقاعات ذات التركيب الزوجي.

بنظرة شاملة إلى هذه الشارة نجدها عبارة عن حوار أو جدل بين طرفين أساسيين، الأول هو "الثيمة" الأساسية التي تتكرر كثيراً في كل مفاصل الشارة والمسلسل معاً (الدقيقة 0.14 – 0.22)، وترمز حسب وجهة نظرنا التحليلية إلى الشخصية الأساسية في المسلسل "أبو عليا"، ذلك الشخص ذو الأهمية الكبيرة جداً سياسياً واقتصادياً، أما الطرف الثاني في الجدل، فهو مجموعة من الأصداء التكرارية الضعيفة لـ"الثيمة"، وتركيبات لحنية ومنفردات موسيقية (سولو) تتناوب بالظهور مع "الثيمة" الأساسية أحياناً، أو تشاركها الظهور في أحيانٍ أخرى، وهي تمثل الشخصيات الأخرى في المسلسل سواء كانوا من أفراد عائلة أبو عليا أو من خصومه السياسيين أو أصدقائه المسؤولين.

هذه التركيبات والأصداء والجمل الموسيقية كثيرة في الشارة، تبدأ أولى تلك الأصداء بالظهور كصدى "الثيمة" الذي تؤديها آلة الناي أول مرة والمتداخلة مع اللحن (الدقيقة 0.15)، ولكنها تتخذ لها مساراً لحنياً صدائياً مطابقاً تماماً للحن برمزية واضحة جداً لقوة تأثير أبو عليا في الشخصيات الأخرى، لدرجة أن أشخاصاً محبين لأبي عليا كأولاده وإخوته الذين يشكلون في نفس الوقت جيشه المحارب، يتصرفون في حياتهم الشخصية وأعمالهم بتعليمات صارمة ودقيقة جداً منه وكأنهم صدى لصوته!

تتكرر "الثيمة" ثلاث مرات (مع تنويع في تكرار القسم الأول من الثيمة) بطريقة تظهر السطوة والسيطرة التامة على أسماعنا كما يسيطر أبو عليا على الجميع.

وبعد الإعادة الثالثة نسمع انفرادة لآلة الكمان (سولو) بجملة موسيقية هادئة جداً بتركيبتها، ومتناغمة مع إيقاع أبو عليا (الثلاثي)، ولكنها ليست صدى للثيمة كما فعلت آلة الناي سابقاً، بل هي لحن آخر، ولكنها مع ذلك فقد اختارت بخجل وكياسة منطقة صوتية أخفض من المنطقة التي تسيطر عليها "الثيمة" (تبدأ من مي قرار)، ولكنها تتجرأ وتختم بلطف على درجة لا، في دلالة واضحة على أفكار قُدِمت لأبو عليا من أصدقائه المقربين جداً على شكل آراء أو مطالب أو أمنيات أو تلميحات تكاد تقترب من النصيحة لتغيير نمط تفكير أبو عليا، وهو ما نشاهده في المسلسل في سهرات لعب الشدة عند بدايات ظهور ملامح التناقض الأساسي بين أبو عليا وأبناء صديقه القديم الذين أخذوا مكان والدهم (عمران وأخوه)، وبدأت مشاريعهم الخاصة بالظهور، وهي مشاريع يرفضها أبو عليا بما له من سلطة وجاه وأثر على مصير تلك المشاريع.

الرد على ذلك كان بجملة موسيقية من نفس مجموعة الكمان (أي أبو عليا نفسه) لعبت في المنطقة التي تعلو على المنطقة الصوتية للرأي الآخر (سولو الكمان) بالرغم من لطفها الذي يخفي تمسكاً واضحاً بالإيقاع والتركيب والجرس (tembre) مع القليل من الانفعال الذي دلت عليه الجملة (في الدقيقة 1.05) حيث تضمنت سرعة في التقطيعات الزمنية للجملة، في دلالة على تصاعد التوتر في الجدل. يستقر رد أبو عليا على "نوتة مي" التي بدأت منها جملة الكمان الممثلة للرأي الآخر، بنوتة طويلة وكأنها بسط اليد في حركة "تصطنع" الحوار الديمقراطي لتقول للطرف الآخر: تفضل، قل ما لديك!.

هذا التوتر ظهر في المسلسل على شكل رسائل تهديدية أرسلها أبو عليا لخصومه (قتل طاووس أحدهم وتعليقه على الشجرة)، فضلاً عن الكلام المبطن الذي يرسل رسائل تهديدية مرمزة بشكل متقن أثناء الحوار بين أبو عليا والأشخاص الذين بدؤوا بالظهور كخصوم.

بعد ذلك يظهر شيءٌ جديد، يعود الناي الذي كان صدى لصوت أبو عليا إلى الظهور، ولكن هذه المرة بجملة مختلفة، وبرفقة آلة العود (الدقيقة 1.11).

وهنا يبدو أن الخلاف مع أبو عليا قد وصل إلى الطبقة التي تحيط به مباشرةً بالنظر إلى اختيار آلتي العود والناي، ما قد يرمز إلى أولاده وخصوصاً قيصر، الذي أبدى تساوقاً ورغبة منه في الميل إلى رأي جملة الكمان السابقة، ولكن هذا الثنائي الآلي المنسجم (عود وناي) يعود ليقدم فروض الطاعة مع انتظار نتائج مختلفة من أبو عليا، بدليل أنه ختم جملته الموسيقية بنوتة طويلة أيضاً جاءت بعد تونٍ صوتيٍّ نِصفيِّ (عند الدقيقة 1.15).

وكان من المتوقع جداً أن يعود أبو عليا ليؤكد رؤيته ويمليها على الجميع من جديد (الدقيقة 1.17)، ولكن هذه المرة من دون وجود آلات تردد الصدى، بل على العكس، فقد ظهرت في الخلفية مجموعة كمان أخرى تقول جملاً موسيقية لها رأي آخر، وقد ظهرت بخجل في البداية (الدقيقة 1.18) ثم توضحت أكثر فأكثر وصولاً إلى الوضوح التام في الدقيقة 25 وما يليها، ممهدةً لظهور آخر أكثر جرأة للناي كرر فيه سولو الكمان السابق ذكره والذي يمثل الآراء التي طرحت على أبو عليا، ولكن هذه المرة جاءت الفكرة على لسان أحد أبنائه (قيصر) الذي يبدو أنه الحلقة الأضعف في سلسلة الأبناء.

ويتكرر نفس السيناريو السابق في الحوار، إذا يصر أبو عليا على رأيه مرة أخرى، ويعود العود والناي لتكرار نفس جملتهما السابقة.

غير أن أبو عليا لم يرجع إلى المستوى السابق من السلم الذي كان يخيم على الحوارات السابقة، لأن التغير الدراماتيكي الذي يظهر بعد ذلك، يدل على ظهور مفاجئ للعنف، وهو ما تجسد باغتيال أحد أبناء الصديق السابق لأبي عليا. وقد تم ترميز ذلك موسيقياً بالظهور المباغت واللافت للجيتار الكهربائي (الدقيقة 2.01)، بتحدّيه الصارخ لكل الآلات السابقة، وبجملة تعوي كما الذئب الجارح الذي يهجم على قطيع من الشياه، وقد مثلت هذه الجملة التي يؤديها الجيتار الكهربائي الوجه الآخر لأبي عليا.

ومن أهم ما نلاحظه في خلفية مشهد الذئب المهاجم، هو تلك النوتات الخائفة والمتألمة الجريحة التي تظهر بشكل متقطع أثناء أداء الجيتار الكهربائي.

كما نلاحظ أيضاً أن تلك "الهجمة" أثمرت استجابات مستسلمة كررت الثيمة التي فرضها أبو عليا بالعنف، وتمثل ذلك موسيقياً بتكرار الكمان الذي كان قبل قليل يبدي رأياً مختلفاً، لنفس "ثيمة" أبي عليا ولكن بشكل يبدو عليه الخوف، وهو ما ظهر بشكل متقن في أداء عازف الكمان، كما تاه "الناي" عبر جمل ارتجالية حزينة وضائعة بعد تلك الصدمة، وأصبح الإيقاع أكثر قوة وعنفاً بشكل واضح للمستمع.

بعد ذلك تعود الثيمة مرة أخرى، وتعود الجمل المعارضة لتبدي رأيها ولكن هذه المرة بوضوح أكبر في ترميز لتصاعد الاختلاف، ما يجعل أبا عليا مصراً على إظهار وجه الذئب وعوائه مرة أخرى بالتزامن مع "ثيمته"، (الدقيقة 2.54) وهو ما أعطى الشارة بعداً دلالياً في غاية الروعة والجمال ودقة التعبير، وخصوصاً أن كل الآلات تصرخ مع بعضها البعض في "مشهد سمعي" بالغ الدلالة والتعبير، يسجل لهذا الملحن الرائع.

في ختام هذا "المسمع" تبدأ الأوركسترا في التحضير للختام الذي ينقلنا إلى مرحلة أخرى من الصراع، وخصوصاً بعد اغتيال أبي عليا، واستلام ولده الأصغر زمام الأمور.

ففي الختام نسمع جملة موسيقية متصاعدة بشكل التفافي ومَوْجِي متوتر جداً وصلت إلى درجة عالية بالنسبة للمجال الصوتي للمقطوعة، لتقول لنا إن الصراع انتقل إلى مرحلة تالية وجيل تالي، وهذا بالفعل قانون تطور الصراعات في التاريخ الإنساني (الدقيقة 3.15-3.20).

فكما أن الحكاية بدأت في فجر التاريخ البشري حسب مدخل الشارة، ها هي تستمر إلى غروبه، معلنة انتهاء شارة من أجمل وأعمق المقطوعات الموسيقية المتعلقة بالدراما السورية، ومؤكدة حضور مؤلف موسيقي ذي رؤية، وفكر راق، وشخصية مميزة في الموسيقا والحياة.