يمكن اعتبار تجربته الفنية مدرسة بحد ذاتها للأجيال القادمة بغية الاستفادة والتعلم منها، ذاع صيته وشهرته في مدينة"حلب" وبجمال وعذوبة صوته وأدائه الفريد. ولد الشيخ "صبري المدلل" بمدينة "حلب" في عام ١٩١٨ لعائلة ملتزمة بأصول تعلم وحفظ القرآن، سماه والده "محمد" فيما اختار لنفسه اسم "صبري" حباً بالملحن المصري " أحمد صبري النجريدي" وبألحانه التي قدمها للسيدة "أم كلثوم".
وكما يروي الباحث الموسيقي "عبد الفتاح قلعة جي" أن والده الشيخ "أحمد" كان يصطحبه معه إلى المساجد وحلقات العلم لتعلم وتجويد وحفظ القرآن ولجمال صوته سمح له برفع آذان الظهيرة من كل يوم.
فيما يقول الباحث الموسيقي "محمد قدري دلال" عن مسيرة الشيخ "صبري المدلل" بأنه ولد في حي "الجلوم" وحرص والده على علومه الدينية واكتشف جمال صوته وهو في عمر السادسة الشيخ "أحمد المصري" الذي رعاه وصقله وعلمه حفظ القرآن والتجويد ونطق مخارج الحروف والمد بشكل سليم؛ فدفع به إلى الشيخ "عمر البطش" لتعلم الغناء والموشحات والتلحين والأوزان والعزف على العود والمزهر، وكمكافأة له سمح له برفع الآذان، فأعجب المصلون بجمال وعذوبة ونقاوة صوته في مساجد "الكلتاوية" ومن بعده بمسجد "العبارة" ثم الجامع "الأموي الكبير" بجانب القلعة وتابع مشواره الفني على يد الشيخ "علي الدرويش" و"بكري الكردي".
اتصل بالمطرب "أسعد سالم" فتعلم منه غناء القصيدة بشقيها الارتجالي والملحن، ومع افتتاح إذاعة "حلب" وفي عام ١٩٤٩ عملت على استقطابه وتسجيل حفلاته التي كانت تذاع على الهواء مباشرة وبداية التسجيلات كانت من أغنيتين هما "ابعتلي جواب وطمني" و"بيجي يوم وترجع تاني" وهما من كلمات الشاعر "حسام الخطيب"، ولكن العمل بالإذاعة لم يَرُقْ لوالده الذي طلب منه تغير نهجهه الفني نحو الإنشاد والتوشيح والموالد الدينية وحلقات الذكر، فترك الإذاعة في عام ١٩٥٤ وشكل فرقة إنشاد ديني مع "فؤاد خانطوماني"، وادخل عليها عدة أسماء لامعة مثل "حسن الحفار"، لكنه سرعان ما انفصل عنهما وعاد وأسس فرقة خاصة مستقلة به وبدأ بإطلاق حفلاته وأعماله مستلهماً من نموذج الشيخ "زكريا أحمد" و"محمد عبد الوهاب" و"القصبجي" وعلى نموذج "مسلم البيطار" و"توفيق المنجد" بمدينة "دمشق" فنجح بذلك وأعطى لنفسه لوناً فنياً جديداً، وكذلك للإنشاد الديني، واستقطب كبار العازفين وغنى في المناسبات الدينية مثل النصف من شعبان وليالي رمضان وعيد المولد النبوي والأسراء والمعراج واستقطبت حفلاته جمهوراً كبيراً.
ويعهد إليه الفضل في أحياء التراث الفني والموسيقي الحلبي والعربي، فزهت وتألقت على يديه الموشحات والقدود والمواويل وبجمال صوته وأدائه، وذاع صيته بأغنية (الورد والفل والياسمين وكذلك أغنية يا حلاوة الدنيا يا حلاوة، وسيبوني ياناس) ما أثار أعجاب الموسيقار البلجيكي "كريستيان بوخه" الذي زار "حلب" وأعجب بجمال صوت "المدلل" وقام بتسجيل أسطوانة له مع عدد من مؤذني مدينة "حلب".
زار "المدلل" مختلف دول العالم بلباسه العربي التقليدي الشعبي وغنى في مهرجانات "قرطاج" و"باريس" و"بيروت" و"مصر" و"أستراليا" و"البرازيل" وقدم فيها حفلات خاصة به لاقت أعجاب الجمهور والحضور الكثيف، وصدح بأغاني التراث الحلبي من مختلف المقامات والقدود، فكان معلماً ومطرباً بارعاً، وغنى الكثير من أغاني السيدة "أم كلثوم".
وكان لايعجبه من الألحان إلا الرصين، ويحسب للشيخ "صبري مدلل" أنه أول من قام بادخال الآلات الموسيقية مع رقصات السماح إلى حفلاته الفنية والدينية ليشكل هوية جديدة للأغنية السورية وخاصة أنه كان يعتمد على الارتجال والتطريب والغناء جالساً، وكان يعمد الشيخ "مدلل" لإقامة حفلة أسبوعية في حي "البياضة" والغناء حتى وهو مريض، ونظراً لمكانته الفنية العريضة قام المخرج السوري "محمد ملص" بتصويره بفيلم خاص عن مقامات الغناء والتلحين والتوشيح الحلبي.
وتعاقد معه -وهو بعمر الثمانين- الموسيقار الفرنسي عازف القانون "جوليان فانس" لتقديم حفلات بمدينة "باريس" ورثاه الدكتور "عصام الزعيم" بالقول إنه لم يكن مؤذناً ومطرباً فقط بل كان سيداً من سادات عصره وشيخاً من شيوخ الإنشاد والتوشيح الديني والفني ومعلماً ومطوراً للألحان والأنغام والمقامات وكان عظيماً وذا نفس وشهامة.
نال درع مهرجان الكويت في عام ١٩٩٨، وعدة أوسمة وتكريمات محلية رفيعة المستوى.
توفي "الشيخ صبري مدلل" في 20-8-2006 تاركاً إرثاً فنياً عظيماً سيبقى هوية وعنواناً حقيقياً للأغنية السورية.