تميزت أغاني المهد بمدينتي "حلب" و"إدلب" بطابعها الشعبي الجميل المتوارث بين الأمهات تحديداً وباقي الأجيال المتعاقبة، وتشابهت أغاني المهد كثيراً في تلك المناطق الجغرافية بكلماتها ومناسباتها وطريقة حفظها عند ترديدها لأطفالهم منذ الولادة وحتى سن اليفاعة، وأكثر ما اختصت بذلك الأمهات لأنهن كن الملجأ لتربية أطفالهن، وكانت للأم طرق واعية وذكية في توقيت واختيار كل أغنية بمكانها المناسب، من أهزوجة أو ترقيصة أو أغنية تناسب الحالة والعمر والتوقيت، سواء عند النوم والرضاعة أو عند الحبو وبدء النطق أو في مناسبات الأعياد والألعاب.
فكان لهن عدة طرق يستخدمنها ليخلد أطفالهن للنوم، فيمكن لإحداهن وضع طفلها بين زراعيها والغناء الناعم له، والنظر في عينيه حتى يطمئن أو حتى في سرير نومه، وهي تهزه يمنة وشمالاً حتى يغمض الطفل جفنيه ويخلد إلى النوم.
هذه الأهزوجات والترقيصات والهدهدات هي موروث شعبي قديم ومحفوظ أباً عن جد.
وعن طريقة حفظ وتداول هذه الأغاني يقول الدكتور الجامعي بمدينة حلب "محمد حسن عبد المحسن" لـ"مدونة الموسيقا": "برعت الأمهات الحلبيات في حفظ وترداد هذه الأغاني ولحنها بشكل سليم رغم التعديلات الطفيفة التي طرأت على بعض كلماتها وألحانها بسبب انتشار الأجهزة التقنية الحديثة، لكنها بالمجمل لاتزال تقال وتروى بشكل شفهي من مخزون الذاكرة انتقل من جيل لآخر، وانحصرت أغلب الأغاني عند التمهيد لنوم الأطفال وتدرجت وتنوعت مع تقدم الطفل بالعمر وفي مناسبات الأعياد واللباس ودخول المدارس والألعاب".
مُنَاسَبَاتُها وَتَوقِيتُها
وتابع الدكتور "محمد حسن عبد المحسن" وصفه بالقول: "كل مناسبة كنا نجد لها التمجيد والمديح الخاص بها من الأم لطفلها أو طفلتها، وهي تقول لها مثلاً:
يا حبيبتي ويا بنتي- غاب القمر وين كنتي
غاب القمر ونجومه- وتضوي علي انتي
وعند المناغاة واللعب تقول:
أنا حبيتك من قلبي- واشتهيتك من ربي
وإلك خان الحاج موسى- ودكانين بنقوسا
وعند طلب النوم لابنها وهي تهز السرير أو الأرجوحة تغني له:
نام يا ابني نام- لأدبحلك طير الحمام
يا حمامات لا تخافو- عم هدي لابني لينام
يا جمال ويا عمي- ما بريدك بريد أمي
يا جمال أبو الجمل- هات النوم بالعجل
هات النوم للعينين- هات الحسن للخدين
وعندما يسمع الطفل هذه الأغاني والمناغاة يعيش في حالة راحة وفرح وهدوء، مثل:
آه آه و يا أبني- ويا جمال ويا عمي
نيمتو بالمرجوحة- وخفت عليه من الشوحا
وهزيلو يا صبوحة- بلكي عا صوتك بينام
نيمتك بالسرير- ولبستك طقم الحرير
نيمته بالعلية- وخفت عليه من الحية
وغنيلو يا راضية- بلكي عا صوتك بينام
فيما تردد بعض الأمهات لطفلها عند النوم الأغنية الشهيرة للمطربة "فيروز":
يالله تنام يالله تنام لدبحلا طير الحمام /روح يا حمام لا تصدق/ عم بضحك ع ريما تتنام
ريما ريما الحندقة /شعرك أشقر ومنقّا ...إلخ
وإذا كان اسم ابنها عبد الدايم غنت له: يا لله ويا دايم تحفظلي عبد الدايم / يالله يا عيني- بعمرك ماتشوف همومي .
ولدى الأم عاطفة قوية تجاه ابنها، فنرى الأم تهدهد وليدها وترقصه وتدلله وتعبر بمناغاتها وأهازيجها عن حنانها وحبها بعبارات توارثتها عن أمها وجداتها كما في مناغاتهن:
نامي يا بنتي نامي- لا يروح يجي الحرامي
وياخد حلقك من ادنك- ويشلحك جوز الصرامي
قتلوكي عيوني قتلوكي- وماعرفوا مين أبوكي
لو عرفوا مقامك عندو- والمراتب لكان صمدوكي
نيمتك بسرير نحاس- هزيلو يا أم عباس
وعندما يدخل الطفل عامه الأول وتتغير ملامح شكله ولباسه ويبدأ بنطق بعض الكلمات، هنا تتفاخر به أمه وتغني له:
على تستك تستك تستاية- على عرسك لاطبخ رشتاية
وإن عيروني البنات- لاضربهم بالجمجاية
تستك تستك يابنتي- غاب القمر وين كنتي
وعندما تلاعب طفلتها تغني:
هزي راسك ياميمة- راسك راس الحمامة
وعندما يبدأ الطفل بتعلم المشي:
دادا شطه بطه- مشيتك مشية قطة
دادا خروف محشي- وبكرا ابني بصير يمشي
وإذا رفع يديه أثناء المشي، تغني له:
بإيدي علقت المنخل- رفاع السقاطة وادخل
حوحو حوحو يابردي- قشة حطب ما عندي
عندي بنية غندورة- بتضرب لي بالطنبورة
طنبر طنبر طنبركي- رب السما ينصركي
ويكون ذلك بأن يفتح الوالدين راحتي يديهما ويسبقوا الطفل بخطوة وهو يحاول الجري نحوهم، وهذه طريقة لتعويد الطفل على المشي مع مراقبته خشية وقوعه.
وفي أغاني التصفيق
صفق صفق نينه- بابا جاب حنينه
لأحنّي ديات بنتي- والباقي للنينه
صفقي لتنفقي- إن صفقتي نفقت
وإن ما صفقت- إن شاء الله تطلقت
وللعيد وطبخه أهازيج خاصة تغنيها الأم لطفلها:
باص باص بصينا/ يوم العيد تعشينا /تعشينا فاصوليا/ كبه ولحمه مشويه /بف بف طبخنا/ بف بف نفخنا /بف بف خفس مطبخنا /يا أولاد العيد/ أبوكن سعيد لفاحة حمرا/
وطربوش جديد.
وفي ساحة الحارة واللعب بالمرجوحة تغني:
ياحج محمد يويو/ عطاني حصانك يويو/ اشد واركب يويو /الحق أسكندر يويو
بناته سود يويو شغل القرود يويو / عندي وزة يويو /بتاكل رزة يويو/عندي ديك يويو / يلقط لسطيك يويو ...إلخ.
وهناك أغنية للباس الجديد في العيد ترددها الأم ليلة العيد:
الليلة عيدي /
إي والله
لبست جديدي/
إي والله
بوقف عا لكرسي /
إي والله
بحكي إفرنسي/
إي والله
فستاني الأخضر /
إي والله
حلو ومكشكش/
إي والله
بوقف عا الكرسي/
أي والله
اللعبة الشهيرة الطاق طاق طاقية :
يقوم الأطفال عادة باللعب في المدارس والساحات القريبة منهم ويذهب المعلم برفقة تلاميذه ويصفهم بشكل دائري ويكون عددهم كبيراً ويطلب من جميع الطلاب الجلوس على الأرض متربعين ثم يختار المعلم واحداً من الطلاب ويحمل بيده منديلاً أو طاقية، فيأخذ الطفل بالسير خلف دائرة التلاميذ ويغني وهو يقول:
طاق طاق طاقية
رن رن ياجرس
حول واركب عا الفرس
ويردد الأطفال ذلك لمرتين وعلى حين غرة يضع حامل المنديل أو الطاقية خلف أحد الجالسين ويهرب راكضاً حول التلاميذ، وكل واحد يجب أن يكون متيقظاً وحذراً من وضع المنديل أو الطاقية خلفه،
فإذا علم أن المنديل وضع خلفه أدار جسمه ووقف وتناوله وأخذ يركض خلف واضعها، فإذا لحق به قبل أن يكمل دورته ليجلس بقي اللعب من نصيب الأول وإذا ركض الأول وجلس مكان الطفل الجديد الذي حمل المنديل يتابع زميله بحيث يقوم بدوره، وهكذا تتكرر اللعبة حتى يأتي الدور على الجميع وينقضي الوقت ببهجة وفرح وسعادة.
وتعد تلك اللعبة مع أغنيتها من أشهر الألعاب المنتشرة في بلاد الشام.
وهناك اللعبة الخاصة بالفتيات وهي حلقة نصف دائرية ويمسكن بأيدي بعضهن ثم يقفزن قفزات متزنة مع الدوران، ترافقها أغنية:
افتحي يا ورده /هون عايده سيتي يا ورده/ قال لي البابا عدي للمية/ عشرة عشرين
ثلاثين أربعين/ خمسين ستين سبعين ثمانين/ تسعين مية
ثم يصحيون بصوت واحد : هادا هو الحرامي اللي سرقنا المصاري
وفي تفاخر الأم بأبنها أمام الجيران، تغني له: متلك مية/ لكل مشتهية
متلك سبعة/ حوالي القصعة /وماما حبله/ تكملهم عا التسع.
وفي بعض الأوقات تقوم الأم بتقديم أغاني لطفلها تدلل على تقديم كل مالديها فداء لابنها، وتغني له: تقبرني تقبر تقبر/ تنزل ع التربة وتحفر /تقبرني وتحل الشاش/ تبكي علي دموع رشاش /تقبرني ياشريك قلبي/ تقبرني جوا التربة /تقبرني مو هلق /حتى جهيزك يتعلق /تقبرني مو اليوم/ بعد عرسك بمية يوم.
وبكل أغاني المهد والطفولة تجلس الأم بشكل مواجه لطفلها والذي يكون عمره حوالي العام أي عندما تبدأ مشاعر الغيرة لديه بالظهور، تضع الأم طفلها الجالس فوق رجليها وتمسك يمناه بيسراها وتمسك يسراه بيمناها، ثم تنشد له محركة رأسها نحو الأمام والأسفل وهي تقول:
حج الله يا حج الله/
سمنة وعسل بالجرة
باكل أنا وحموه /
وبنقلع البيسه لبره .
أو تغنى بشكل آخر
حج مجي ياحج مجي /
رحت وجيت على إجري
لاقيت صبي عبعبي مي /
قلتلوا سقيني شوي
سفق سفق نينه/
بابا جبلي حنينه
لحني أيدين حمودة /
والباقي لعميمه
جانم جانم بالتركي/
أحمد باشا ناطركي
أحمد باشا قدامك / شايل بقجة حمامك
حمامك تحت القلعة / وخدامك ستة سبعة
كل هذه الأغاني تخلق البهجة والسعادة والراحة النفسية للأطفال، وهي مترابطة بالقول والفعل والزمن والأثر وحركة العينين واليدين، فمن أقدر من الأم على إيصال رسائلها العاطفية المتنوعة لطفلها؟