اجتهد كثيراً وتعب ليحفظ ويصون تراث الماضي وأصالته من التشتت، عدّه أبناء بلدة "تل حميس" الأكثر حرصاً لحماية ثقافة ماضي المنطقة الفنية، لم يهجر الآلات الموسيقية التراثية الخاصة بالجزيرة السوريّة، استمر بالعزف والغناء عليها طوال مسيرته الفنية الطويلة، عزف عليها بإتقان، غنى بكل اللهجات، بات اسمه مرتبطاً بالفن والتراث والفلكلور.
لا يهجر الفنان والشاعر "إبراهيم خليل الساير" غرفته التراثية أو "ربعته" التي تحمل عدداً من الآلات الموسيقية التراثية، وتدون ذكريات فنية جميلة وكثيرة للماضي البعيد، يأبى إلا أن تكون السهرات الفنية التراثية في ذلك المكان، الذي يعتبره المكان الأجمل والأغنى، تتوافد عليه زيارات من مخالف المناطق والقرى والبلدات القريبة والبعيدة وبشكل شبه يومي، لسماع الماضي وعبق التراث والفلكلور الجزراوي حسب ما قاله.
في قريته الريفيّة "عمارة" التابعة لبلدة تل حميس بمحافظة الحسكة، ينثر صدى عزفه وغنائه التراثي بشكل دائم، حتّى لا يتعرض للهجران والنكران، ويضيف في حديثه لـ"مدونة الموسيقا": "تعلقت مع الفن، خاصة مع الفلكلور في سن مبكرة، في السبعينيات لم يكن في القرية إلا تلفاز واحد، يعرض بشكل أسبوعي برنامجاً عراقياً اسمه "من البادية"، يقدم عديد الفنانين العراقيين العمالقة حينها، بات ضمن برنامجي الأسبوعي التواجد أمام ذلك البرنامج، عمري 6 سنوات، كل ما أسمعه من شعر وغناء وعزف يترسخ في ذهني لأول مرة، احفظ بيت العتابا والنايل والسويحلي تلقائياً، أصبح عمري 14 سنة، وجدت من حولي دعماً وتشجيعاً كبيرين".
صوت "إبراهيم الساير" من أجمل الأصوات، وعزفه في هذا العمر، عزف متميز، سمع من فنانين ومحبي الفن هذا الكلام، فانطلق للساحة الفنية: "غنيت لعمالقة الفنانين العراقيين أمثال "إبراهيم الفرحان، مهدي غايب"، الرعيل الأول للفن العراقي في السبعينيات، يظهرون في برنامج تلفزيوني ومنهم أيضاً "ناصر حيكم" مواليد 1910، وأول آلة عزفت عليها المجوز، كنت راعي غنم عمري 6 سنوات، فالراعي من دون مجوز لا يجد طعماً لحياة الريف والبرية، فـ"المجوز" هي الصديق والأنيس، اشتريت المجوز بـ6 قروش من أسواق القامشلي، تعلمت العزف من زميلي "محمد غنام الأحمد"، راقبت حركات النفخ واليدين، كنا أطفالاً هو يعزف وأنا أسمع، بفترة زمنية أقل من شهر تعلمت وأبدعت وباعترافه، فقد أضفت على عزف المجوز قلب النفس، لكي لا ينقطع الصوت والعزف".
أنجز عدّة حفلات ريفية، وشارك في مناسبات فنية وغنائية وعمره لا يتجاوز الـ14 ربيعاً، زاد حب واحترام الأهالي له، اتّجه للعزف على آلات أخرى، يقول عنها: " كانت مرحلة العزف على الربابة، لأن أخي كان عازفاً وماهراً بالعزف عليها، كنت أتابع عزفه عليها أمام الناس ضمن الربعة يومياً، عند المساء وهم نيام أغلق الباب على نفسي لأعزف وحيداً حتّى الصباح، بعد فترة من الزمن، جاء العيد، فيه تكون الحفلات والعزف والغناء، فاجأتهم بالعزف على الربابة، اندهشوا واستغربوا وتساءلوا كيف تعلمت ومتى؟ خاصة أنني عزفت "عتابا ونايل وسحويلي" وهي طريقة مميزة للربابة خاصة بالفنان العملاق "ملا ضيف الجبوري"، قدمت في العيد طبقاً رائعاً من العزف والغناء، الربعة من دون ربابة ناقصة، والعكس صحيح، فهي من أهم طقوس البادية الفنية".
إلى اليوم يستمر بالعزف والغناء والجلسات التراثية قائمة من خلاله، والسهرات الفنية حاضرة، والناس يتوافدون عليه من قرى قريبة وبعيدة ومناطق كثيرة، ورجال باتوا بسببه متعلقون أكثر بالفن والماضي والتراث، مجلسه المسائي اليومي عامر بعبق الماضي.
أول آلة وترية عزف عليها العود، متأثراً جداً بعملاقي الفن "وديع الصافي وفؤاد غازي" حسب كلامه، أحبّ الآلة بسببهما، وبات عازفاً ومتقناً للعزف عليها من خلال مراقبة حركاتهما عليها، يجيد الغناء والعزف بكل لهجات الجغرافيا السورية، سواء القدود الجبلية أو التراث الجزراوي المنوع، والساحلي إلى جانب العراقي.
لديه عشرات الكاسيتات وزعت في مختلف مناطق القطر، يكتب الشعر النبطي والفصحى ويسخره لكتابة وتأليف وتلحين الأغاني، أكثر تركيزه على التراث البدوي، وتعلم وعزف على آلات أخرى بعد متابعتي ومشاهدتي لفنانين أكراد هم عمالقة في العزف على البزق أمثال "سعيد يوسف، سعيد كاباري، عادل حزني، ثم كان العزف على الناي والجمبش والبغلمة والطمنبورة، والعزف على الأوراك بجودة أقل، على الدف أيضاً، وصنعت آلات على يديّ كالربابة والمجوز".
يؤكد الساير أن الأمانة التي حملها على عاتقه أمانة ثقيلة ومهمة، يتمسك بكل ما له علاقة بالماضي من تراث وفن وفلكلور، المجلس الذي خصصه لذلك، لن يهجره ولن يفارقه، طالما هناك قدم واحدة ترتاده ليسمع عبق الماضي، فهو يؤكد أن رواده باقون ومستمرون فيه، تكمن سعادته وراحة باله من تواجد أذواق الماضي وحتّى الحاضر.
بالإضافة إلى العدد الكبير من محبي "الساير" من مختلف أطياف الجزيرة السورية، هناك نخبة من فنانيها أيضاً ومن كل اللهجات واللغات يجلون عمله وتوجهه الفني، منهم الفنان الكردي "محمد خالد" فقد أشاد بالعمل الفني الكبير الذي يقوم به زميله، وما يقوم به يستحق التقدير والشكر، يحافظ على الماضي، يجيد العزف على عديد الآلات الموسيقية، يجعل مجلسه للشعر والفن والسمر، كثير من الأهالي يخصصون زيارات دائمة لمنزله...كما أضاف "محمد خالد".
"إبراهيم خليل الساير" من أهالي قرية عمارة، مولود عام 1966.