قدم الموسيقار الخالد "فريد الأطرش" تجربة فنية غنية في مجالات الأغنية العربية وقوالب تأليفها، بحيث تميز في الطقطوقة، والمونولوج، والديالوغ، والأغنية الشعبية، والقصيدة بشكل متأخر، واقتحم الأوبريت وتفوق على العديد من المبدعين ذاك الزمان بما قدم ودونها في عالم السينما من خلال أفلامه اتي تجاوزت ثلاثين فيلماً.

السِّينَمَا وَتَأثِيرهَا وَتَوثِيقهَا

لم يكن فريد يريد اقتحام السينما إلا بعد أن أراد الولوج في عالم التلحين والغناء بشكل احترافي، بحيث وقف إلى جانب عمالقة التلحين "القصبجي والسنباطي" في فيلم "انتصار الشباب" وكونت ألحانه انتصاراً لشبابه، وبرز في تلك الألحان ثلاث مواهب إبداعية جديدة قدمها في تلك الأيام وهي موهبته التلحينية التي شكلت ظاهرة إبداعية حينما تنافس مع "القصبجي والسنباطي" في مستوى الجمل الموسيقية، وأبرز شخصية اسمهان في التمثيل والأداء الصوتي السبرانو الغربية من خلال لحنه "ليال الأنس" وما قدم لها العمالقة القصبجي والسنباطي" أيضاً من ألحان واستثمارا الطاقة الصوتية في التعبير والوصف والواقعية، والثالثة كانت ظهور ولأول مرة الراقصة "ساميا جمال" في الكورال والخلفية الفنية، رغم أن السينما في "مصر" كانت في بداياتها لكنها فرضت تحولاً ملحوظاً، وهذه التحولات انعكست على حياته باقتحامه للسينما ودورها في مسيرته، بحيث وثق حياته الاجتماعية ومعاناته الفنية والعاطفية وفق السياق الزمني والأحداث التي مر بها، ولكن السؤال هل كان فريد الأطرش يجيد التمثيل وهو الذي وقف أمام عمالقة السينما مثل عماد حمدي وعبد السلام النابلسي ويوسف وهبي، وإسماعيل ياسين، وعادل أمام في بداياته، وكمال الشناوي، وغيرهم من العمالقة في التمثيل؟

وهل الفوارق التعبيرية في الإقناع بالأدوار التي قدمها كانت واضحة؟

1- فريد الأطرش

لعل الإجابة على هذا السؤال تكون الإجابة عليه بمقدار ما حقق من نجاح جماهيري في عرضه لأفلامه، وكيف كان الإقبال على دور السينما لحضور وتتبع أخباره يقيناً أن جمهور فريد الأطرش كون معه علاقة في تتبع سيرته ومسيرته، رغبة منهم بمعرفة ما كان يعيش من معاناة كبيرة اجتماعية ونفسية وعاطفية وسياسية، وبالتالي استطاع من خلال السينما تجاوز صعابه ويمزج كل همومه تلك في ألحانه وإبداعاته من خلال الأوبريتات التي تفوق بها على مؤسسها عربياً كامل الخلعي منذ عام 1914 إلى حينه..

الناقد "كمال النجمي" الذي وصف في إحدى مقالته صوت فريد الأطرش بأنه يخرج من عنق زجاجة يقول في كتابه "نجوم السينما": لم يكن فيلم «انتصار الشباب» الذي وقف فيه فريد الأطرش، أول مرة أمام الكاميرا عام 1941، عنواناً للفيلم فحسب، بل وصفاً وتجسيداً، لحالة، لقد كان بالفعل انتصاراً للشباب.. فهو جواز المرور إلى أوسع مجالات الشهرة، ليس بالنسبة لفريد الأطرش فقط، ولكن لشقيقته أسمهان أيضاً.. وجاء نجاحُهُ الكبير ليعزز مسيرة المخرج -الشاب حينذاك- أحمد بدرخان.. وفي خلفية إحدى الأغاني، ضمن المجاميع، ترقص أول مرة على الشاشة، سامية جمال.

2- بوستر دعائي لفيلم انتصار الشباب

وعلى الرغم من أن فريد الأطرش لم يكن له ميل إلى فن التمثيل، إلا أن أحمد بدرخان، بحسه السينمائي المرهف، قدمه في أفضل صورة ممكنة ولم يخيب فريد آمال المخرج، على نحو عفوي، وأحاطه بعدد لا بأس به من المشاركين الذين يبعثون الحيوية في أي عمل يشاركون فيه حتى وصل إلى درجاتهم.

في الأفلام التالية لـ«انتصار الشباب» عام 1941 لأحمد بدرخان مثل «أحلام الشباب» لكمال سليم 1942، و«شهر العسل» لبدرخان 1945، و«جمال ودلال» لاستيفان روستي 1945، و«ما قدرشي» لبدرخان 1946، و"بلبل أفندي" عام 1948 لحسين فوزي، و"أحبك أنت" عام 1948 لأحمد بدرخان، و(عفريته هانم) عام 1949 لهنري بركات، حيث يطالعنا في دور المطرب القادم من سحب الرومانسية، الذي يحب بكل جوارحه، والذي يعبر عن مشاعره بوجه محدود الانفعالات، وبأغانٍ لا حصر لها.

3- بوستر ملون لفيلم انتصار الشباب... أول أفلام فريد الأطرش

وليست مصادفة أن يسند القاسم الأعظم لأفلامه إما لأحمد بدرخان، أو بركات الذي بدأ مسيرتَهُ معه بفيلم «حبيب العمر» 1947، حتى «نغم في حياتي» 1974، مروراً «ماتقولش لحد» عام 1951 و"لحن الخلود" عام 1952 و«رسالة غرام» عام 1954 لهنري بركات و"تعال سلم" عام 1950 لحلمي رفلة و«قصة حبي» عام 1955 وأزاي أنساك عام 1956 و«ماليش غيرك» عام 1958.

فكل واحد يتميز بنزعة رومانسية واضحة، بجماليات شكلية، تتجسد في اختيار أماكن خلابة، مثل الحدائق وشواطئ البحر وصفحة النيل.

4-فريد الأطرش مع خطيبته سلوى القدسي والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ

ولكم تندهش، وتتساءل: كيف يشتري "فريد الأطرش" وبركات قصة «دعاء الكروان» "لطه حسين" من دون أن يعلما شيئاً عنها، على أن الأهم هو ذلك الإصرار من "فريد الأطرش"، على أن تبقى صورتُهُ كعاشق معذب ولهان، هي الصورة الأبدية له.. وهي الصورة التي فرضها حتى على مخرجين من قامة يوسف شاهين، الذي أخرج له «ودعت حبك» 1956، «وأنت حبيبي» 1957، أو صلاح أبو سيف الذي قدم له «رسالة من امرأة مجهولة» 1966، أو كمال الشيخ الذي أخرج له «من أجل حبي» 1959.

وهذه الأفلام تنتمي لفريد الأطرش أكثر من انتمائها إلى المخرجين الكبار الثلاثة. وإذا كان فريد، في أعماله الأولى، يعبر عن نوع من طموح الفنان الذي يريد أن يثبت ذاته، ويقدم «أوبريتاته» الجديدة، فإنه، بعدما تقدمت به السنوات، وأصبح شهيراً، وبدأت التجاعيد تزحف حول رقبته وتحت عينيه، اندمج في دور «العبقري» الوحيد، الذي يعاني أحزاناً لا تنتهي.. وها هو يغرف من آلامه، المجهولة المصدر، كما في «حكاية العمر كله» لحلمي حليم 1964، حيث تقف فاتن حمامة، إلى جانبه، وتهبه قلبها كاملاً.. أو في «الخروج من الجنة» لمحمود ذو الفقار عام 1967، لعل تمتع فريد الأطرش بصوت حنون، دافئ، يمتلئ بالشجن، ومحافظته بألحانه على طابعه الشخصي القوي، المستقل، والأهم، أنه في العديد من «أوبريتاته» داخل الأفلام، ولعلكم تتذكرون استعراض «بساط الريح»، في «آخر كذبة» لأحمد بدرخان 1950، كيف حافظ وأكد على شرقية الغناء العربي المصري، وشرقية الغناء العربي الشامي، وشرقية الغناء العربي التونسي، وشرقية الغناء العربي العراقي والمغربي والسوداني واللبناني، وعلى نحو جعل الجمهور العربي، في كل مكان، يحتفي به، وبفنه، احتفاء عظيماً..

نستطيع القول إن الموسيقار "فريد الأطرش" اقتحم السينما وأثبت وجوده كفنان شامل في التمثيل والتلحين والغناء والأداء والإقناع بما قدم، وكون صورة للنقاد ومادة علمية للبحث في مضامين العمل الفني لتقديم الرؤية النقدية ذات حكم قيمة فنية على أعماله في تطوير الأعمال السينمائية والموسيقية والغنائية، ويبقى فريد محرض لأسئلة متنوعة أهمها ماذا قدم في الطقطوقة والأوبريت والأغنية الشعبية والديالوغ والقصيدة، بعيداً عن السينما..

المراجع:

[1] نجوم السينما، كمال النجمة، دار مصر.

[2] مخطوطة التعالق بين الأدب والموسيقا، معين حمد العماطوري.