يهل علينا السادس والعشرين من كل عام لنستذكر فيه قامة فنية عمالقة شكلت في عالم الطرب والغناء والموسيقا. وقفة تأمل بما خلفته من أعمال إبداعية وجعلت الباحثين والنقاد يعملون على رفد أقلامهم بتعابير تتلاءم طبيعة الإبداع وتمرده الإبداعي، إنه الموسيقار الخالد فريد الأطرش الملقب "بلبل الشرق".
زمَنُ التمرُّد
حينما نذكر العمالقة أبو العلا محمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب في القرن الماضي لابد أن يذكر فريد الأطرش كواحد من هؤلاء العمالقة، الذين رسموا للغناء والثقافة العربية الفنية خريطة ما زلنا نستدل بها... إذا كان فيما بينهم التنافس والتمرد على واقع بعضهم بعض بالإبداع والمستفيد كان الجمهور حقيقة.
ولعل السؤال الدافع لنا ماذا أضاف فريد الأطرش بإبداعه وهل نافس العمالقة حقاً بالطقطوقة والمونولوغ والقصائد والأغنية الشعبية؟
لقد استطاع فريد الأطرش أن يرتقي بفن المونولوغ الذي جاء به القصبجي، وتشهد أعماله على شاعريته الشفافة التي أعطاها وبخاصة في مونولوغ "رجعت لك يا حبيبي" ففي هذا المونولوغ الذي غنته اسمهان ما بين عامي 1939 – 1940 يرى النقاد أنه جسد أسلوباً خاصاً به وبشخصيته الفنية، ففيه نشعر بنغمات أوتار عوده الواضح النبرات، وقدراته الفنية وألحانه الجميلة خاصة عندما غنت أسمهان عبارة: "في كل يوم يزداد حنيني إليك" وأيضاً عبارة "كان قلبي عليل ومالوهش خليل" ومطلع الأغنية الذي هو على مقام الكرد يضع أربع قفلات، وهذا الأمر كان جديداً على الملحنين آنذاك، فبعضهم اعتبره ضعفاً وبعضهم الآخر اعتبره تجديداً والأخير هو الأصح... وذلك لأسباب من أهمها لزوم كلمات المونولوغ التي تعبر عن عودة الحبيب والعودة إلى الحبيب وفي الحالتين عبر فريد بقفلاته الموسيقية تعبيراً شاعرياً ووضع القفلات الأربع للتعبير عن كل غصن بجملةٍ موسيقية غنائية تختلف عن سابقاتها وهذا برأي يعتبر إبداعاً في فكره الموسيقي وقيمة مضافة للموسيقا العربية.
وهناك سؤال يطرح: مَنْ اقتبسَ مِن الآخر؟ هل اقتبس الأستاذ من التلميذ أم العكس؟ مونولوج رجعتلك يا حبيبي، ومنولوج رق الحبيب، وهما في عام واحد ولربما في شهر واحد.! وما زال النقاد يبحثون عن الذي اقتبس من الآخر وما زال السؤال مستمراً إلى يومنا هذا؟
القصائدُ
على صعيد القصائد قدم فريد الأطرش ما بين عامي 1934–1940 مجموعة من الأغاني والقصائد من بينها/ ختم الصبر بعدنا بالتلاقي (حسين شفيق المصري/ راست/) ثم يا نسمة تسري (يوسف بدروس/بيات) ولم تأخذ منه القصيدة حيزاً كبيراً كما الأوبريت والمونولوغ والأغاني الشعبية، فتهم بالتقصير في مرحلة من حياته الفنية، حتى تجرأ البعض ليقول بأنه غير قادر على تلحين القصائد، فأنكب فريد على تلحين قصائد الأخطل الصغير وغيره من الشعراء بطريقة الملحن المحترف، ولكن القصائد تحتاج إلى المد الصوتي وفريد في منتصف الخمسينيات أصيب بذبحة صدرية وقلبية، ودخل المشافي... وبعد كل حفلة كان يحتاج إلى الراحة طويلة حتى منعه الأطباء عن الغناء وخاصة الموالات ولكنه كان مصراً على أن يبدع في كل مرحلة من حياته شيئاً جديداً وفي الستينيات توقف قلب الموسيقار الكبير فريد الأطرش لعشرة دقائق في أحد المشافي البريطانية وأصر الأطباء عليه ترك الغناء والحفلات لأن وضعه الصحي لا يسمح بذلك، وعاد في قلبٍ ضعيف جداً وهو بشريان واحد والمنافسة قائمة وهي على أشدها والاتهام قائم أنه لا يجيد تلحين القصائد وهو المبدع الذي لا يتوقف عن حد معين بإبداعه فقدم لجمهوره ومحبيه أغاني عاطفية وطربية ووطنية والشعبية، ولكن بقالب القصائد كان رصيده قليلاً، وعلى الرغم مما كان عليه فقد لحن "عِشْ أنتَ، وأظنيتني بالهجر، لا وعينيكي ووردة من دمنا، وغيره الكثير.
ولم يكتف بذلك من التحدي بل أدخل في غناءه للقصائد تجديداً في نوع التفريد الذي لم يكن سائداً في تلك الأيام تفريداً بطريقة /الموال/ في منتصف القصيدة كما فعل في "عش أنت" وهذا أيضاً يعتبر جديداً في غناء القصائد حتى قلدوه الكثيرين واستخدموا الموال في منتصف الأغنية الشعبية، وكأنه يقول عدتُ بحلةٍ جديدة في غناء القصائد وهو الذي كان يقر بأنه لا يمكن الاستغناء عن الشعر في الغناء العربي الأصيل.
الأغنيةُ الشّعبيةُ
ما قام به بالعمل على طقطوقة والمونولوج والقصائد وتفرده بالعزف على آلة العود، لم يكن أقل ما اشتهر بأنه مطور للأغنية الشعبية لا بل يمكن الجزم أنه طور بها أكثر من سيد درويش نفسه الواضع لها أسس ولكن كيف ذلك؟
في الأغنية الشعبية استطاع فريد الأطرش أن يجسد شخصيته الفنية في ألحانه وبشكل خاص في الأغاني الشعبية إذ جعلها تحمل هوية خاصة به وبشخصيته ورسم معالم الأغنية الشعبية في الوطن العربي إلى درجة كبيرة، حتى أن المستمع يتعرف بسهولة إلى أية أغنية من أغانيه غناها مطربون عرب بأن الأغنية هي من ألحان فريد الأطرش، وفريد هو مغني ألحانه عدا القليل الذي أعطاه للمطربات والمطربين الذين ظهروا في أفلامه، أو لم يظهروا... كوديع الصافي ومحرم فؤاد وفهد بلان وصباح وسميرة توفيق وغيرهم، وهو كما أسلفنا أول من استخدم أسلوب "المواليا" في العرض الصوتي في الأغنية، وعنه أخذ المطربون والملحنون الآخرون وفي مقدمتهم محمد عبد المطلب ومحمد عبد الوهاب وهو بحق سيد الأغنية الشعبية وشخصية لحنية واضحة، لم يحاول أن يقلد أحداً، أو يتبع أسلوب أحد، ومن هنا جاءت شهرته بل أجزم كثير من النقاد أن تفوق على مبدعين الأغنية الشعبية وأهمهم سيد درويش فهو استطاع ان يتربع على عرش الأغنية الشعبية بلا منازع.
أخيراً لابد أن أشير بمقولة للموسيقار الخالد فريد الأطرش في الموسيقا بقوله: "إن النجاح إذا ما تم في ليلةٍ بدا كأنه نسيج حلم، إن الحقيقة تكمن فيما هو مستمر وفيما هو دائم".
يبقى السادس والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1974 عند الساعة الرابعة مساءً، هي اللحظة التي نستذكر فيها كل عام رحيل الموسيقار الخالد فريد الأطرش.