ظهرت المدرسة الحلبية كجزءٍ من التراث الثقافي السوري المترع بالفنون والمواهب، وتميزت هذه المدرسة بنوعٍ خاصٍ من الغناء عُرف بـ"القدود الحلبية" ومؤخراً سجلت هذه "القدود" على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لدى "اليونسكو".
هكذا بدأ الباحث في التراث الشعبي "محمد فياض الفياض" حديثه لـ"مدونة الموسيقا" حول مكانة القدود الحلبية وتعريفها شارحاً بقوله: «هي ألحانٌ صوفية ولدت مع النفس الإنسانية، عمقها الفنان الشعبي ونثرها في حنايا روحهِ لتصبح حاجة روحية تتوحد بمفرداتها في لحظات التجلي والعشق الإلهي لتتمازج بصورٍ فنية مُشكلة وحدة متجانسة قوامها الإبداع والتفرد في عالم الغناء، والقدُ لغةً: "هو القامة أو القوام والقدْر أو المقاس أي المقدار"، أما اصطلاحاً: فهو أن تصنع شيئًا على مقدار شيء، في الإيقاع والموسيقا وما يوافقهما، وفي "القد" قد تتماثلُ القافيتان وحرف الروي في المجمل».
وتعرف "القدود" بأنها منظومات غنائية أنشئت على عروض وألحان شعبية ذات سيرورة وديمومة، بحيث يتم المحافظة فيها على الوزن والإيقاع الموسيقي، ويستبدل فيها الشاعر النص الشعبي المكتوب بلغتهِ الأم بنصِ جديد مكتوب غالباً باللغة الفصحى، وهذه القدود لا يُعرفُ ناظمها أو ملحنها، وقد نسجت على "أعاريضَ" وألحان دينية سابقة دون زيادة أو نقصان، فيظلُ اللحن كما هو، وتوضع الكلمات الغزلية الحديثة بدلاً من الألحان الدينية المستبدلة، إذ يستفاد من اللحن الأصيل في خدمة أغراض جديدة مستحدثة تلبي حاجة المجتمعات.
من العباءة الصوفية
ظهرت القدود بحسب الباحث "الفياض" كنوعِ من الثقافة الجديدة وجاءت رشيقة خرجت من العباءة الصوفية باحثة عن مجتمعٍ لتعبرُ عنهُ، فبرزت كعبق العطر الوجداني موشحة بأريج الطرق الصوفية مثل (القادرية، الرفاعية، النقشبندية، والدسوقية) وغير ذلك من طرق.
ويكمل: «لا شك أن الشعر الشعبي يُعدُ حالة من الإلهام، ينتقل بالتدريج من اللغة السهلة البسيطة إلى اللغة المترفة بمفردات، ويحاكي البيئة معتمداً على موسيقا الأناشيد الدينية الروحية والتي يحاول مغنّو "القدود" تطويرها بحسب ثقافته ومعرفته، ومقدرته الصوتية بتطوير وتقصير الكلمات والنغمات، وامتلاك لغة موسيقية ترمي بثقلها على الألفاظ حتى تصبح لغة متفردة لها مكانتها».
مؤكداً أنها ذات طبيعة حرة، طليقةٌ تتماشى مع الطقوس المحيطة في المجتمع الديني والأجواء الاحتفالية الأخرى، فنجد الفنان يُعلي الزخارف الموسيقية المترافقة مع اللحن، وقد يستعين ببعض النغمات خارج حيز المقام، فهو يحاول التجديد والتحديث والتطوير في المقامات، كما في هذا اللون من الغناء:
يا إمام الرسل يا سندي أنتَ بابُ الله...معتمدي
والذي صيغ على النحو التجديدي الآتي:
تحت هَوْدَجها وتعاتبنا... صار سحب سيوف.. يا ويل حالي
ثم ظهر بُعيد ذلك لونُ من القدود عُرف بـ"القد الموشح" والذي نسج على نظام الموشح فنياً لكن بصياغة جديدة بعيدًا عن الموشح الكامل.
نشأتها وديمومتها
يرى الباحث "الفياض" أن السر الكامن وراء تميز واستدامة القدود الحلبية يكمن في البيئة الحلبية التي شكلت بيئةً ثقافيةً خصبةً لولادة هذا اللون الغنائي الجديد الذي بزغ من عبق الحياة الاجتماعية الحلبية، والبعض يقول بأن ديوان الشاعر الحمصي "أمين الجندي" 1766- 1841م أقدم وثيقة تاريخية لنشأة فن القدود، والذي كان مطوراً للموشحات ومجدداً لها وزنا ًوشكلاً ومضموناً، وله طابعٌ خاص وسمة محددة في النظم، فأنتج قدوداً استمدها منه المعاصرون وأخذها المغنون ومن أشهر قدوده بحسب الباحث "الفياض":
عيرتني بالشيب وهو وقارُ ليتها عيرت بما هو عار
ويجد أن القدود التصقت بمدينة "حلب" مهما كان أصلها القديم، وتشربت من عذب مفرداتها، وإن ظهرت بداية في "حمص" ونقلها "أمين الجندي" إلى "حلب" الشهباء، إذ تأثرت آنذاك بالتيار الصوفي، وتأثرت بالمدارس الفكرية الحلبية وأصبحت مدرسة متفردة في مكوناتها وأعلامها.
روّادها
انتشرت القدود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد "أحمد عقيل" الذي قصدهُ أبو "خليل القباني" ليتعلم منهُ ويستفيد من تجربته، وفي النصف الأول من القرن العشرين برز "علي الدرويش" و"عمر البطش" و"صبري مدلل" ثم تابع نشرها وتجديدها الفنان السوري الكبير "صباح فخري".
توثيق "القدود" في كتب
وبحسب الباحث "الفياض" أول من وثق للموسيقا العربية في كتاب هو الطبيب "ميخائيل مشاقة" 1800- 1888م فقد وضع في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بتشجيعٍ من الأمير "بشير الشهابي" كتابه المسمى "الرسالة الشهابية في الصناعة الموسيقية" والذي خصصه لتوثيق الإيقاعات والأنغام الشرقية ومقاماتها وغير ذلك من فنون موسيقية، وبعد نحو ثلاثة عقود أصدر "محمد بن إسماعيل بن عمر شهاب الدين" وهو أحد المهتمين بتوثيق الموشحات العربية كتابهُ الشهير "سفينة الملك ونفيسة الفلك" الذي جمع فيه نصوص الموشحات الرائجة في عصره، وذكر المقامات الموسيقية، وقد أسهم كتابهُ في إنقاذ بعض الموشحات من الاندثار، وفي العام 1895م وضع الشيخ "أبو خليل القباني" 1842- 1902م كتاباً بعنوان "رسالة في ضوابط الأنغام أصولاً وفروعاً".
ملك القدود الراحل "صباح فخري"
من "حلب" التي تُعدُّ عاصمة الموسيقا العربية تطورت "القدود" على يد عميد المدرسة الحلبية "صباح فخري" وحول ذلك يقول الباحث "الفياض": «قادته الصدفة بالتعرف إلى الزعيم الوطني "فخري البارودي" لأن يتتلمذُ على يد رواد عصره في فن الموشحات، ومنهم الشيخ الحلبي "عمر البطش" 1885- 1950 م فأخذ عنه المعارف الموسيقية كلها، كما أخذ عن الشيخ "علي الدرويش"، والشيخ "بكري الكردي"، قبل أن يصبح ملك الغناء الحلبي "القدود" وعميد مدرسة الغناء في العالم العربي، وعلى كاهله تم توثيق وحفظ وإحياء التراث الغنائي العربي المشرقي قرابة ثلثي قرن.
ونذكر أحد المقاطع الغنائية الخالدة التي طالما صدحت بها حنجرة الفنان الراحل "صباح فخري" به:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى خطرت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وقيامه لا تقتليه بحق دين محمد.
تتنوع بين الفصحى والعامية
من جهته يؤكد الموسيقي "مهدي المهدي" أنه في القدود توضع الكلمات على قد اللحن وأنها ألحان قديمة مجهولة المؤلف غالباً ثم تغيرت كلماتها ومنها الكلمات الدينية سواء التراتيل الكنسية أو أناشيد دينية إسلامية ومنها ما استبدل بكلمات أغاني دنيوية على قد اللحن.
ويقول الموسيقي "المهدي": «الفكرة من القدود هي أن يعاد لحن وحيد وتتغير كلماته مع المحافظة على الشكل الأساسي له، وهي ليست فقط حلبية بل يقال أن أول من اكتشفها هو الملحن "أمين الجندي" من "حمص" مع فاصل "اسقي العطاش" بعضها يكون باللغة العامية وبعضها بالفصحى وقدمها "محمد خيري"، "صباح فخري" من أشهرها "يا ما اسعدك صبحية"، كما تعتبر الدلعونة والزوالف "يا أبو الزلف" أحد أشكال القدود التي عاشت مئات السنين ومنتشرة في بلادنا وتغيير كلماتها حسب المحافظة أو المنطقة ويوجد عدة أشكال لها يقال أن أساسها من الحضارات القديمة».
تداخل بين القد والموشح والدور
من أمثلة القدود الفصيحة "يا غزالي كيف عني أبعدوك" و"هيمتني" من فاصل "اسقي العطاش" ومن أشهرها "البلبل نادى" و"هالأسمر اللون" كما لحن الراحل "أبو خليل القباني" لحن "يا طيرة طيري يا حمامة" و"يا مال الشام".
ويرى الموسيقي "المهدي" أن هناك اختلاط وتداخل بين أشكال قوالب الموسيقا العربية الغنائية بين القد والموشح والدور، وهناك مشكلة لها علاقة بالنقل والتوثيق التاريخي قد تكون كلماتها مختلفة عما وصلت إلينا مثل: "يا فاتن الغزلان اسمح وكلمني" جزء منها موشح وجزء يحمل الدور».
ويشير الموسيقي "المهدي" إلى أننا بحاجة لفريق عمل كبير من الباحثين يقوم بالبحث عن هذه القوالب ويعمل على توثيقها وتدوين هذا التراث وتسجيله بالنوطة الموسيقية حفاظاً عليه من الضياع. ويعتبر رحيل "صباح فخري" بمثابة ناقوس خطر لضياع هذا التراث لأنه المطرب الوحيد الذي عمل في عصرنا على توثيقها حيث كان يغني ما سمعه عن أساتذته.
من "حلب" إلى العالم
من المشاركين في احتفالية "القدود الحلبية" للفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية التي أقيمت بدار الأوبرا في السابع عشر من شهر كانون الأول 2021 بمناسبة إدراج "القدود الحلبية" على قائمة التراث الإنساني في اليونيسكو تواصلنا مع الفنان "محمود الحداد" الذي يقول: «نشأت فكرة القدود من ألحان عالمية واختار العرب كلمات عربية وضعوها بعناية على قد اللحن، وأول من ابتدعها مشايخ الطريقة الصوفية وأبرزهم "عبد الغني النابلسي" و"عمر اليافي" وهو أستاذ "أمين الجندي" الأشهر في هذا المجال».
ويعود الفضل بحسب الفنان "الحداد" إلى أهل "حلب" بتسجيل القدود للأجيال القادمة ومنهم "محمد خيري"، "صباح فخري"، "بكري الكردي"، "عمر البطش" لأنهم ساعدوا على تسجيل نسخ منها.
ويبين الفنان "الحداد" أن أغلب العرب اشتغلوا بالقدود ومنهم المطرب "محمد عبد الوهاب" الذي لحن أغنية "يا مسافر وحدك" وهي على الأغلب أرجنتينية أخذ اللحن وأضاف إليه الكلمات باللغة العربية وأضاف في المقطع الأخير لحناً من تأليفه. وكذلك الرحابنة عملوا على القدود ومنها لحن "النشيد الروسي" تغيرت كلماته إلى "كانوا يا حبيبي".
ولحن "قدك المياس" في "سورية" بالأساس هو أغنية تركية وغني في "بيروت" بكلمات "يا ليل الصب متى غده"، وأن الأمثلة كثيرة منها في العصر الحديث أغنية "تبكي الطيور" للمطرب "وائل كفوري" الذي أخذ اللحن التركي ووضع عليه كلام باللغة العربية.
نشير إلى أن وزارة الثقافة أعلنت بتاريخ 16 كانون الأول 2021 إدراج منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونيسكو "القدود الحلبية" على لائحة التراث الإنساني العالمي جزءاً من ثقافة وتراث المجتمع السوري العريق بجهود من قبل "الأمانة السورية للتنمية" التي أعدت الملف وقدمته لها.