يحق لأبناء مدينة حلب الفخر بهذا النوع من التكريم العادل والمنصف لقيمة فنهم الذي حافظوا عليه قبل أكثر من مئة عام بالقدود والموشحات الحلبية مع الموال والإنشاد والمدائح والرقصات المولويّة. لِما لا و"حلب" كانت المركز الثقافي والتجاري ونقطة تلاقي الحضارات في المشرق العربي. ومن أصوات مطربيها وشعرائها وملحنيها انطلقت القصائد المغناة بشكل سلِس وجميل أبهر العالم بهذا النوع من الفن الذي خلده التاريخ.
إذاً هو التكريم الذي اعترفت به أكبر منظمة عالمية تعنى بالعلوم والآداب والفن وأكدت أحقيته كفن أصيل لا مثيل له بين فنون العالم تكريماً لكل روّاده ولروح المطرب الأصيل "صناجة الفن" الراحل صباح فخري.
وبمناسبة هذه الفعالية والتكريم بوضع القدود والموشحات على قائمة التراث الإنساني واللامادي من قبل منظمة "اليونسكو" استطلعت "مدوّنة الموسيقا" آراء بعض الخبرات الفنية والأدبية عن هذا التكريم فحدّثنا الدكتور "محمد البابا" ابن الشاعر الغناني "عمر البابا" وقال: «هو الشعور الفخر والنصر لمدينة "حلب "و"سورية" وجائزة منصفة ومستحقة وتكريم لمدينة الطرب والفن الحلبي الخالدة على مدى العصور، وعندما نستذكر بعض الاغاني الخالدة منها اغنية "أسمك يا شهبا يا شهبا انكتب مجد وحضارة وأدب" كلمات والدي "عمر البابا" وغناء "شادي جميل" وكذلك تطوير أغنية "يا رب يا عالي شوف عبدك" غناء العملاق "صباح فخري"... فمثل هذا النوع من الغناء الخالد يمكن أن يعيش ويسمع حتى مئتي عام، ومدينتنا أنجبت كبار المطربين والملحنين والشعراء الذين غنوا الموشحات والقدود الحلبية على مسارح العالم وسط تصفيق وإعجاب الجميع».
أما الصحفي والموسيقي "طارق بصمة جي" قال: «إن هذا الإنجاز الجديد هو خطوة هامة تُسجل لمدينة عريقة مثل "حلب"، وهو قيمة مضافة لفنها الزاخر بالثقافة والإبداع الفكري، فمدينة "حلب" هي نبض الأدب وأيقونة الطرب، مدينة "بكري الكردي" و"عمر أبو ريشة" و"أبو فراس الحمداني" و"المتنبي" و"صباح فخري" و"صبري مدلل" و"محمد خيري" و"أديب الدايخ"، و"مما لا شك فيه أن محاولات تجديد التراث والقدود عبر إعادة توزيعها موسيقياً هي خطوات جيدة وموفقّة، إلا أن قيام بعض الفرق الموسيقية الشابة، بتغيير اللحن من مقام البيات الشرقي إلى مقام الكرد الغربي يعتبر جريمة في الموروث الثقافي، لأنه من غير المنطقي والمسموح حذف (ربع التون) من مقام البيات، وتحويله إلى مقام آخر، لأن هذا يصبح تحويراً وتزييفاً وليس تجديداً وتطويراً! وهذه الخطوات غير المسؤولة تُسهم بشكل أو بآخر في تغيير حقيقة الموروث ونسفِ روح الموسيقى الشرقية فيه وترسيخها بشكل خاطئ في آذان الجيل الجديد بطريقة مشوّهة وبعيدة عن الواقع الموسيقي الصحيح ».
كما قال مدير قلعة "حلب" والباحث التاريخي "أحمد غريب" لـ"مدونة الموسيقا": «تتنوع الثقافات في مدينة حلب كتنوع الإبداعات المعمارية لمبانيها الخالدة، فمن تجارتها التي جابت أطراف العالم إلى ثقافة مطبخها المتميز، إلا أن ثقافتها الفنية المتمثلة بالقدود والموشحات جعلت منها علامة فارقة وحفر اسمها خالداً في الذاكرة العربية لهذا الفن، وأصبحت القدود الحلبية رمزاً من رموز مدينة "حلب".
وكان هذا الفن فيها قد تطور خلال العهد العثماني لاسيما في أواسط القرن الثامن عشر، وكان للزوايا والتكايا الدور الكبير في تطويره. والقدُّ لغةً هو القدر ويعني المقاس، وقد اشتهرت القدود بأسماء مؤلفيها، وتعتبر الموشحات الأندلسية المصدر والملهم بالإضافة للأناشيد الدينية والموالد والأذكار، ونشأ هذا النوع من الفن التراثي عبر تفاعل "حلب" وعلاقاتها التجارية والثقافية مع دول العالم، وكان له دوراً هاماً وبارزاً في احتضان المدينة للعديد من الفنون الموسيقية الوافدة لها من الأمم الأخرى.
وللموسيقى في "حلب" عدة قوالب، فمن الموشح، إلى الموال، والقصيدة، والدور، إلا أن النمط الموسيقي الأشهر هو القدّ، أما الموال فهو الباب الأوسع للارتجال، ويشتهر في "حلب" الموال السبعاوي ذو الأشطر السبعة.
أما الدور فهو مصري المنشأ وهو تلحين لنصوص باللهجة المصرية، تتخلله آهات وليال وارتجاليات، أما القصيدة فتعتبر ارتجال لحني على أبيات شعر فصيح، أما القدود الأكثر شهرة في الأنماط الموسيقية المعروفة في "حلب" فهي أن يعتمد على أغنية محبوبة فيستبدل كلامها على القد وذلك بتحويله من كلام دنيوي إلى كلام ديني أو العكس.
ويعتبر من أشهر ملحني الموشحات "عمر البطش" و"علي الدرويش" وابنه "نديم" ومن أشهر شعراء الموشحات المتصوف الإشراقي "شهاب الدين السهروردي" والذي أجاد بموشحه (على العقيق اجتمعنا...)، وقد ادخل الحلبيون الكثير من التحسينات على الموشحات الأندلسية وطبعوها بطابعهم وذوقهم حتى باتت تعرف بالموشحات الحلبية، كما أضافوا على غناء الموشحات نوعاً من الرقص عرف بـ"السماح" أو "السماع".
وبرع في أداء القدود عدد من الفنانين أمثال "صبري مدلل" و"صباح فخري" والمنشد "حسن حفار" و"أديب الدايخ"، وغيرهم، ومعظمهم نشأ وذاع صيته عبر فرق الإنشاد والابتهالات الدينية.
ولا يزال هذا النهج الطربي التراثي محافظاً عليه من قبل الفنانين الشباب الذين يتمسكون بأصالة هذا التراث العريق بعيداً عن إغراءات الطرب الهابط.
الفنان التشكيلي "خلدون الأحمد" قال: «أنا كفنان تشكيلي أشعر بالفخر ورفعة الرأس لمثل هذا التكريم للقدود والموشحات من أكبر منظمة تعنى بالتربية وهو تكريم مستحق لكل حلبي وسوري وعربي على أننا أبناء حضارة ورقي وفن جميل ولدينا تاريخنا الذي نباهي به بين شعوب وثقافات العالم ولاشك أن هذا التكريم سيكون حافزاً لباقي الفنون الأخرى للوصول لمثل هذه المرتبة ومنها الفن التشكيلي السوري الذي يبدع في الصالات والمعارض العالمية».
كما إن "حمدي قواف" المهتم بالفن والقدود الحلبية قال: «"حلب" ليست القلعة و"نادي الاتحاد" فقط، بل هناك ركن ثالث هام هو فنها الأصلي، وعندما نذكر "حلب" نسترجع "زرياب"، ولمدينتنا تاريخ طويل مع الحضارة، ومنها انطلق الفن النبيل والأصيل لمشارق ومغارب العالم وكذلك يرجع الفضل لأهالي "حلب" مساهمتهم بحفظ وغناء وتطوير الموشحات والقدود والموال ورقصة السماح، ولاشك أن "حلب" تأثرت بالنغمات التركية والفارسية والأندلسية، وعملت على الاستفادة من هذا النغمات وطورتها قبل أكثر من ١٥٠ عام".
ويقول عبد الخالق قلعة جي مدير إذاعة حلب: يأخذنا الحديث عن التراث إلى بعضٍ من تاريخ "حلب" الشهباء، وما تختزنه من حوامل توجتها مليكة المدن، مازالت تنبض فيها عروق الحياة. آلاف من السنين وحضارات، تعاقبت وانصهرت، فأنبتت تجارة وصناعة وثقافةً وفكراً وفناً، وأوابد أثرية عمارةً شاهدةً على خصوصية هذه المدينة وتألقها وازدهارها واستمرار الحياة فيها.
ويضيف قلعة جي: يأتي إدراج القدود الحلبية على لائحة التراث الإنساني إنجازاً ثقافياً مهماً يضع هذا الموروث العظيم في مكانه الطبيعي اللائق عالمياً بعد الشهرة التي بلغها منذ مئات السنين فناً حلبياً سورياً. نفخر به ونعتز وسع المدى.
المحبة والوفاء لأعلام الغناء والموسيقى في "حلب" الشهباء الرواد الذين أبدعوا وحفظوا واستمروا بهذا اللون الفريد جيلاً بعد آخر، والتقدير لكل الجهود المخلصة التي عملت بكل المحبة لهذا المشروع خطوة أولى باتجاه استكمال مشروع حماية هذا التراث بصمةً حلبيةً سوريةً على لائحة التراث الإنساني.